هدى الدهان - العراق
الپسـتوني
وعِرٌ هو المرقى إلى الجلجلة
والصخر يا سيزيف ما أثقله
سيزيف إن الصخرة الآخرون
(بدر شاكر السيّاب)
هذه أبيات كتبها بدر شاكر السيّاب في قصيدته «رسالة من مقبرة» في زمن كنا نسميه الزمن الجميل. وجميلنا كان صخرتهم. والجلجلة لم يَعُد أحد يسعى إليها رغم إن الإنسان أبدع وابتكر في كل ما يتحصن به من صخر الآخرين وحصى الأُخريات. الآخرون، ليتهم بقوا كما كانوا يُوصفون. كانت تظهر على وجوههم تكشيرة كلما قابلوا شخصا تمتع بنجاحاتهِ أو جنى ثمرة تعبهِ. ليتَهم اكتفوا بالأقنعة والتي أصبح أمر كشفها سهلا جدا. فكثير منا أصبح خبيرا اليوم بحركات الجسد وبِتنا نعرف حتى قبل أن ينطِق الآخر ويلون نبرة صوتهِ ويُنعَّمها ماذا يعني وإلى مَ يهدف.
قرأتُ قبل أيام قولا لأحدهم بمعنى أنه نَدِمَ على قطعه علاقة لأشخاص كانوا بوجهين فهو اليوم يعيش بين أشخاص بمليون وجه. قرأتهُ وأنا لا أحب من يلعب دور الضحية أو من يتعرض لغدر الآخرين، فلا أحد يحبك حقا. هذه القاعدة الأساسية إلى أن يثبت العكس، ونادرا ما يثبت العكس. ولو سرنا عليها لخرجنا من كل العلاقات بأقل الخسائر وأفضل الغنائم. ولو ثَبُت العكس فسيصبح ُالآخر هو صخرتك التي تتكأ عليها لا التي تُعيقك.
لم يَعُد الآخرون يرتدون أقنعة يخلعونها متى شاءوا أو يستبدلونها الواحدة بالأخرى حسب التوقيت والمكان، فهذه الأقنعة انقرضت منذ عشرات السنوات ولم يَعُد أحد يصنعها بعد الآن. قلّ الطلب فقلّ الإنتاج حسب متطلبات الموقف ينضح لؤم أو تتدفق طيبة الآخرين.
اليوم الكل يمتلك أوراق اللعب في يدهِ. الذكي فقط هو من لديه خطوة استباقية لاحتمالية ماذا ستكون الورقة الرابحة. وإذا أعيته الحيلة هناك دوما ورقة خفية يخُرجها من تحت الطاولة متى شاء. تهديد ربما. لقطة شاشة لمحادثة ممكن. صورة قديمة تجمع الاثنين قبل سنوات جائز. هذه الورقة الخفية تحتمل كل الاحتمالات الأخلاقية واللا أخلاقية في كل شيء.
تعاملنا مع الآخر بات كأوراق اللعب التي في اليد الواحدة: أحمر. أسود. أبيض. ملك أم ملكة؟ شجرة أو شاب أم بنت؟ أي نسبة من نفسنا سنعطيه الآن؟ أي رقم سنقدم؟ 2 أم 10؟ وهو ماذا سيضع على الطاولة بالمقابل؟ ماذا لو كان الآس بحوزته؟ لا يمكن، فلدي دوما منه اثنان: واحد كسبته كدرس من علاقة فاشلة والآخر أخفيته عندي حتى قبل أن نفرد الأوراق على الطاولة.
قوانين الحياة تختلف عن قوانين اللعب على الطاولات. الخسائر في الحياة أكبر من خسارة الأموال التي تقتصر عليها طاولة أوراق اللعب. هكذا يجب أن تكون الطاولة في العلاقة بين أي اثنين.
نقابل أشخاصا حياتهم مبينة على إعادة التدوير للمواقف والأشخاص، يتلونون، ينقلون الفيشة (1) الرابحة من رقم إلى آخر، ظنا منهم أن الحظ واحد، ولا يدرون أن الحظ مرآة يعكس ما نريد نحن أن نكون. لم يعد الألم الآتي من الآخر يقتصر على جارح الكلام والتجاوز الجسدي. لست اكتب عن هؤلاء لأن الطرق تعددت للهروب والخلاص من أوضاع كهذه سواء للنساء أو الرجال من الأجيال السابقة التي عانت من هذا النوع من التعسف.
