عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هدى الدهان - العراق

أنــا وأنــت


جاءني بأقلام رصاص خشبية بعد أن ألححت في طلبها ولسان حاله يترنم بالأغنية العراقية "ماذا أقول لطفلة تلعب." ثم طالبته بممحاة ومبراة. جاء بهما محذرا ألا القي محتواها على الأرض. حاولت أن أقلده حين يكتب. لبست نظارتي وجلست خلف منضدته الخشبية القاتمة، وجئت بكوب الشاي المصنوع من الأكياس الجاهزة. وضعت إحدى أسطوانات موسيقاه، واستعرت أحد أقلامه (حرصا على كنزي)، وورقة بيضاء صقيلة كملابس طبيب معقمة. وبدأت اكتب. كتبت. ولكن ماذا كتبت؟ كتبت عن حب يكبر بين عاشقين في براري خضراء لبلد بعيد ينعم بالسلام، وغيرة حبيبة، وسفر حبيب، وفرحة اللقاء، ودفء العناق ولذة قبلة.

تململت في جلستي، فأنا أحب حين اكتب أن افترش الأرض، فافترشتها ونقلت كل شيء.

اكتشفت إني تركت الشاي يبرد. في الحقيقة لا أحب أن أحمل الفنجان من عروته. لا أحب الأيدي الممدودة لي لأتمسك بها. أحب الشاي في كوب لأحتويه براحة يدي واخنقه لاحس بدفئه بجسدي قبل أن ارتشفه ليدفئ قلبي.

لم يعجبني ما كتبت لحد الآن، فكيف أمحوه؟ خططت فوقه بالقلم مرة ومرتين، فتشوهت ورقتي وأحسست عيون الكلمات كأنها تنظر إلي من خلف قضبان وتضحك لأني لا أزال أستطيع قراءتها.

تعبت. أعدت كل شيء كما كان، وأوقفت موسيقاه، المفضلة ورتبت كل شيء كما يحبه وكأنه لم تمسسه يد بشر إلا يده.

أعددت شايي بنفسي، شايا جنته أيد متعبة تحت شمس سيلان، وبهيل عراقي وبكأس فخارية مصبوغة بالأخضر القاتم. وجلست على الأرض قبالة منضدة خشبية صغيرة كانت تستخدم لكي يستند إليها الصغار عند الكتابة، ولرق قطع العجين لتحويلها إلى أرغفة قبل إرسالها إلى المخبز، ولفرم الخضار قبل "تحرير" مولينكس سيدات البيوت، ثم عودتهن لشراء خضار مفرومة جاهزة، هيأتها وعبأتها في أكياس بلاستيكية شفافة الأرامل والمطلقات.

وكتبت بأقلامي الخشبية على ورقي الأسمر. وعدت طفلة، ولعبت بالحرف والكلمة والفكرة. كتبت عن حب وطن مفقود في بلد حواجزه الخرسانية باتت أكثر من شوارعه نفسها، وعن خوف على هذا الحبيب من رصاصة صديق، وعن فرحة ضمته إلى صدر الحبيبة وكأنه يولد من جديد، وهم لذة قبلة لا تنتهي أبدا حتى بعد أن تتباعد الشفاه.

حين عاد واكتشف زوبعتي لم يسألني ماذا كتبت. فقط أمرني أن أنظف المكان. وبعد أن قرأ سطوري أضاف أني يجب أن أنظف عقلي أيضا من هذه الترهات، وأن أكبر عليها، وأن أكون على الأقل خلفه بخطوتين حتى يستطيع أن يراني ويفهمني وألا أعيش في بلد آخر لم ير الحضارة، وإن رآها اعتقلها ودمرها.

ثم سألني إن كنت قد أخطأت باختياري له. ضحكت رغم دهشتي. كل هذا لأني كتبت وفكرت بطريقتي؟ ثم سألته سؤالا ألح على ذهني كثيرا:

"لماذا تكتب بأقلام يتدفق منها حبرٌ ناعم ينزلق على ورقتك الصقيلة كوشاح حرير على خد ناعم؟"

"لأني لا أحب خشونة قلم الرصاص على الورق. أحس وكأني انحت في صخر، وإذا كانت الفكرة سلسة لماذا نعيقها بالقلم؟"

"وأنا أحب أن ألعب معها، أراودها وأراوغها أشوهها وأُجملّها. نتسابق، نتلاحق لاستمتع بلذة الفوز.

"العبي كما تشائين بعيدا عن غرفتي."

نفذت له ما أراد، وفي نفسي ألم وخوف لا أدري سببه. أحسست أني وحيدة. وتساءلت هل فعلا أنا امرأة؟ أراه سلساً أكثر مني، وهادئا أكثر مني، وكاتبا أعرف مني. أنا أحب خربشة الورق، وخرمشة الجسد، وهو يحب الرقص معه على أنغام الفالس. وبقي سؤال: من منا سيُنشر له المقال في هذا العدد؟ ومن منا ستُقرأ كلماته؟ وإذا أحبها القراء، من منهم سيهديني أقلام رصاص لأخطّ بها المزيد؟

D 1 حزيران (يونيو) 2007     A هدى الدهان     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  كلمة العدد 85: ظاهرة اليساريين سابقا

2.  عن لوحة الغلاف

3.  حالة الطقس في جهنم لهذا اليوم

4.  النقد الاستقرائي في أعمال الفنان عدنان يحيى

5.  فاكهة فلسطينية

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox