مهند فوده - مصر
لم يكن بقدر ما تستحقين
اقسم أنني أحببتك يا عاليا، ولكن حبي لكِ لم يكن بقدر ما تستحقين. كنت أخطئ بحقك كثيرا واعلم انكِ ستعتذرين. كنت أكفر بكِ واعلم انكِ في النهاية ستغفرين. كنت اعلم أن تعلقك بي بلا حدود، وأن حبك لي ذائب في دمائك، سائر في أوردتك، متمكن منكِ ومتشبع في كل أوصالك، فتماديت في أخطائي تلك مُرتكزا على حبك، متكلا على غفرانك، متناسيا كل ما بذلته من تضحيات في سبيلي. وها أنا اليوم اُبدي ندمي على ما بدر مني، تُرى سيُصلح شيئا اعترافي؟
أفسدني تدليل أسرتي الزائد لابنهم الوحيد، فنشأت بينهم أميرا متوجا لا يُرفض له طلب، ولا يخالف له رأي. الكل دوما في خدمته، فصرت اؤمن أني محور الكون، لا جزءا منه. هكذا تربيت ونشأت، وهكذا أحبتني عاليا.
كنت أطير وأحلق بحرية دون قيد يكبلني. أتنقل من زهرة لزهرة دون ضمير يوبخني. أغيب عنها طويلا، وأنا مطمئن أن في موطني فتاة تنتظرني. مهما طال غيابي ومهما ندرت عنها أخباري، ستظل هناك قابعة في بيتنا الصغير تنتظرني. أوامري لها صلوات مقدسـة تؤديها بلا وعي، فتغلق كل النوافذ، وتسدل عليها ستائر سوداء سميكـة اتقاء نار غيرتي الزائدة عن الحد.
لم تعُد تعلم لشارع مسكنها ملامح، فلقد محوت من ذاكرتها القصيرة عنه كل تفاصيله. وقطعت صلتها بجيرانها وسكان شارعها الذين ما أن شَرعوا في التعرُف عليها، حتى ظنوهــا هجرت بيتها بلا عودة.
ولكنها لم تغادره، فقد ظلت باقية به، حبيسة جدرانه. جالسة خلف بابه طوال الوقت، عيناها مثبتتان على عقب الباب، تنتظر رسالة مني تمر خلاله. ولكن ساعي البريد دوما ما يطيل غيابه. مع كل دقيقـة راحلة دون رسالة مني تلعنه بلا ذنب، فقد كانت تهوى أسلوب الرسائل وأنا لم أكن في معظم الأحيان أهتم. وإن بعثت لها بردٍ ذات يوم كان أقرب لبرقية منه لرسالة، تحوي كلمات قليلة مقتضبة لا تشفي صبرها الطويل ولا تشبع شوقها لي الذي اسمع على بعد آلاف الأميال فورانه.
ورغم ذلك لا يتملكها اليأس في انتظار ساعي البريد، مثلما لا تمل راحة يدها القبض على هاتفها النقال الذي لا يوجد بذاكرته رقم سواي. تخاف أن يُفارقها للحظة فتصادف مني اتصالا. بحذرٍ تتحسس اصابعها خشية ان يدفعها الشوق وتبادر بالضغط على زر الاتصال رغما عنها، فتسمع مني سيلا من السباب والإهانات لأنها اختارت لاتصالنا وقتا لم أحدده مسبقا لها.
أنانية جامحة مني، بل سادية متوحشة، الآن فقط أدركت هذا، فقد كنت أتلذذ بشغفها ولهفتها حينما أباغتها باتصال بعد أيام طوال. ربما كنت أريد أن أبقيها طوال الوقت متلهفة لحبي وفي أوج اشتياقها لسماعي.
ذات مكالمة، غاب عن صوتها تلك اللهفة التي أعرفها. ذلك الخضوع الذي يطمئنني أنها "هي" التي تركتها في المنزل وأوصدت خلفها كل الأبواب والنوافذ. كان في صوتها شيء من الغربة، بعض من الجرأة، وكثير من اليأس، حتى شككت في مُحدثتي، وفي هويتها. لم تمنحني مزيدا من الوقت لأتبينها وأسألها. انقطع الاتصال، وكانت تلك هي المكالمـة الأخيرة بيننــا.
هاتفتها كثيراً بعدهــا دون إجابة. أرسلت لها كثيراً دون رد. ساورتني الشكوك وكادت أن تفتك بي وساوس شيطاني، هيأ لي أنها تسربت من قبضتي وأعلنتها ثورة ضدي، وتمردت على سطوتي وجرأت على إغضابي.
قررت العودة فورا لكي أخمد مبكرا ثورتها. وقد عزمت أن ينالها مني حساب عسير حتى لا تجرؤ وتعاود الكرّة.
وصلت إلى الشارع الذي يجهلني معظم سكانه، قاصدا ذاك البيت الذي لم ألبث فيه ساكنا سوى شهر بعد زواجنا ثم حددت إقامة زوجتي به ورحلت.
