عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 5: 48-59 » العدد 59: 2011/05 » موقف ابن رشد الجد من علم الكلام عامة

عبد اللطيف تلوان - المغرب

موقف ابن رشد الجد من علم الكلام عامة

والأشاعرة خاصة من خلال فتاواه


عبد اللطيف تلوانيعد ابن رشد الجد من الشخصيات التي تضاربت حوله الآراء بخصوص موقفه من علم الكلام ومن الأشاعرة، فذهب البعض إلى أنه حارب هذا العلم وأهله وأنه خص الأشاعرة بالنقد، وأمر بإحراق كتبهم. وذهب البعض الآخر إلى أن الرجل عبر صراحة عن موقفه من هذا الأمر بوضوح بحيث لا يدعو المقام إلى التأويل أو إصدار أحكام من قبيل القول بتسبب ابن رشد الجد في إحراق كتب الأشاعرة، أو محاربته إياهم عبر فتاوى أصدرها بهذا الخصوص، وهذا المقال سيوضح هذا الموقف الرشدي من خلال عنصرين اثنين: موقفه من تعلم علم الكلام، ورأيه في أئمة الأشاعرة.

أولا: موقفه من تعلم علم الكلام

موقف ابن رشد الجد في هذه المسألة عبر عنه في غير ما من موضع في فتاواه؛ حيث رأى جلال قدره، وعظم شأنه في الدفاع عن الإسلام وأهله، والوقوف ضد كل متنطع متحيل على الشريعة، مارق عن الدين موسوس للعامة، مشكك للأمة؛ في عقائدها ومعتقداتها. أما ما صدر عنه من اعتراض على المتكلمين وخاصة الأشاعرة منهم، فإنه لأجل قول بعضهم بوجوب تعليم العامة علم الكلام، وهذا الاعتراض مقصود" في الخوف من أن تنبو أفهامهم عن الاستدلال الذي نطق به القرآن ونبه الله عليه عباده في محكم التنزيل.

أما من شد في الطلب، وله حظ وافر من الفهم، فمن الحظ له أن يقرأها إذا وجد إماما فيها، يفتح عليه منغلقها، لأنه يزداد بقراءتها والوقوف عليها بصيرة في اعتقاده، ويعرف بذلك فساد مذاهب أهل البدع، واضمحلال شبههم، فيمكنه الرد عليهم، ويجوز بذلك وجه الكمال في العلم ويدخل به في الصنف الذي عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"[1].

والعالم الحق عند ابن رشد هو من تفنن في علم الكلام الذي هو أصل العلوم وأضاف إليه علم الفروع وفي هذا يقول: "والعالم على الحقيقة هو العالم بالأصول والفروع لا من عني بحفظ الفروع ولم يتحقق بمعرفة الأصول، وبالله التوفيق".[2]

ثانيا: رأيه في أئمة الأشاعرة

هذ العنصر زيادة بيان وتوضيح لما سلف؛ لأن الأشاعرة يمثلون الاتجاه السني داخل دائرة علم الكلام، وقد كان موقفه منهم صريحا وواضحا، حيث نصفهم ونصرهم ونافح عنهم، كما يبدو جليا من خلال هذه الفتاوى التي خصصت لهم وهي ثلاث.

الفتوى الأولى

هذه الفتوى رأيت نقلها بالكامل حتى يتبدد أي احتمال يفي بأن ابن رشد خاصم الأشاعرة وأمر بإحراق كتبهم.

وهذا نص الفتوى التي كانت جوابا عن سؤال أمير المسلمين [3] في هذه المسألة [4].

السؤال:

ما يقول الفقيه القاضي الأجل، أبو الوليد وصل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقه، في أبي الحسن الأشعري وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر الباقلاني وأبي بكربن فورك وأبي المعالي، ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام ويتكلم في أصول الديانات ويصنف للرد على أهل الأهواء؟ أهم أئمة رشاد وهداية أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما تقول في قوم يسبونهم وينتقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية، ويكفرونهم ويتبرؤون منهم، وينحرفون بالولاية عنهم، ويعتقدون أنهم على ضلالة، وخائضون في جهالة، فماذا يقال لهم ويصنع بهم ويعتقد فيهم؟ أيتركون على أهوائهم، أم يكف عن غلوائهم؟

فأجاب رحمه الله:

"تصفحت عصمنا الله وإياك سؤالك هذا، ووقفت على الذين سميت من العلماء فهؤلاء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات، فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء على الحقيقة، لعلمهم بالله عز وجل وما يجب له وما يجوز عليه، وما ينتفي عنه، إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول، فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين."

فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل، أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق، وقد قال الله عز وجل:

والـذين يؤذون المـؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا[سورة الأحزاب، الآية 58].

فيجب أن يبصر الجاهل منهم، ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مستسهلا ببدعة، فإن تاب وإلا ضرب أبدا حتى يتوب، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ المتهم في اعتقاده، من ضربه إياه حتى قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي، فخلى سبيله، والله أسأل العصمة والتوفيق برحمته.

