عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » قسم إداري » كتاب المجلات الثقافية الرقمية » التكاليف المالية + مرحلة الأعداد الفصلية

كتاب: المجلات الثقافية الرقمية

التكاليف المالية + مرحلة الأعداد الفصلية

تجربة عود الند: 2006-2019


موضوعات هذا الجزء

1= مرحلة الأعداد الفصلية

2= التكاليف المالية

3= الفوائد المجنية من تجربة «عود الند»

4= أرشفة المجلات الثقافية الرقمية

مرحلة الأعداد الفصلية

صدر العدد الفصلي الأول بعد شهر فقط من إكمال عشر سنوات من النشر، فلو انتظرت ثلاثة شهور لأصبحت الدورة السنوية للأعداد الفصلية مختلفة عن الشهرية، وقد فضلت أن يظل حساب سنوات الصدور كما كان، أي يبدأ من مطلع حزيران وينتهي مع نهاية أيار من كل عام. ولذا، بدأت الاستراحة من وطأة الصدور الشهري بعد صدور العدد الفصلي الأول.

أول ضحايا الصدور مرة كل ثلاثة شهور هم كاتبات وكتاب النصوص الإبداعية كالقصص والخواطر، فهؤلاء كان لديهم اثنتا عشرة فرصة في السنة لنشر نص، وهذا عدد جيد. ولكن الصدور فصليا عنى أن لديهم أربع فرص فقط لنشر نصوصهم، وهذا لا يلبي طموحاتهم.

أما كاتبات وكتاب الأبحاث الأكاديمية، فلم يؤثر عليهم تحوّل المجلة إلى فصلية، فكتابة بحوث لا تتم بكثافة كتابة القصص، وهم أيضا معتادون على الانتظار سنة قبل أن تنشر بحوثهم في المجلات المحكّمة. ولذا، لم يكن انتظار ثلاثة شهور بالنسبة إليهم فترة طويلة.

بعض كاتبات وكتاب النصوص الإبداعية واصل النشر في «عود الند»، ولكنهم صاروا بحاجة إلى النشر في أماكن أخرى، وهذا أمر طبيعي، ولم يكن أمامهم أي عائق لفعل ذلك حتى أيام الصدور الشهري. ولكن كنت أتمنى دائما ألا يلجأ من يرغب في النشر في مكان آخر إلى بديل يقل جودة عن «عود الند».

واجهت دائما حالات لكاتبات وكتاب يرغبون في نشر نصهم الأول في «عود الند»، ولكني كنت أمتنع عن النشر إذا لم أجد الحد الأدنى الذي يجعلني أنشر نصا. نشر النص الأول يعطي دفعة معنوية كبيرة للكاتب/ة. بعضهم كان يأخذ بملاحظاتي لتحسين النص، فينشر نصه. ولكن بعد نشر النص الأول، يريد الكتابة كما يحلو له، فأرفض النشر، ويعود للنشر حيث لا توجد أي ضوابط جودة.

رغم أن النشر الفصلي يناسب الباحثات والباحثين، إلا أني لم أكن شديد الحماس لنشر الكثير من البحوث على ضوء تجربتي وملاحظاتي عليها، ولذا بدأت أعتذر عن عدم نشر العديد منها. اغتنمت فرصة الصدور الفصلي للتركيز على اختيار مقتطفات من دراسات وتقارير، وهذه الممارسة امتداد لأمر كنت أفعله في الأعداد الشهرية. حرصت على نشر مقتطفات تعزز وجهات النظر البديلة للآراء السائدة (الخطاب المهيمن). على سبيل المثال، نشرت مقتطفا مترجما من دراسة تخالف الرأي السائد بشأن سياسة التقشف الاقتصادي، وتعتبرها سياسة اقتصادية فاشلة، وهذا رأي مخالف لما تقوله الحكومات وخبراء المؤسسات المالية الدولية.

في العدد الفصلي الثاني (خريف 2016) نشرت ملخص ورقة منشورة في «المجلة البريطانية لدراسات الشرق الأوسط»، من تأليف جيسيكا لي دويل، تعتبر عمل بعض منظمات المجتمع المدني خيارا أيديولوجيا، جاء فيها: «استنتاجات الورقة تؤيد بصورة عامة وجهة النظر التي تؤكد أن منظمات المجتمع المدني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تسهل مصالح النخبة أكثر مما تسهل مصالح المواطنين العاديين، والديمقراطية بشكل عام». انظر/ي الفصل الخاص بالملفات.

حاليا لدي اهتمام بالرجوع إلى أرشيف المجلات القديمة مثل «الآداب» و«الكرمل» و«شؤون فلسطينية» للاطلاع على ما اهتمت به من قضايا في البدايات، واستكشاف مدى الاختلاف بين اهتماماتها في الماضي، والمسائل التي يهتم بها أهل الثقافة في هذه الأيام. ويعينني الاطلاع على الأعداد القديمة على تبين مدى تطور مواقف الأشخاص والمجلات. وكلما وجدت مادة تتعامل بالأسلوب النقدي المتوقع من الناقد والمثقف مع الأعمال الأدبية والأدباء، أحرص على اختيار مقتطف منها.

ناقشت في فصل سابق مسألة معايير الحكم على رقي المجلات الثقافية. وأود العودة إليه في هذا الفصل للتوسع في تسليط الضوء على المسألة. الاطلاع على أرشيف مجلة «الآداب» بيّن لي أن الاختلاف على تقييم ما هو جيد ورديء قديم ومتكرر، واختلف على التقييم أسماء كانت ولا تزال مشهورة. تهاجم «الآداب» في العدد السابع (7/1961) صراحة الشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس) وزملاءه في مجلة «شعـر».

قد تبدو القضية التي نعالجها هنا اليوم قضية خاصة. ولكنها في حقيقتها قضية عامة، لأنها تتناول بعض أوضاع أدبية في لبنان لا يمكن فصلها عن الوضع الثقافي والفكري العام. وقد سبق «للآداب» أن تناولت الموضوع في أعداد سابقة، وهو موضوع مجلة «شعر» والمشرفين عليها، هذه المجلة التي تتظاهر بغير ما تبطن، وتدعي غير ما هو حقيقتها، ثم لا تجد حرجا في اتهام غيرها بأنهم يزوّرون ويدلسون.

ففي عددها الأخير، نشرت رسالة وافاها بها من باريس مدير تحريرها «أدونيس» قدمت لها بهذه العبارة: «على أثر صدور «قصائد في الأربعين» ليوسف الخال، وكشف «الآداب» عن وجهها الحقيقي، كتب أدونيس هذه الرسالة من باريس».

ولا بد للقارئ من أن يتساءل: متى قنّعت «الآداب» وجهها؟ وما يدفعها إلى التقنع، هي ذات العقيدة السافرة كالشمس، الصريحة كالحق، عقيدة العربية التقدمية؟ وهل أوجد «الآداب» غير هذه العقيدة التي لها في نفوس معتنقيها قداسة الإيمان وجبرية القدر؟» (ص 1).

عدت إلى أعداد مجلة «شعـر» المتوفرة في أرشيف المجلات العربية في موقع (archive.alsharekh.org) للاطلاع على رسالة أدونيس المذكورة أعلاه. ولكني لم أجدها في أي من أعداد عام 1961. أرجح أن خطأ قد حدث أثناء أرشفة الأعداد إلكترونيا، إذ لا يعقل أن تكتب «الآداب» افتتاحية بشأن محتوى الرسالة وتشير إلى العدد الذي نشرت فيه («شعر»، العدد 18، ربيع 1961). مما له صلة بموضوع النقاش أن «الآداب» طلبت من أدونيس وغيره من «كبار ممثلي الشعر الحديث» الكتابة عن تجربتهم الشعرية، ونشرت رد أدونيس في عددها الثالث (3/1966).

الصدور فصليا وفر لدي الوقت لإصدار العدد بصيغة بي دي اف، ويكون ذلك بعد أيام من صدور العدد في موقع المجلة. طلبت من الزميلات والزملاء أن يخبروني أي الصيغتين يفضلون، فكان الإجماع على أن الصيغة النصية هي الأفضل لأنها تمكنهم من التفاعل معها بالتعليق عليها في الموقع، وهذا غير ممكن في نسخة بي دي اف. رغم ذلك، واصلت إصدار الأعداد الفصلية بصيغة بي دي اف، وهكذا تكون صفة المجلة الرقمية منطبقة تماما على «عود الند»، علما بأن هذه الصيغة معتمدة لدى مجلات لا يمكن مطالعتها إلا مقابل رسم اشتراك.


التكاليف المالية

في حال رغبة أحد في تأسيس موقع، ما هي التكاليف التي عليه تكبدها؟ في أول بضع سنوات من صدور «عود الند»، كانت التكاليف المباشرة لإصدار المجلة في حدود مئة دولار في السنة، قسم منها كلفة تسجيل النطاق كل سنة، وهذا يكون في حدود عشرين دولارا سنويا. القسم الآخر هو كلفة استضافة محتويات الموقع لدى شركة استضافة. وهذه تختلف من شركة استضافة إلى أخرى، وتعتمد على المزايا المعروضة في خيارات الاستضافة.

كنت دائما أبحث عن استضافة منخفضة الكلفة. أرخص المتوفر هو الاستضافة المشتركة، وهذه شائعة جدا، أي أن تضع شركة الاستضافة أكبر عدد ممكن من المواقع على خادم الاستضافة الواحد. لا أظن أن كلفة الاستضافة تجاوزت مئة دولار في السنة إلا بعد قراري التخلي عن الاستضافة المشتركة، واستئجار خادم افتراضي (VPS) خاص بموقع المجلة.

لعام أو نحو ذلك، لم أكن بحاجة لدفع تكاليف استضافة، وكان ذلك عندما عرضت سيدة الأعمال السعودية، صالحة الدغيلبي، استضافة موقع المجلة على خادم خاص بها، وهي كانت من محبي الأدب والثقافة، وفي الوقت نفسه تخصصت في تلك المرحلة بتصميم المواقع والبرمجة وإصلاح أجهزة الحاسوب، وفعلت ذلك بجهود ذاتية، فتخصصها الدراسي كان الجغرافية. وكان تعارفنا نشأ أثناء عملي في الإذاعة، إذ كانت تتابع البرامج، وأرسلت لي هدية من قطعتين إحداهما قارورة «عود» وأخرى مجسم صغير لختم «محمد رسول الله» الموجود في متحف تركي.

نقلت موقع «عود الند» إلى شركة استضافة في وقت لاحق بعد أن واجه الخادم مشكلات أدت إلى احتجاب الموقع. وكنت دائما حريصا على وجود الموقع بصورة دائمة، وكلما شعرت بوجود تقصير من جهة شركة الاستضافة، كنت أنتقل إلى أخرى أفضل.

هناك تكاليف أخرى غير مباشرة، فإدارة موقع لا يمكن أن يتم دون استخدام حاسوب وخدمة إنترنت. يضاف إلى ذلك نسبة من استهلاك البيت من الكهرباء، وكلفة بعض الاتصالات الهاتفية، ولكن هذه قليلة لوجود وسائل اتصال صوتية باستخدام الإنترنت.

بعد نمو «عود الند» المطّـرد، أصبحت الاستضافة المشتركة خيارا غير مناسب لها، فهذا النوع من الاستضافة يعني وجود قيود على عدد الزيارات. ولذا وجدت أن استئجار خادم افتراضي يكون خاصا بالمجلة هو أنسب الخيارات رغم الفارق الكبير بين الكلفة السنوية للاستضافة المشتركة والخادم الخاص. في هذه الحال من الممكن أن ترتفع الكلفة السنوية إلى 400 دولار سنويا.

كل هذه المبالغ دفعتها من مال جنيته بجهودي وعرق الجبين، ولم تحصل «عود الند» على فلس واحد من شخص أو مؤسسة. وهي أيضا لم تطرق أبواب المؤسسات التي تقدم تمويلا للمشاريع الثقافية. كذلك لم أسع إلى الحصول على دخل لتمويل المجلة أو لي من خلال إعلانات، والمجلة لا تنشر إعلانات على أي حال، وهذا ضمن تصوري لما يجب أن تكون عليه «عود الند»، فهي مجلة لخدمة الثقافة، وليس خدمة الثقافة وجني المال في الوقت نفسه.

التمسك بعدم السعي إلى الحصول على مورد مالي من نتائجه عدم المقدرة على تطوير المجلة أكثر مما يمكنني عمله بجهودي الشخصية. دون مال، لا يمكنك الاستعانة بمصمم أو بمدير موقع، وهكذا تتعدد المسؤوليات عليك، فلا تكون محررا فقط، بل عليك تطوير بعض المهارات ليمكن التعامل مع مشكلات تواجهها كل المواقع من حين لآخر. وطبعا لو توفر مال، وتم تقديم مكافأة مالية مقابل الكتابة لاستطاعت «عود الند» أن تجذب أسماء مشهورة. ولكن لو فعلت «عود الند» ذلك، لكانت كغيرها من المجلات التي تكون منبرا نخبويا، وليس المنبر البديل المفتوح لكل المواهب دون معرفة مسبقة.