أما الجيل الجديد فنادرا ما يقع في علاقة تستنزفهُ جسديا أو لفظيا، فهو محصن تماما من أن يتعرض للضرب أو الكلام الجارح لأنه يمتلك حس التوقيت الكافي ليعرف الآخر بكل عقده ِوجنونهِ، والأهم أنه لم تتم برمجته على مفاهيم خاطئة مثل المسامحة وسعة الصدر والتحمل والطيبة، وبذا فخسائر فتاة عشرينية اليوم أقل بكثير إن لم تكن معدومة عن خسائر والدتها في نفس العمر قبل عشرين عاما.
اليوم اختلف الألم في العلاقات. اليوم نصادف شخصا يكون ندا لنا في كل شيء. نعمل معا، نلتقي ونتعب معا، نلهو، نضحك ثم فجأة نكتشف أننا ببساطة كنا «مرحلة»، أي أننا أدينا الغرض من وجودنا في هذا التوقيت ولهذا العمل.
الآخرون طبعا لا يتمتعون بالذكاء الاجتماعي الذي ينبههم أنهم لو ابقوا على علاقتهم معنا لاستمتعوا أكثر ولازدادوا معرفة وخبرة ولضمنوا أننا موجودون حين يحتاجوننا في المرة الثانية. نادرا ما يجد الشخص في حياتهِ آخر مِعطاء، فلماذا يستغني عنه فور انتهاء ما جمعهما؟
أشخاص يدخلون غرفنا فنحس فورا بالاختناق، نكذب أنفسنا، نجامل ونستمع ونتعاطف، وإذا بهِ يمتص طاقتنا النفسية والفكرية ويستنفد رحيقنا اليومي ليخرج منتعشا متجددا ويترك لنا يوما بطوله نحاول فيه ممارسة كل الإسعافات الأولية لعلاج أرواحنا المتضررة جراء شكواه ومسرحيات الدراما التي أدخلنا فيها. يخرج هو ليكمل بقية يومه في أرقى الأماكن ويُنّظر على الآخرين بكل ما استقاه منّا من حلو الكلام وحسن المعشر وأبجدية المعرفة، ويتركنا نلملم أوراقنا الذابلة الساقطة من فكرنا وروحنا على أمل أن نُبِرِعم غدا. ولكن الغد يأتي بأسوأ منهم ما دمنا قد تركنا الباب مواربا لأمثال هؤلاء.
نلتقي بشخص آخر يجعلنا نفعل كل ما يحلو لنا في حضرته، في حضرته فقط حتى لا نستشعر طعم الفرح والحرية وطفولتنا المسلوبة إلا في وجوده، أما في غيابهِ فتتمثل كل تابوهات العالم لتقول لنا «لا» ولتُفسر كل تصرفاتنا بطيش الصغار وأننا يجب أن نحترم سننا ابتداء من لون الملابس وانتهاء بنبرة الصوت ودرجة الديسيبل الخاصة بعلو صوت الضحكة. يجعلنا نفعل أشياء نخجل منها، ويحررنا من كل خجلنا وقوانيننا وكتبنا.
وفي اللحظة التي نكون قد احكمناِ ذراعينا حول خصره وحلّقنا معا، في هذه اللحظة بالذات، سيتركنا لتتلقفنا الأعين والألسن. ولا ينسى وهو يتركنا نسقط أن يُحكم حزام الأمان حول نفسه باتهامنا بأننا لم نكن بالقدر الكافي من الوعي لمواكبة شخص مثله، وأننا لا نستحقه. بعدها لن تعود روحنا حية كما كانت أبدا.
وآخر يفرشنا إمامه كـ«نص» بحاجة إلى التعديل والتصحيح اللغوي والتبويب والترجمة. لا ينظر إلينا كإنسان، كَنِد، بل كأبجدية، يطبق علينا كل الأحكام للكتب السماوية والعشائرية والعرفية. نخرج من حضرتهِ وكلنا إحساس بالممحاة تسري على جسدنا وروحنا ومكتوب عليها بختمهِ هو «تمت المراجعة والتعديل». بعدها يملأنا إحساس الكلمات التي تحتها خط احمر وبجانبها توقيعه فقسم منّا تم تجاهلهُ مرة واحدة، وقسم منا سمح بإضافته إلى قاموسه والأغلب تم إلغاؤه.