صعدت على الدرج متثاقل الخطوات، تتسارع دقات قلبي خوفا، ويتصبب جبيني عرقا، تقترب خطواتي من باب شقتنا. وقفت للحظات أمامه أتفحصه مليا. لم ألحظ به شيئا غير معتاد. أدرت المفاتيح في أقفال الباب الموصد واحدا تلو الأخر. ما أن فتح حتى شرعت في الدخول أتحسس خطواتي.
ناديت عليها فلم تجب. جريت أبحث عنها في كل الغرف فلم أجد لها أثرا.
وجدت كل زجاج النوافذ مُحطما، وشظاياه متناثرة في كل الأركان. كل الستائر السميكة كذلك ممزقة ومتهدلة. وأوراق مذكراتها منتشرة في كل الأرجاء، فقد بعثرها الهواء المار عبر زجاج النوافذ المكسور.
هالني كمية الأوراق التي خطتها بيدها، ربما كانت بعدد ساعات ما تركتها.
انحنيت التقط ورقة منها، فوجدتها قد خطت:
كم يذُل الحب يا سليم! كم اقترفنا وما زلنا جرائم باسمه! كم علقنـا عليه ضعفنا وتخاذلنا!
كم أخطأت بحقي واعتذرت أنـــا لك! كم مرة خنتني ولمست بيدي دلائل خيانتك قبل زواجنا وبعده، وأنت معي وبعيدا عني، ورغم ذلك جئتك راكعة التمس غفرانك!
كم أتمنى أن أعود إلى أحضانك يا أبي باكية، راكعة أقبل قدميك، ونادمة ألتمس عفوك، فتنتشلني مما أنا غارقة فيه، احكي لك عن كل شيء، فتنتقم لي منه!
ولكني أبدا لن أعود حتى لا أبوح لك بشيءٍ عنه، ليس خشية منه، ولكن خوفاً عليه من أن تبطش به و تُؤذِيه متى عَلِمتَ ماذا يفعل بي حبه."
قرأت ما خطته يداها، وجريت في الشارع كالمجنون استوقف المارة اسألهم عن عاليا، لربما يعلم احد أي شيئا قد يقودني إليها.
وعَلِمت.
لقد فرت العصفورة من القفص، قررت أن تطير بعيدا عن محبسي. قفزت من النافذة المكسورة، ولم تحملها أجنحتها التي صارت من حبها لي تعاني من الضمور. هوت إلى الأرض وماتت على الفور حبيبتي، لأنها أحبتني أكثر مما أستحق وأحببتها أقل مما ينبغي.
◄ مهند فوده
▼ موضوعاتي
8 مشاركة منتدى
لم يكن بقدر ما تستحقين, هدى الدهان -العراق | 27 آذار (مارس) 2014 - 09:39 1
قصة رائعة ..ودراما مؤثرة ونهاية منطقية للحب لو كنا في غير هذا الزمان ..اما اليوم فالصة من هذا النوع تفقد مصداقيتها الا اذا ادرجنا صغر السن او الاضطراب النفسي او المازوشية..فانسانة مثل هذه بالتأكيد تعاني من خلل نفسي لتبقى مجندة ومعزولة عن العالم تنتظر رجلا تعلم انه يخونها .
1. لم يكن بقدر ما تستحقين, 26 نيسان (أبريل) 2014, 02:18, ::::: مهند فوده -مصر
سيدتي ..كلاهما مرضى نفسيين .. بحاجة الى علاج فوري .. والقصة ليست بعيدة عن الواقع .. فمن يعين الظالم على ظلمه هو المظلوم نفسه بخنوعه وضعفه وصمته على الظلم .. ادعوك لقراءة الجزء الثاني من القصة في العدد الجديد .. شكرا سبدتي على مرورك الكريم
لم يكن بقدر ما تستحقين, زهرة يبرم/ الجزائر | 28 آذار (مارس) 2014 - 16:38 2
لما القسم بأنه يحبها وقد سقاها علقما مغمسا بالذل؟
صدق كاظم الساهر فيما كتب وغنى: يضرب الحب شو بيذل!
تفاجئنا دوما بقصة حب مختلفة من خيالك الخصب، فنستمتع بالإبحار معك في تفاصيلها المشوقة.
أنت تبشر بإحسان عبد القدوس أو مصطفى السباعي جديد.
1. لم يكن بقدر ما تستحقين, 26 نيسان (أبريل) 2014, 02:14, ::::: مهند فوده -مصر
الخيال ان كان خصبا .. فالواقع اكثر خصوبة.. اطراءك بلا شك اسعدني .. ومتابعتك لما اكتب شرف احظى به من كاتبة لها قلم مميز مثلك .. شكرا لك سيدتي
لم يكن بقدر ما تستحقين, هدى الكناني من العراق | 30 آذار (مارس) 2014 - 15:03 3
مهند فودة من مصر
لم اكثر الرجال خلقوا ليقتلوا الحب في القلوب التي تحبهم وليعذبوا حاملها؟
لِمَ يضنوا بكلمة بامكانها ان تحيي وتبعث الامل في قلوب معذّبة بهواهم او يظنو بهن الظنونا؟
اشكرك لأنك أنصفت بنات جنسنا ووقفت مدافعا عنهن ضد الرجال؟
وكالعادة دوما متجدد في قصصك ياسيدي.
بالتوفيق
هدى الكناني
1. لم يكن بقدر ما تستحقين, 26 نيسان (أبريل) 2014, 02:11, ::::: مهند فوده -مصر
شكرا على تعليقك استاذة هدى .. الحق ان ليس هناك قواعد ولا ظالم ولا مظلوم في الحب .. فلا المراة دوما مظلومة ولا الرجل دائما ظالما .. تختلف مابين تركيبة الثنائي العاشق .. اتمنى ان يستمتع الخلق جميعا بالحب دون ظلم وذل وعذاب وويل ... مرورك العطر اسعدني.. شكرا لك سيدتي
لم يكن بقدر ما تستحقين, إبراهيم يوسف - لبنان | 2 نيسان (أبريل) 2014 - 10:58 4
"وارحمتاه لقيس عادَ ما كانا"..!؟يقولُ لها: بل تذهبين معي..؟وتردُّ عليه ليلى فتقول:"لا، لا أخونُ له عهداً، فما حادَ عن عهدي ولا خانا"يتحَسَّرُ قيسُ بن الملوح قائلاً لها:"أراكِ في حبِّ وردٍ جدّ صادقة، وكان حبُّكِ لي زوراً وبهتانا"وتجيبُه ليلى:بل أنتَ تظلمُني، "فما أحبَّ سواكَ القلبُ إنسانا"تدمعُ عيناه ويقولُ لها:"اتركيني بلادُ الله واسعة، غداً أبدِّلُ أحباباً وأوطانا"يهربُ من أمامِها هائماً صوبَ البوادي.. فتحزنُ على حالِه وتقول: "وارحمتاه لقيس عادَ ما كانا"..!؟
1. لم يكن بقدر ما تستحقين, 26 نيسان (أبريل) 2014, 02:20, ::::: مهند فوده -مصر
استاذنا الكبير ابراهيم يوسف .. تعليقاتك في حد ذاتها نصوص ادبية .. دوما ما يسعدني قراءة تعليقاتك على نصوصي ونصوص الزملاء .. شكرا سيدي على مرورك العطر
لم يكن بقدر ما تستحقين, إيمان يونس | 2 نيسان (أبريل) 2014 - 19:22 5
أ / مهند ...تجيد شد القارىء من البداية وحتى النهاية بأسلوب سلس ومثير والبطل سادى وأنانى أكثر من المعتاد وهو لم ولن يحب إلا نفسه ونهاية عاليا منطقية لشخصية مستسلمة بكل حواسها وعقلها لشخص يتعامل معها عن بعد بصيغة الأمر والنهى بمنتهى القسوة والجفاء ...في أنتظار جديدك دائمًا مع أطيب أمنياتى بمزيد من التألق والإبداع
1. لم يكن بقدر ما تستحقين, 18 نيسان (أبريل) 2014, 13:40, ::::: مهند فوده - مصر
شكرا استاذة ايمان .. أسعد دوما بقراءتك لما اكتب ولتعليقاتك ..وانت الاخرى تتميزين بقصصك القصيرة الرائعة .. دمت سالمة
لم يكن بقدر ما تستحقين, نورة عبد المهدي صلاح \ فلسطين | 5 نيسان (أبريل) 2014 - 13:06 6
أما زلنا ننتظر دماء جديدة في معبد الحب ذلك، ألم يشبع نهم الشيطان القابع في جسد الحب من أغواء ضحاياه، إلى متى نبقى في دائرة الحب ندور وندفع الثمن مع كل دورة !!
لغة جميلة ..
أبدعت
1. لم يكن بقدر ما تستحقين, 18 نيسان (أبريل) 2014, 13:36, ::::: مهند فوده - مصر
مع كل ميلاد جديد لقصة حب تتنفس الحياة .. يولد معها قدرها من الخير والشر .. فإذا انتصرت على الشر بقيت .. وان غلبها الشر نزفت .. ولقت حتفها غارقة في دمائها .. هذه سنة الحياة.. تعليقك اجمل .. شكرا لك ايتها العزيزة
لم يكن بقدر ما تستحقين, وائل عبد الله | 7 أيار (مايو) 2014 - 16:55 7
جميلة يا مهند....فعلا احيانا من كثرة اطمئنانا الي ما بين ايدينا قد نضيعه
لم يكن بقدر ما تستحقين, عبير-مصر | 7 أيار (مايو) 2014 - 18:58 8
القصه جميله جداااا بس النهايه مأساويه بس لﻷسف هيا دي حقيفه الحياه احنا مش بنعرف قيمه اللي فايدينا الا لما بضيع مننا