هناك كلفة أخرى تغيب عن أذهان الناس بسهولة، وهي كلفة جهدي الشخصي في إصدار المجلة سنة بعد سنة. راتبي السنوي أيام العمل في الإذاعة كان حوالي خمسين ألف دولار. درجة وظيفتي كمنتج كانت في بداية السلم الوظيفي، وهي لا تعكس بالتالي الدرجة الوظيفة التي يحصل عليها رئيس تحرير مجلة تصدرها مؤسسة، فهذا سيكون لديه مكتب وهاتف وسكرتيرة ولديه من يطبع ويصمم. وفوق كل ذلك، راتبه سيكون أفضل من راتب منتج إذاعي في أول السلم الوظيفي. وهذا أيضا يحصل على إجازة سنوية. ولكني سأحسب الكلفة على أساس الراتب الذي كنت أتلقاه، وهو خمسون ألف دولار سنويا طيلة حوالي ثلاثة عشر عاما حتى الآن.

على أساس آخر راتب أثناء العمل في الإذاعة، تعادل تكاليف جهدي الشخصي في إصدار «عود الند» 650000 (ستمئة وخمسين ألف دولار) على مدى ثلاثة عشر عاما. لو قدم رجل أعمال تبرعا لمشروع ثقافي مقداره مئة ألف دولار، لك أن تتخيل مدى المديح الذي سيحصل عليه في وسائل الإعلام. لو تبرع أمير أو شيخ أو ثري بنصف مليون دولار لظل يحصل على مديح مدى الحياة. أما أن يكون التبرع لمبادرة ثقافية بجهود شخصية تفوق قيمتها المالية نصف مليون دولار فأمر لا يريد أحد أن يحس به ويقدره حق قدره. وهذا يقول شيئا سلبيا عن مدى الإنصاف والتقدير في تعاملنا مع الناس وتقييمنا للأمور. ولكن في الوقت نفسه، دعك من هذا، وأرح ضميرك عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة. تذكر أن الحافز الذاتي وقناعاتي الشخصية هي التي حركتني، ولا تزال. هناك أناس يتصرفون وفق مصالحهم، وآخرون حسب طبيعتهم. أنا من الفئة الثانية.

وهكذا، إذا كان يهمك عدم ارتباط الثقافة بالمال والتمويل، أو أن تكون في خدمة السياسة كلّما طلبت ذلك المؤسسة الرسمية الراعية، فلن يمكنك أن تجد منبرا على درجة من الاستقلال الذي تتمتع به «عود الند»، إلا إذا أصدرت بنفسك مجلة مثلها وضمن نفس المعايير التي التزمت بها «عود الند».


الفوائد المجنية من تجربة «عود الند»

هل كان لنشر «عود الند» فوائد؟ الإجابة القصيرة هي نعم بالتأكيد، لها فوائد عديدة، ولا أقصد فائدة مادية. فما هي الفوائد؟

من الظواهر المألوفة استخدام الإنسان لدرجاته العلمية وخبراته المهنية في تحقيق أقصى ما يمكن من مصالح شخصية، كالمنصب الراقي، والراتب المرتفع، وفوقهما شهرة. في حالة «عود الند»، تم وضع كل ما لدي من مؤهلات أكاديمية وخبرات مهنية وتجربة في الحياة لخدمة مبادرة ثقافية أطلقت على أساس غير تجاري، والمستفيدون منها هم الذين يكتبون فيها أولا، ثم من يقرأ ما ينشر للمتعة أو بحثا عن معلومة.