قاله: محمد بن رشد. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم."[5]

الفتوى الثانية

وقال في فتوى أخرى أجاب فيها عن سؤال الأمير أبي إسحاق ابن أمير المسلمين بإشبيلية عن علاقة الأشعرية بالمالكية:

لا تختلف مذاهب أهل السنة في أصول الديانات وما يجب أن يعتقد من الصفات، ويتأول عليه ما جاء في القرآن والسنن والآثار من المشكلات فلا يخرج أئمة الأشعرية بتكلمهم في الأصول واختصاصهم بها عن مذاهب الفقهاء في الأحكام الشرعيات التي تجب معرفتها فيما تعبد الله به عبادته من العبادات، وإن اختلفوا في كثير منها فتباينت في ذلك مذاهبهم، لأنها كلها مبنية على أصول الديانات التي يختص بمعرفتها أئمة الأشعرية ومن عني بها بعدهم.[6]

الفتوى الثالثة

أما الفتوى الثالثة، في شأنهم فقد خصها للرد على من يدعي أنه لا يكتمل إيمان العبد إلا بتعلم مبادئ الأشاعرة، والتفقه فيها، كتعلم العلاقة بين الجواهر والأعراض، وإثبات حدوث العالم، وما إلى ذلك من الاستدلالات العقلية التي تحتاج إلى آليات وأدوات علمية متينة، وقوة رسوخ في العلم، وقدم سبق في الإيمان، وهذا مما لا يتأتى للجميع؛ لذلك أنكر عليهم ابن رشد هذا القول، لدواعي عدة أجملها فيما يلي:

= لم يقل بهذا أحد من أئمة المذهب الأشعري.

= الخوف من أن تلتبس على العامة الطرق، فيمرقوا عن الدين.

= أنهم عوام ومبتدئون، ومسالك الاستدلال الأشعري تحتاج إلى فهم ثاقب وعلم راسخ.

وعلى هذا لا يمكن حمل هذه الفتوى على أنها السبب في إحراق أمير المسلمين كتب الأشاعرة كما ذهب إلى ذلك أستاذي الفاضل الدكتور يوسف أحنانة حيث قال:

أبي الوليد هذه حملت معها دلالة تاريخية جد مهمة في زمن المرابطين، ذلك أن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بعدها سيقوم بإحراق كتب الغزالي الأشعرية وعلى رأسها إحياء علوم الدين، وتهديد كل من ضبط بحوزته شيء من الكتب بالعذاب الأليم. "[7]

وهذا الاحتمال أجده مخالفا للواقع من ثلاثة وجوه:

الأول: ما سبق عرضه من تأييد ابن رشد لعامة الأشاعرة، ورفع الضيم والظلم عنهم، مع العلم أن الفتوى الأولى كانت مرسلة إلى أمير المسلمين. فكيف يعقل أن تكون هذه الفتوى التي أعلت من قدر الأشاعرة ترخيصا لإحراق كتبهم من طرف السلطة الحاكمة؟ ونفس القول يقال عن الفتوى الثانية بشأن علاقة الأشاعرة بالمالكيين، فقد كتبها للأمير أبي إسحاق ابن أمير المسلمين.

الوجه الثاني: أن الفتوى الثالثة القاضية بعدم تعليم العوام مبادئ علم الكلام على مذهب الأشاعرة لم يكتبها للسلطة الحاكمة؛ لأن السائل عن تلك الفتوى لم يكن أميرا ولا ابن أمير.

الوجه الثالث: لم ينكر ابن رشد تعلم هذه المبادئ إلا على العامة والمبتدئين، أما الراسخين في العلم فقد حثهم على استزادة الطلب، وفي هذا يقول الدكتور رضوان مبارك:

فهو يرى أن علم الكلام عامة والعقيدة الأشعرية خاصة، بالنسبة إليه، ومعه جمهور علماء السنة، ينبغي أن يسخر للرد على أهل البدع وبيان فساد مذاهبهم وهو عمل منوط بكبار الأئمة المشهود لهم بقوة الحجة والتبحر في العلوم.[8]

وصفوة القول: إن هذه الفتاوى لابن رشد الجد تنم عن موقف إيجابي من الأشعرية وأئمتها، فقد ذكر لهم فضلا، وبوأهم مقعدا عليا، وخصهم بمعرفة الأصول، وقضى بالتأديب والتعزير على من رماهم بالزيغ والضلال، أو استنقص من قدرهم وظاهر على مجاهرة العداء لهم، وهكذا يكون ابن رشد وهو أكبر فقهاء الدولة المرابطية ومفتيها المقتدر- من خلال فتاواه الثلاث- في هذا الموضوع، "قد اتخذ موقفا مناصرا للعقيدة الأشعرية وللأشاعرة، فراح يدافع عنهم ويكيل التهم المشينة لأعدائهم".[9]

= = =

الهوامش

[1] فتاوى ابن رشد، تقديم وتحقيق وجمع وتعليق المختار بن الطاهر التليلي، طبعة مؤسسة جواد، ط 1، 1407 هـ، موافق: 1987، نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت. ج 2، ص 971.

[2] نفسه، ج 2، ص 1061.

[3] المقصود به علي بن يوسف بن تاشفين، ت 537هـ.

[4] فتاوى ابن رشد، ج 2، ص 802؛ ص 804-805.

[5] نفسه، ج 2، ص 805.

[6] نفسه، ج 2، ص 1060.

[7] تطور المذهب الأشعري بالغرب الإسلامي، يوسف أحنانة، منشورات وزارة الأوقاف، ط 1، 2003، ص 73-74.

[8] التاريخ وأدب النوازل، منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة ندوات ومحاضرات، رقم 46، 1995، ص 74.

[9] المرجع نفسه، ص 75.

D 1 أيار (مايو) 2011     A عبد اللطيف تلوان     C 0 تعليقات