زكي شيرخان - السويد
في محطة قطار
عند الطرف الأيمن من المصطبة الخشبية جلس، لاصقا رجليه ببعضهما، داحسا كفيه بينهما، حانيا جذعه، ساندا ذقنه بصدره. غطى رأسه بقلنسوة بلوزته عديمة الأكمام. بدا بجسمه الرشيق، وعضلات ساعده وزنده في عز شبابه. الطرف الأيسر تشغله فتاة أنيقة الملبس، بشعر كستنائي تهفهفه الريح على جانبي وجهها. تضع على عينيها نظارة كبيرة معتمة.
= عفوا، هل أنت نائم؟
أجابها بالنفي بما يشبه الهمهمة دون أن يرفع رأسه.
= كم الساعة الآن؟
= لا تتوقعي أن تعطيك الساعة المعلّقة أمامك الوقت الصحيح. هي إحدى ساعات جنون دالي.
= تقصد سلفادور دالي في لوحته المشهورة "إصرار الذاكرة"، أليس هذا اسمها؟
رفع رأسه، حرر كفيه من محبسهما، دفع رأسه إلى الوراء فانحسرت القلنسوة. أزاح خصلات شعره الطويل عن عينيه، ودفع بها نحو الخلف. استدار نحوها.
= يا إلهي! كم جميلة أنتِ؟ حسنا سأُعينكِ على معرفة الوقت، فلم أكن أعرف أنك عمياء.
= لستُ عمياء.
= لماذا هذه النظارات؟ لا بد وأنك تغطين عيبا لا يناسب جمال وجهك.
= واضح أنك جريء أكثر مما يجب، فهل أنت كذلك، أم ترى هي انعكاس لحالة نفسية؟
= لم تسألين عن الوقت؟
= أظن أن القطار قد تأخر.
= أي قطار؟ حسنا. الذي تنتظرينه لن يأتي هذا اليوم. ألغيت كل رحلات اليوم، وربما غدا، لا أدري. ألا ترين أن لا أحد في المحطة غيرنا.
= لِمَ؟
= هناك احتمالات كثيرة. ربما إضراب عمال السكك؛ صيانة؛ عمل تخريبي؛ المهم أن الرحلات ألغيت. أطمئنك، سيعيدون لك ثمن التذكرة، ومعها تعويض ضرر.
= إذن عليّ أن أغادر. ما بقاؤكَ، مع الإلغاء التام؟
= أنا جريء، وأنت فضولية تسألين عن أشياء لا تعنيك، مع هذا سأجيبك. لست مسافرا. اعتدت من سنوات، وفي أية مدينة أكون، أن أجلس في محطة القطار أراقب المسافرين في غَدَواتهم ورَوْحاتهم. لماذا أفعل ذلك؟ لن أجيبك، لستُ مجبرا.
نهض متجها نحوها. عندما واجهها مد يده ونزع نظاراتها. بصوت مرتفع:
= يا إلهي! كم جميلة عيناك، لم تخفيهما؟
نهضت من مكانها، وبلهجة صارمة:
= إن كنتُ قد سكتُ عن جرأتك، فلن أسكت عن وقاحتك.
= ماذا ستفعلين، ستضربينني؟ إن فعلت فلن أضمن لك ردة فعلي.
= فعلا، لا أحد يتوقع ردة فعل مجنون. الأفضل أن أغادر.
= أولا، يحب عليك أن تتأكدي إن كنتُ مجنونا أم لا. ثانيا، عندي مقترح. لديك وقت لن تدري ما تفعلين به. وقت كان مخصصا للرحلة، لم لا تستغلينه في الحديث مع شخص تعتبرينه مجنونا، وغيرك يعتبره غريب الأطوار. صدقيني، ستكون تجربة رائعة. أؤكد لك أنها ستكون تجربة غير قابلة للنسيان بسهولة. اجلسي، واسترخي. لستُ شريرا، ولا أنوي أن الحق بك أو بغيرك أذى. وإذا لم ترغبي، فأنت حرة يمكنك المغادرة. أما أنا فباقٍ.