بِتنا نألف ما يُسمى الوجه المُسطّح الخالي من أي تعابير كأبواب البيوت المغلقة بعد إعلان حظر التجوال، أشخاص وجوههم فيها حظر تجوال لمشاعِرهم، فحين نتحدث إلى أحدهم، تراه مشغولا يحلل كلماتك أسرع من أغلى حاسوب ويُدخلها ضمن كل الاحتمالات. هل تريد استغلاله؟ هل ستطلب منه خدمة بعد قليل؟ هل ستطلب المال؟ هل ستأخذ منه كلامهُ وتخبر به آخر؟ وقبل أن تُتِم جملتك الأخيرة يأتيك جوابه معُلبا «لا أعرف» كنوع من الحصانة لئلا يُقَدِم لنا أي خدمة. فأي صخور نتعثر بها اليوم من صخرتك يا سيّاب الزمن الجميل.
كثيرة هي أوراق الألم التي علينا تجنبها والتي تكون في يد الآخر، يجب أن نُدرِك ما هي وإن كانت مخفية عنّا ويواجهنا لون واحد فقط من خلفيتها. بتعدد الصدمات وبتتابع الألم نعرف الورقة التي سيسحبها ويبتسم منتصرا ونتحضر مسبقا لرمي ورقتنا التي تكسرهُ وتهزهُ. يجب أن يكون جواز سفر تسامحنا ذا تاريخ نافذ الصلاحية حتى نتجنب نهاية نحر جهودنا على مذبح رجولتهِ وأنوثتها المنكوبتين قبل أن نُخلق نحنُ ويُخلق هو.
الورقة الرابحة هي الورقة التي يجب أن تكون في متناول أيدينا دوما. قبل الثقة والاهتمام والحب والاستماع: ورقة الپسـتوني. ورقة القائد الحربي، ورقة التخطيط قبل الخوض في أية علاقة من أي نوع. وتقسيم مشاعرنا إلى ميمنة وميسرة بالتساوي وكلمات نحفظها لنهاجم وندافع في آن واحد. أفعال نكافئ بها الآخر على حسن ولاءه واحترامهِ لنا في نهاية كل يوم، فلن نضمن مشاعره في الغد، فلماذا نلتزم بوعود آجلة له ونفتح له حسابا جاريا في وقت قد لا يكون ولاءه لنا حينها؟
القائد في داخلنا هو من يَودُ بعد أن يكتب أسطرا ألّا يتعرض لتفاهات وهجوم من أناس هم أتفه من أن يكونوا في قاموس حياتنا. القائد هو الذي يعي أيا من هؤلاء الناس الذين حولهُ يَصلُح أن يكون مشاة، وبالتالي ضحايا لجيش مسلح قادم خلفهم كل مهمتهم أن يُمهدوا له الطريق ويخترقوا صفوف العدو لا لأنهم أدنى منّا بل لأنهم اختاروا أن يكونوا هكذا بتصرفاتهم معنا.
القائد هو نحن. لأننا نحن فقط من يقرر في نهاية كل معركة وفي نهاية كل علاقة من سنُكَرِم وعلى أي كتف سنُعَلق ميداليتنا التي تتمثل برضانا عن الآخر وضمهِ إلى حياتنا. إننا الپسـتوني في حياتنا فهي واحدة، لن تبقى إلى الأبد ولا تحتمل طفيليات الآخرين ولا أن تكون ممسحة للطين الذي يلوث حياتهم.
الپسـتوني صولجانه لسانك وفكرك الذي يهيئ لك أن تخرج منتصرا. العلاقات معركة. لأن الآخر يختلف عنا فلا بد من التطويع لذاتنا أو للآخر أو ننجو في أحسن الأحوال من أن يجعلنا ورقته الرابحة ويراهن بنا فيكسب هو وندفع نحن الديون.
من منا لا يريد أن يهزم عدوا يتربص لنجاحاته ولو أمكن أن نكسِرهُ ذُلا حتى لا يعاود الكرة وينشغل ببناء حياته بدل أن يتفرغ لتدمير ما تعبنا في بناءه في أنفسنا من ثقة وعلم؟
مَن منا لا يُحب أن يخرج منتصرا من علاقة حب ويفوز بحب صادق؟ أو من بدء علاقة تعارف وصداقة ويغنَم صديقا طول العمر؟
الپسـتوني ورقتنا الرابحة، بل هي الورقة الوحيدة التي يجب أن نكونها لنطحن صخور الآخرين بدل أن نُتعِب أنفسنا بتسلقها وتحملها والتعامل معها ونضيع الوقت والجهد والعمر معا.
= = =
(1) فيشة: قطعة مصنوعة من عاج أو مواد مختلفة تُستعمل في ألعاب القمار بدلا من النقود. الجمع: فِيشات وفِيَش. المرجع: معجم اللغة العربية المعاصر.
|
◄ هدى الدهان
▼ موضوعاتي