عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

لطفي بنصر - تونس

مات أبو الهول


لطفي بنصرمات أبو الهول، الشيخ التسعيني صاحب الملامح المحنطة والنظرة القاسية.

منذ عرفت عم "أبو الهول" لم أر ابتسامة تزين محياه ولا سمعت ضحكة تبدد جفاف السنين الذي استوطن وجهه الأسمر الخشن.

رحمه الله وجمعه بابنه الوحيد الذي ودعه منذ عشرات السنين وداعا "تراجيديا" قاسيا. سر تجهم الشيخ كامن هناك، حيث توقف التاريخ وتجمدت الحياة: ذلك اليوم الشتوي الحزين نهاية الستينيات من القرن الماضي.

كان لعم عمر أو "أبو الهول" كما يعرفه الناس هنا ولد وحيد كتب الله له النجاة في وقت كانت وفيات الرضع في أعلى مستوياتها بداية الخمسينيات من القرن الماضي.

لم يبق لعم عمر إلا ولد وثلاث بنات. حرص على تربية ولده الوحيد "تربية خشنة" حيث كان العرف آنذاك أن الشدة تصنع الرجال، فنشأ ابنه في ظل خوف وحذر متواصل من إثارة غضب والده.

في سن السابعة عشرة قرر الوالد إرسال ابنه إلى العاصمة قصد البحث عن عمل لمساعدته على تحمل مشاق الحياة.

ذهب الابن إلى العاصمة. وبعد عناء شديد ومبيت في الشوارع، كفله أحد أبناء الجهة من المقيمين في العاصمة وعلمه الخياطة في مشغله مدة من الزمن قبل أن يبدأ في العمل معه.

كان والده في انتظار ما سيرسله ابنه له من مال. طال انتظار الوالد الذي لم يظفر بما كان ينتظر من خير خصوصا بعد سماعه بخبر عمل ابنه في مشغل الخياطة.

قرر عم عمر أن يسافر إلى تونس العاصمة ليرى ما يفعله ابنه هناك في ظل انعدام وسائل الاتصال عدا الرسائل.

وصل هناك في يوم شتوي بارد ودخل ورشة الخياطة. كان ابنه مراهقا في السابعة عشر من عمره.

تمكن في فترة مكوثه بعيدا عن والده القاسي من التحرر من سلطان التقاليد، فلبس من موضة الستينيات وتعامل مع الحياة كما أقرانه.

ولج الوالد الورشة والشرر يتطاير من عينيه باحثا عن ابنه. ولما وقعت عيناه عليه كال له من السباب والشتائم وأهانه بقسوة أمام رفاقه في المشغل من شباب وفتيات. لم يستطع أن ينبس ببنت شفة أمام والده.

حبس المراهق غضبه وألمه ووجعه ودموعه بعد أن حطم أبوه صورته أمام أصحابه. سمع ضحكات مكتومة وهمسات ساخرة. خرج الأب تارك ابنه حطاما.

بعد عودة الأب إلى قريته جاءهم نبأ انتحار الابن. نبأ نزل كالصاعقة على العم عمر. قتل الابن نفسه حسرة وكمدا وهروبا من حالة الانكسار والتدمير النفسي الذي مارسه عليه والده. مات ابنه الوحيد برصاص أُطلق من شفتيه ونار صُبت من لسانه.

منذ ذلك اليوم تجمدت مشاعر عم عمر وطبع الوجوم محياه وتوقفت الحياة.

حتى بعد سنة من الواقعة لم يفلح خبر إنهاء التعاضد سنة 1969 في تخفيف وقع الصدمة عليه.

تتالت السنوات ومات من مات، وتزوجت بناته وتتالى مقدم أحفاده والرجل ميت-حي.

مات أبو الهول تاركا في صندوقه الخشبي القديم باهت الألوان صورة بالأبيض والأسود لابنه ورسالة وحيدة منه وسبحة وكثير من الغبار.

D 1 آذار (مارس) 2020     A لطفي بنصر     C 1 تعليقات