تؤكد مبادرة تأسيس «عود الند» أهمية المبادرات الفردية والعمل الطوعي، فبدل الانتظار إلى أن تقوم الحكومة في بلدك بإطلاق مبادرة تلبي لك بعض احتياجاتك، أو تحقق بعض رغباتك، بوسع مبادرة فردية أو جماعية أن تحقق الهدف نفسه. ولا يقل أهمية عن المبادرة الفردية الالتزام بتنفيذها فترة زمنية طويلة. جميل مثلا أن تقوم بمبادرة فردية في أحد الأعوام بتوزيع حقائب مدرسية على طالبات وطلاب المناطق الفقيرة. ولكن الأفضل من ذلك، أن تلتزم بذلك سنويا لفترة زمنية معقولة. هناك الكثير من المبادرات التي نسمع عنها مرة واحدة. ويبدو أن الكثير من المبادرات يتم للحصول على تغطية إعلامية. على سبيل المثال، ما معنى أن تنشر صحيفة خبرا عن نشاط في يوم اللغة العربية، ولا تنشر خبرا عن صدور أعداد مجلة ثقافية تخدم اللغة العربية كل يوم منذ نحو ثلاثة عشر عاما؟

كان تأسيس مجلة «عود الند» خدمة للثقافة للإيمان بأهميتها، وبأنها عامل تقريب بين أناس مختلفين حول أمور أخرى، وعلى رأسها السياسة والدين. إنني على يقين من أن بعض الكاتبات والكتاب في «عود الند» ما كان لهم أن يصبحوا أصدقاء لو كانت بداية تعارفهم قراءة مقالات سياسية ودينية. ولو حدث ذلك، لكان زاد عدد المختلفين والمتنازعين بسب اختلاف وجهات النظر السياسية والدينية. عندما وضعت العصبيات جانبا لبعض الوقت، وتم تذوق ما يكتبه الآخرون خارج أطر السياسة والدين، أعجب بعض بما كتبه بعض آخر. بداية الصداقات كانت بتعليق على نص، وتدريجيا نشأت صداقات وتوطدت بين أشخاص يقيمون في دول عربية مختلفة. ونتيجة لذلك، لم يعد يفرقهم الاختلاف في وجهات النظر السياسية أو الانتماء الديني.

استفاد من «عود الند» جمهور محب للغة العربية منتشر في الدول العربية والمهجر. وتم ذلك دون تمييز على أساس الجنس أو الجنسية أو العرق أو العمر. ولم ينشر في المجلة أي موضوع فيه إساءة إلى دين أو معتقدات أو عنصر بشري، أو للنساء بشكل عام. وبالتالي خلت المجلة من الصور النمطية التي ترسم للشعوب أو الفئات العرقية أو خلافه.

يجسد تأسيس «عود الند» مثال الثقافة المستقلة، فالمجلة ليست تابعة لمؤسسة حكومية، أو شركة تجارية، وبالتالي اعتبارات النشر فيها لا تشمل إرضاء الحكومة والمسؤولين فيها، أو الحصول على إعلانات، أو بيع أكبر عدد ممكن من أعداد المجلة. عندما تكتب في مجلة أو صحيفة وتتجاهل ارتباطها بمؤسسة حكومية أو ممول، لأنك تحصل على مقابل مادي من النشر فيها، فإن هذا يهز الثقة بقناعاتك الفكرية عندما تقدم نفسك للجمهور بصفتك مثقفا يساريا وتقدميا، ولكن المنبر الذي تنشر فيه غير تابع لجهة تتبنى هذه الأفكار.

يمثل عدم سعي «عود الند» إلى الحصول على تمويل من أحد، بما في ذلك الإعلانات، رفضا لمبدأ التمويل، وللعقلية التجارية القائمة على تشجيع الاستهلاك. ستقول لي إن المال ضروري للتطوير، ولكن هذه ذريعة. ليس ضروريا أن تعتمد المبادرات الثقافية على مبان ومكاتب ضخمة وطاقم كبير من الموظفين. هناك آلاف من المثقفين وضعهم المالي أفضل من وضعي بكثير. وبوسعهم تأسيس مبادرات ثقافية باستخدام مواردهم الذاتية، فتكاليف موقع مجلة «عود الند» واستضافته أقل من ألف دولار سنويا. وهذا المبلغ يمكن توفيره بالاستغناء عن تناول القهوة في فروع محلات بيع القهوة الأجنبية. الأهم من الألف دولار أن تشمر عن ساعديك، وتشارك في تنفيذ مبادرة ينتفع منها الآخرون.

تقدر «عود الند» عاليا النموذج المعتمد على نشر المعرفة دون مقابل. يسعدني وكثيرين غيري وجود برامج حاسوب مجانية، ومصادر معرفية مفتوحة. وخير تجسيد للإعجاب بهذا النموذج في تبينه أيضا. «عود الند» تجسد هذا النموذج المعرفي، فكل ما فيها من مواد مفتوح للاطلاع عليه دائما.

