عــــــود الـــنـــــــد

لاحظت في السنوات القليلة الماضية زيادة في إطلاق مبادرات ثقافية، تكون أحيانا على شكل صالون أدبي، وفي أحيان أخرى يكون هناك هيئة تعمل على تنظيم نشاطات ثقافية. هذه ظاهرة مشجعة، لأنها تبقي شعلة الثقافة متقدة في عصر الاستهلاك والتقنيات المعتمدة على التسلية والترفيه، وتشجع أصحاب المواهب، وتوفر منبرا للمهتمات والمهتمين بالشأن الثقافي، وغير ذلك كثير.

ولكن لدي ملاحظات تجعلني أخشى أن تكون هذه الظاهرة محدودة التأثير في دور الارتقاء بالثقافة. وأعتبر الأمور التالية من الضمانات المهمة للقيام بدور ثقافي راق.

أولا، ألا تكون الغاية تجارية. ذات مرة علمت بوجود مبادرة ثقافية تستهدف الشابات والشباب، فاستبشرت خيرا بها. وبعد شهور اطلعت على كتاب جمعت فيه كتابات المشاركات والمشاركين في المبادرة، فصدمني وجود نصوص فيها "أنتي" و"كنتي".

وعلمت أيضا أن الكتاب صدر بعد دفع مبلغ من كل من له نص فيه. ليس للجهة الراعية للمبادرة عذر في طبع كتاب فيه أخطاء من هذا النوع، وينتفي العذر تماما بعد جمع كلفة طباعة الكتاب من المشاركات والمشاركين.

هذه الحادثة جعلتني أشك أن الغاية من هذه المبادرة مادية، وإن أظهرت خلاف ذلك. لا يعقل أن تهمل مبادرة لخدمة الثقافة تطوير المقدرة على الكتابة السليمة.

ثانيا، ألا تكون هذه المبادرات جمعيات لتبادل الإعجاب. التشجيع والتكريم أمران مهمان لأنهما حافزان على الاستمرار في الإبداع والتطور. ولكن تأسيس مبادرات ثقافية يكون من فيها أعضاء في الأخرى لا تعكس تنوعا في المبادرات الثقافية، ولا في اتساع دائرة وصولها إلى المهتمات والمهتمين بالشأن الثقافي. وعندما يكون التكريم جزءا من النشاطات، تتجه هذه الجمعيات نحو التحول من مبادرات لخدمة ونشر الثقافة، إلى مبادرات لتبادل الإعجاب.

وفي مجال التكريم، ليس كل ما يوصف بالتكريم هو كذلك حقا. هل حصولك على وسام إلكتروني عليه صورة مدير الجهة المانحة، واسم المصمم/ة تكريم حقا؟ هل الحصول على بطاقة عضوية من جهات تطلق على نفسها أسماء مختلفة تكريم حقا؟ هل الحصول على رسالة موافقة على نشر بحثك في مجلة محكّمة تكريم أيضا؟ في كل الحالات الإجابة "لا" من وجهة نظري. أنت كمثقف/ة أوعى من شراء هذه الأوهام.

ثالثا، أن تكون المبادرات مستقلة ماليا. الحصول على تمويل يؤثر على ما تهتم به المبادرة الثقافية. لنا في منظمات المجتمع المدني مثال جيد على أن الممّول يحدد الموضوعات التي تهتم بها المنظمات، وتسكت عن موضوعات جديرة بالاهتمام بها وأخذ موقف نحوها. الاستثناء لمسألة التمويل هي الحصول عليه من هيئة رسمية داخل البلد، كوزارة الثقافة مثلا. وهذا الاستثناء راجع إلى الاعتراف بأن تنظيم النشاطات يترتب عليه تكاليف مالية، ولا بد من تغطيتها للتمكن من مواصلة تنظيم النشاطات.

الوجه الآخر للاستقلال هو ترك مسافة مناسبة بين الجمعية الثقافية والهيئات الرسمية. إن لف الجسم بعلم البلاد مثلا لا مبرر له في نشاط ثقافي والبلاد ليست معرضة لخطر خارجي وغير ذلك من أمور تبرر التعبير بأشكال مختلفة عن الاعتزاز بالوطن والهوية الوطنية.

رابعا، المبادرات الثقافية يجب ألا تكون شكلا من أشكال بناء وجاهة اجتماعية، ولذا الأعضاء فيها يجب أن يتعاموا معا كأناس لا تراتبية بينهم، سواء أكان ذلك على أساس المركز الاجتماعي أم الدرجة العلمية.

خامسا، المبادرات الثقافية أيضا يجب أن تكون في أيد كفؤة، فلو أسستَ جمعية تعنى بالشعر ولم تكن شاعرا يعتد بشعره، سيكون أثر هذه المبادرة سلبيا.

سادسا، الثقافة ليست فقط إلقاء قصائد وقراءة قصص قصيرة. لا بد من تطوير التفكير النقدي الذي لا يتقبل الأمور دون تمحيص.

سابعا، لا فائدة ترجى من كونك مثقفا إذا لم تكن أيضا متحليا بالمقدرة على التعامل الدمث مع الآخرين. ساكنو الأبراج العاجية كثر. لا تجعل/ي طموحك بناء برج عاجي لك.