وبما يشبه الهمس، حدّث نفسه، لكنها سمعته:
= أيها الغبي، لم تطلبُ منها البقاء؟ لستَ بحاجة لها. جميلة جدا؟ ومتى أغراك الجمال؟
عاد إلى مقعده، جالسا جلسته الأولى. نهضت ساحبة حقيبتها خلفها. بعدما تعدته بعدة خطوات، توقفت.
= أتجيدين الرقص، رقصة التانجو تحديدا؟
سمع بوضوح ضحكتها المكتومة، فرفع رأسه.
= ها قد بدأ تفاهمنا، أو ربما اتفاقنا.
= حول ماذا؟
= ليس مهما أن يتفاهم الناس حول شيء محدد، أو يتفقوا. لا فرق كبير. حتى عدم الوصول لتفاهم مشترك هو تفاهم بحد ذاته. وعدم الاتفاق هو الآخر اتفاق على عدم الاتفاق. لا اعرف مدى ذكائك، لذا من الصعوبة أن أحكم إن فهمت كلامي. لا تترددي بين البقاء أو الذهاب. كوني شجاعة واتخذي قرارك. إياك وأن تُحكّمي عقلك. الحياة معقدة بما فيه الكفاية.
= لم أصادف مجنونا مثلك.
= كم مجنونا عرفت في حياتك؟ لا يهم. أدعوك للرقص.
= أين؟
= هنا. لا أحد غيرنا حتى يظن أننا مجانين. حتى لو ظنّوا ما يظنّون. ألم يصبح العالم كله جنونا؟ فلنمارس الجنون مثل الآخرين.
ضحكتْ هذه المرة بصوت عالٍ قبل أن تعود لتجلس.
= ما الذي تريد الوصول إليه؟
= ليس هناك من شيء محدد. فقط أردت أن أجرب ما يمارسه الجميع تحت يافطة عريضة أسموها الحرية الشخصية.
= ولم اخترتني أنا؟
= لأني لم أجد غيرك هنا. ما طلبته مجرد عرض لك أن تقبليه أو ترفضيه.
= وماذا بعد الرقصة؟
= يذهب كل منا في طريقه. إلى عالمه الذي لم يعد أحد يفهمه، حياته التي لم تعد تعني شيئا، عبوديته.
= عبوديته؟
= نعم، أو تظنين أنك حرة، أنا حر، الناس؟
مطّت شفتها استغرابا، عاقدة ما بين حاجبيها.
= ألسنا جميعا عبيد المنظومة التي تتحكم بنا؟ ما أغبانا نحن البشر. الحرية الشخصية التي نتشدق بها ما هي إلا الفتات الذي رمته المنظومة لنا. غبي من يظن أن النضال الذي خاضته الأجيال أوصلها لكسب حريتها.
= إنك لست مجنونا فقط، ولكنك متشائم لحد اليأس.
= دعينا من الجنون والتشاؤم، هل ستؤدين معي رقصة التانجو الأولى؟
= هذا يعني أن ستكون بعدها رقصات.
= إن آمنتِ أننا عبيد.
= وإن لم؟
= هذا شأنك، فلا سلطان لي عليك.
= حسنا، سأرقص معك ولكن ليس هنا. يمكننا الذهاب إلى مرقص.
= لا. هناك الجميع يستطيع أن يمارس الرقص، لكن هنا فقط الشجعان الذين يتحدون كل شيء، الذين يمارسون حريتهم الشخصية الكاذبة.
= قصدكَ المجانين.
= لا أهمية للأسماء، المهم الأفعال.
نهض. غطى رأسه بالقلنسوة.
= ذاهب أنا، هل ترافقيني؟
= الى أين؟
= حيث أمارس الحياة.
لم ينتظر جوابا. دس يديه في جيبي بنطاله. ودون أن يقول شيئا، سار. ظلت واجمة على مقعدها تنظر إليه وهو يبتعد. لم تستطع أن تحدد ما يعتلج داخلها، ولم تستطع أن تحدد موقفها من هذا الكائن، ولم تكن واثقة من أنها فهمت ما جرى.
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- ● إحباط
- [...]
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