وتجسد «عود الند» أيضا حكمة أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام. لقد كشفت الإنترنت مدى الضعف في إتقان اللغة العربية. ولكن بدل أن أضع نفسي في برج عاجي، وأنضم لكل من يهجو الأشعار والنصوص الرديئة المنشورة في المواقع المختلفة، قررت نشر مجلة لعمل شيء إيجابي للمساعدة على تغيير الواقع الرديء. ينسب للكاتب الروسي ليو تولستوي قوله ما معناه إن كل إنسان يفكر دائما بتغيير العالم، بدل أن يغير الإنسان نفسه.

تخيل/ي معي وجود مئة مجلة ثقافية تعمل وفق المبادئ التي تسير «عود الند» على هديها. قد تقول: هل يمكن نجاح مئة مجلة في وقت واحد؟ ردي هو نعم، ممكن جدا. جزء من المشكلة عدم توفر منابر راقية كافية. تعدد المنابر الثقافية في العصر الورقي لم يكن سهلا كما هو الآن في العصر الرقمي. ولكن طالما ظل تأسيس المبادرات مرتبطا بتحقيق منافع للمؤسسين، لن تجد مئة مجلة ذات محتوى راق ومفتوحة دائما، وتنشر وفق سياسة نشر معلنة وواضحة، ويهمها النص أكثر من اسم الكاتب/ة واللقب العلمي أو الوظيفي.

ولكن الأهم من ذلك كله هو ضرورة توفر الحرية في الدول العربية. لو تأسست «عود الند» في دولة عربية لتوفرت لها مقومات نجاح كثيرة، منها زيادة فرص تكوين فريق محلي يدير شؤونها، وتحقيق شهرة محلية بسرعة تجعل الكثيرين من كاتبات وكتاب البلد يقبلون على النشر فيها. ولكن مقابل مقومات النجاح هذه، هناك عراقيل محتملة أيضا، أولها القيود القانونية، مثل الحصول على ترخيص وارتباط ذلك بوجود مقر وحد أدنى من الصحفيين، وما شابه ذلك من متطلبات قانونية هي في حقيقة الأمر قيود على الحرية والإبداع، ومبرر يمكن استخدامه في الوقت الذي تراه السلطات مناسبا لإجهاض المشروع.

لأني أعيش في لندن، تمكنت من إصدار «عود الند» والحصول على رقم تصنيف دولي للمجلة (ISSN)، ولا تزال المجلة مستمرة في الصدور دون الحاجة إلى تقديم طلب ترخيص، أو امتلاك مقر، أو توظيف رئيس تحرير، أو غير ذلك من أمور. ثم بعد كل هذا تريد أن تتغنى أمامي، وتريدني أن أتغنى معك، بأن زعيم دولتك راعي الحرية والإبداع.


أرشفة المجلات الثقافية الرقمية

ثمة قضية تستحق الإشارة إليها، وهي مصير ما ينشر رقميا منذ بدء انتشار الإنترنت وتحولها إلى ميدان النشر الجديد في كل المجالات. الكثير من المواقع التي أنشئت في الماضي ذهبت ومعها محتوياتها، فأي موقع في الإنترنت يظل موجودا طالما بقي هناك شخص يتابع شؤونه، فيجدد نطاقه، والاستضافة، ويعالج ما قد يحدث من أخطاء تقنية تؤدي إلى احتجاب الموقع.

موقع مجلة «عود الند»، والحمد لله، لا يزال محتفظا بكل مواد 120 عددا شهريا، واثني عشر عددا فصليا (حتى وقت صدور هذا الكتاب). وبخلاف المجلات الورقية التي صدرت في الماضي، لا توجد نسخة من أعداد «عود الند» في مكتبة وطنية أو جامعية. فماذا سيكون مصير هذه الأعداد في المستقبل؟

إذا لم يواصل أحد متابعة الإشراف على موقع المجلة، سيكون المصير اختفاء الموقع وما فيه من مواد. وسيحدث ذلك فور انتهاء فترة تجديد النطاق والاستضافة بعد توقفي عن ذلك، فلن أعيش أكثر مما يعيش بقية البشر.

