ربا الناصر - الأردن
عــودة الـربـيــع
على دقات الساعة الخمس، عبرت المرأة العجوز ممر الصالة ذهابا وإيابا بخطوات مثقلة بهموم الزمن، متأملة وجهها بين الفينة والأخرى في مرآة، مظهرة ملامح امرأة تجاوزت السبعين من العمر، قاطنة في دار للعجزة منحتها غرفة بسيطة، لا يتعدى أثاثها سوى سرير خشبي قديم وغطاء صوفي مرقع، هي كفيلة -في نظرهم- لتمنحهم الدفء والأمان، لكن أيكفي الحصول على الدفء من غطاء وجدران في غياب اللمسة الحانية والكلمة الطيبة؟
هي اليوم في انتظار موعد يجمعها بابنها العائد من سفره الذي قد يكون سفرا إلى بلاد بعيدة، أو بعدا معنويا صنعته مشاغل الحياة، الأمر الذي أوقعها في غياهب ست سنوات من الوحدة والتجاهل، متلمسة خلالها بعض الحنان من موظفات الدار، لكنه ليس بقدر الحنان النابع من قلب ابن أو ابنة. شمس اليوم حملت مع إطلالتها المعتادة هزة خفيفة منبتة ورودا حمراء في حديقة الدار تحركها نسائم عليلة.
سرت القشعريرة في جسد العجوز، الواقفة في زاوية من الصالة، ممسكة بيدها المرتجفة منديلا ورقيا، ماسحة به جبينها المندى بالعرق. وفجأة، قرع جرس الباب كلحن موسيقي ملأ قلبها. فُتح الباب فظهر رجل طويل القامة، يرتدي بزة فاخرة. تجاوز هذا الرجل عتبة الباب، وسط إضاءة شمسية قوية حجبت ملامح وجهه، ومع بلوغه منتصف الصالة، ابتل ريقه بالملوحة وعلا وجهه الارتباك بعد تفرسه وجهها.
اليوم أراد التخلص من كل أخطائه ورميها بعيدا في اليم. أراد وضع يده على قلب أم نابض بحرارة الحب، ليذيب جمود تلك السنين. وقف كطفل خائف من العقاب، مخاطبا إياها بصوت مرتعش: "أمي لقد عدت بعد غياب، فهل تبقى لي متسع في قلبك بعد امتلائه بالأسى؟"
لم تجبه، بل اكتفت بذرف دموع جلت كل الماضي، ممسكة بيده وتشد عليها بما تبقى من قوتها. قادته بعيدا عن عتبة الباب، وأكملت معه المسير وسط رائحة الورود العطرة، مخلفة من ورائها، بابا موصدا على قصص مازالت دفينة بين جدران الدار الباردة.
= = =
دنيا بلا ندى
مرت غيمة بيضاء فوق رأسي الصديقتين ندى ودنيا، المستلقيتين فوق العشب الأخضر، والمتأملتين مرور السحب في صفحة السماء الواسعة، بعد قضاء يوم طويل في مدرجات الجامعة القريبة. بدا الأمر كشريط سينمائي، فلم تشعرا بمرور الوقت مع إحساسهما بالسعادة، لقضائهما بعض الوقت معا في حديقة مليئة بالزهور، محلقة أحلامهما سوية كيمامة حب، مستقرة على بتلات زهور الأقحوان كالندى.
هذه الحديقة كما تقول ندى "مثلما هي منبت لشجرة واحدة من بذرة وتراب، تبدو لي منبتا لقلب واحد من روحين مختلفتين." نعم، قلب نابض بالحيوية من روح صديقتين عدتا هذه الحديقة نقطة اللقاء. ومن بوابتها الحديدية نقطة الفراق المتشعبة عند منعطف الطريق إلى طريقين يعرجان لمنزلين مختلفين. فالطريق الأول يؤدي إلى منزل ندى، الابنة الوحيدة لأب مدرس وأم حنون، وأما الطريق الثاني فيؤدي إلى منزل دنيا القاطنة مع جدتها في شقة صغيرة تقع بالقرب من منزل ندى.
تقضي كل منهما جل وقتها في المذاكرة وتحضير الدروس. صفحات حياة رتيبة تنطوي، كصفحات كتاب هاتين الصديقتين. مع شروق أحد الأيام، التقت الصديقتان عند الحديقة، وتوجهتا كالمعتاد نحو جامعتهما. كانت ندى تشعر بدوار اعتادته كل صباح، لكن هذه المرة كان شديد الوطأة، وقد بدا ذلك على وجهها المتجهم، فسألتها دنيا قلقة: "هل أنت على ما يرام يا ندى؟"
أجابتها متألمة "يبدو أن نوبة الدوار اشتدت هذه المرة، سأتناول حبوب الدوار خاصتي." بعدها أكملتا المسير نحو الجامعة.
بعد انقضاء محاضراتهما، توجهتا نحو الحديقة، وحدقتا في السحب كعادتهما واستمتعا لروائح الزهور الزكية، غير آبهتين لقرب موعد أفول الشمس. مع بزوغ أول نجم في السماء تواجدتا في منزليهما، وقضيتا الليل كله في الجد والمطالعة. ولكن أصابع القدر فتحت لهما صفحة جديدة خطت بسطور مشؤومة، غيرت مجرى حياتهما. صفحة صفراء، يتوسطها عنوان "خيوط القلق". ففي ذلك الصباح اشتدت نوبة الدوار على ندى، مما دفع والديها إلى أخذها إلى الطبيب. أخبرهما الطبيب إن سبب الدوار الذي تعانيه ابنتهما نتيجة السهر وقلة الراحة، مهدئا بذلك روع أهلها قليلا، ولكنه وبنفس الوقت طلب إجراء بعض التحاليل الطبية.
دنيا بدت تتلمس خيوط القلق بتعثر. حتى صوتها بدا خافتا عندما خاطبت ندى ذات مرة "أتعلمين، سأشتري لك خرزة زرقاء لتحميك من شر القدر." فأجابتها ندى "لا داعي لذلك فأنت خرزتي الزرقاء" قاصدة بذلك عينيها الزرقاوين.
بعد إجراء الفحوصات الطبية لندى، ظهرت الحقيقة التي أسقطت القناع عن دنيا مزيفة. اتضح أن ندى ضحية السرطان الذي أغرق أبويها في دوامات القلق والخوف عليها. وعانت خلال فترة مرضها من أوجاع مهلكة، إلى أن جاء ذلك اليوم، معلنا بقدومه نهاية عذابها، ومبقيا في ذات الوقت على ذكرى ملاك أطل بوجهه من بين الغيوم، وطاويا بابتسامته آخر صفحة في كتاب حياتها. لتبدأ دنيا من بعده المشي على سطور كتاب جديد.
في الصباح التالي لوفاة ندى، توجهت دنيا نحو الحديقة. الحديقة لا تزال كما هي، الورود بعطرها الفواح، والعشب المندى، كل شيء بقي على حاله، لكن نظرة دنيا للحديقة تغيرت، فلم تعد تجد الحديقة جميلة كالسابق. جلست وحيدة على الأرض الرطبة، متأملة مرور الغيوم بعينين حائرتين وقلب حزين.
◄ ربا الناصر
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