لتفادي ضياع هذه الثروة المعرفية والإبداعية في المستقبل بمجرد ضغط موظف لدى شركة الاستضافة على زر المؤشر (الماوس) لحذف الموقع، فكرت في بعض الحلول، منها وضع أعداد المجلة على سيديهات، وتقديمها هدية إلى بعض المكتبات.

طريقة إصدار «عود الند» اليدوية القديمة، هي الأسهل للأرشفة، فهي لا تعتمد على برنامج إدارة محتوى، أما طريقة الإعداد الحالية، المعتمدة على برنامج إدارة محتوى، فتعني أن تصفح المجلة مرتبط أيضا ببرنامج المحتوى، ودونه لن يمكن تصفح محتوى المجلة مثلما يمكن تصفحها وهي على الموقع. سيمكن تصفح قاعدة البيانات، ولكن هذا الملف لن يكون جذابا، كما هي المواد في موقع المجلة حاليا.

من الأفكار الأخرى أيضا نسخ الموقع باستخدام برامج خاصة تنتج نسخة منه بصيغة اتش تي ام ال (html).

بعد ضياع الكثير من المحتوى الإلكتروني بسبب إغلاق المواقع، تنبه أفراد ومؤسسات إلى ضرورة أرشفة المحتوى الإلكتروني، تماما مثلما كانت المكتبات الوطنية (ولا تزال) تحتفظ بنسخة من كل ما يطبع في البلاد.

وبدأت المكتبة البريطانية تؤرشف المواقع البريطانية، ولكنها حاليا لا تؤرشف كل المواقع، ويمكن التوصية بأرشفة موقع ما، وفي حالة «عود الند» لم تؤد التوصية بأرشفة موقعها إلى تحقق ذلك حتى الآن.

هناك موقع أميركي (archive.org) روج لفكرة أرشفة ما ينشر على الإنترنت. وبدأ بأرشفة المحتوى الرقمي في عام 1996، أي قبل صدور «عود الند» بعشر سنوات. أسس المشروع بروستر كيل (Brewster Kahle). ويدعو الموقع سنويا إلى تلقي تبرعات، ويتمكن من الحصول على مليون دولار. وخلافا لعقلية عدم التشجيع على المبادرة بالتساؤل: ماذا تستفيد؟ يجد هذا الرجل من يمكنه من تنفيذ فكرة تبدو صعبة التحقيق في البداية، ولكن بعد حين يدرك الكثيرون أهميتها. والدليل على ذلك أن هذا الموقع فيه الكثير من المواد العربية التي حوّلت إلى صيغة رقمية.

خصص هذا الموقع خيار أرشفة صفحات لكل من يرغب في ذلك. وحرصت، منذ اكتشافه في عام 2006، على أرشفة بعض صفحات كل عدد، وأختار عادة صفحة الغلاف وافتتاحية العدد. ولكن هذه الأرشفة جزئية، وأتمنى حدوث أرشفة كاملة لكل ما نشرته «عود الند»، وأن يكون المحتوى متوفرا في المستقبل أسوة بالمجلات الورقية الموجودة في بعض المكتبات حتى يومنا هذا.

للأسف لا توجد هيئة عربية تقوم بأرشفة المحتوى العربي، مثلما يفعل موقع (archive.org)، ولعل أحدا ينتبه إلى أهمية ذلك، ويؤسس أرشيفا عربيا. إن بقاء المواد المنشورة في «عود الند» متوفرة في المستقبل مرتبط بوجود من يرعى موقع المجلة، وهذا يعني تجديد تسجيل النطاق والاستضافة، وحل المشكلات التي تؤدي إلى احتجاب الموقع، فالبرامج المستخدمة في الحاسوب والإنترنت يجري تحديثها دائما، وتؤدي التحديثات أحيانا إلى حصول خلل. البديل الآخر لبقاء محتوى «عود الند» متاحا في المستقبل هو أرشفته والاحتفاظ به لدى جهات كالمكتبة البريطانية أو (archive.org)، أو غيرهما. وحبذا لو ظهر موقع عربي متخصص بأرشفة المحتوى العربي في الإنترنت.


الهواري، عدلي. المجلات الثقافية الرقمية: تجربة عود الند 2006-2019. لندن: دار عود الند، 2019.

JPEG - 23 كيليبايت
غلاف كتاب عدلي الهواري
D 1 حزيران (يونيو) 2020     A إصدارات عود الند     C 0 تعليقات