مهند فوده - مصر
رجل لا يحسن التعبير
اليوم تقدمت لطلب يدك، وحظيت بموافقتك أخيرا بعد رفضك لي مرتين سابقتين. لم استطع أن اخفي مدى سعادتي بقبولك هذه المرة، ورغم هذا قلت لك حينما سمحوا لنا بالتحدث منفردين لأول مرة، أنني لن أقبل مطلقا أن تتزوجيني وقلبك لغيري، أو أن أكون مجرد دواء لمداواة ما تركه خطيبك السابق من جروح بداخلك رغم مضي عام ونصف عام على انفصالكما كما اخبرني والدك.
ولكنك نفيت ظنوني بشدة مؤكدة لي أنه ماض وانتهى، وأنك فكرت جيدا واخترتني بعقلك، ثم سكت.
تجنبت في حديثك القصير هذا الإشارة لحال (قلبك) وآماله، لأكمل أنا: "الأيام القادمة كفيلة بأن تؤكد لك صواب اختيار عقلك لي وسيبصم (قلبك) أيضا على اختياره".
في 22 أغسطس 1969
* *
استمعت لك دون قصد اليوم، كنت تبوحين لشقيقتك عبر الهاتف بأنني "زوج متعب. بل مرهق جدا" هكذا قلت بالنص الصريح. لم تحزني شكواك بقدر ما أحزنني أنك تشككين في حبي لك، رغم أني احبك جدا ولكن قدري أني لا أحسن التعبير.
17 ديسمبر 1970
* *
أحضرت لك منذ يومين زهورا بمناسبة عيد زواجنا الأول، تناولتها من يدي على الفور، ووضعتها في مزهرية تسأليني ما مناسباتها؟ وقبل أن أجيب، صرخ طفلنا وليد وهرولت نحوه. ونسيت السؤال كما نسيت عيد زواجنا ووضع ماء للزهور. وبدوري لم أخبرك عن المناسبة. اليوم، ماتت الزهور عطشا، ولن أحاول ثانية خوض غمار تحسين "التعبير".
9 سبتمبر 1971
* *
دوما ما كنت تقولين إن أفضل أيامك معي كانت شهور حملك بأولادنا، حسبما كنت ترددين: "كنت تدللنني كما لو كنت أميرة، وكنت تتبدل كما لو أنك ولدت نبيلا".
همست لي اليوم تخبريني لأول مرة أنك كنت تتعمدين إنجاب مزيد من الأبناء حتى صاروا ستة، رغم تكبدنا عناء تربيتهم معا وتكبدي أنا أكثر مزيدا من الأعباء المادية، فقط لأنك تشتاقين لمعاملتك كأميرة. لم أخبرك قط أن تدليلي الزائد لك كان نابعا من شعور ذنب يظل يلازمني طيلة شهور حملك بأنني المتسبب الرئيس به وبتوابع آلامه.
14 أغسطس 1984
* *
ورغم إنني لا أطيق العيش خارج وطني وأنت تعلمين، إلا إنني وافقت مضطرا للسفر راضخا لإلحاحك، لخلق مستقبل أفضل لأبنائنا كما كنت ترددين. وددت لو رافقتموني، ولكنك لم ترحبي باقتراحي. ادعيت أنكم ستشكلون لي أعباء إضافية، وتذرعت أيضا بمدارس الأبناء واستقرارهم.
وافقت مبديا لك اقتناعي، رغم علمي بزيف مبرراتك، فقد عمدت إغفال وظيفتك الهامة وخططك لاعتلاء المناصب رغم أني على يقين أنها دوما على رأس أولوياتك.
آه لو تعلمين كم كان وجودكم سيهون عليّ الكثير، لكنت قدمت على أول طائرة مع أبنائنا دون تأخير، ولكن كبريائي منعني من الإلحاح عليك بالقدوم. ما لم يحسه المرء من تلقاء نفسه لا يجدي معه "التعبير".
6 مارس 1986
* *
وعدت يسبقني الحنين إليكم. عدت من غربتي وقد أدبتني وعلمتني كيف أحسن التعبير. عزمت على أن أجيده. وحملت في حقائب عودتي هدايا وأموالا ومشاعر جياشة. وما أن وصلت حتى انقض الأبناء على هداياي، ونال كل منهم نصيبه منها وتفرقوا.
وخططت أنت بدورك أوجه صرف مدخرات السنين. وبقيت مشاعري في حقيبتي لا أجد لها تصريفا. لم يقبلوا عليها لأنهم لم يعودوا في حاجة إليها، فقد تركت أبناءنا أطفالا، وعدت وقد صاروا مراهقين وشبابا. أسسوا حياتهم دون أب. وكذلك أنت، اعتدت الحياة دون زوج. وها أنا ثانية وحدي في البيت.
22 يوليو 1996
* *
صرنا نعيش تحت سقف واحد كما الأغراب، وصار بيتنا كما صالة ترانزيت في مطار، نتقابل فيها صدفة بين الرحلات، فبعد التحيات القصيرة يغادر كل منا لوجهته.
زهدنا بالحديث، وحل علينا صمت مطبق. نادر جدا إن اجتمعنا، وإن جمعتنا صالة الطعام عشية إحدى أيام الجمعة، كل منا يضع وجهه في صحنه.
وحدها الأشواك والسكاكين تأبى أن تشاركنا الصمت، تصدر على استحياء أصواتا لعلها تحثنا على الحديث، ولكن لا رغبة للأفواه به، فقد كان كل منا يملأ صحنه بمشكلاته، يلتهمها سريعا كي لا يدري بها أحد وإن غصت في حلقه. ولهذا وضعت الخادمة كوب ماء بجوار كل صحن.
13 نوفمبر 1996
* *
رغم أن ما أطلقت عليه "نزوة" مع زميلتي سعاد، المنفصلة عن زوجها حديثا، كان في تاريخ نزوات الرجال نزوة قصيرة العمر جدا، فقد اكتشفت أمرها مبكرا جدا ربما قبل أن تعلم بها سعاد ذاتها.
كانت مخاطرة مني لم تكن محسوبة العواقب، كادت أن تضرم النيران ببيتنا وتحيله جحيما يلتهم الجميع دون استثناء. إلا أنني لا استطيع بعدما انتهت بسلام سوى أن أبعث رسالة شكر لسعاد، فبفضلها شعرت أنني ما زلت زوجا عادت له زوجته التي يحبها بعد طول غياب.
1 مارس 1997
* *
أتذكرين يوم أن شككت في إصابتك بهذا المرض اللعين الذي يقتنص نهود النساء، كيف أننا تقاسمنا معا أياما من الرعب والهلع حتى ظهرت التحاليل تطمئننا؟ أتذكر انك بعد أن تخليت عن وداعتك تلك التي حلت عليك أيام شعورك بدنو الأجل، عدت لشراستك المعهودة، لتعترفي لي في أحد أيام شجارنا المعتادة أنك كنت مرتاعة أكثر لأن استئصال أحد ثدييك يعني أنك أصبحت في عيني نصف امرأة، فيكون هذا مبررا كافيا لي لخيانتك مع أخرى.
سررتها في نفسي، ولم أخبرك كم من الدموع ذرفت عيناي وقتها، كنت أتذرع الخروج كثيرا لأطلق سراحها بعيدا عنك، خوفا على امرأة أحببتها كاملة، ودعوت الله كثيرا أن تظل أنفاسها تجاورني ما بقى من عمري، ولو كانت تخرج من بقايا جسد امرأة لا نصف كما ادعيت.
أحزنني أنك بعد هذا العمر لم تدركي بعد، أنني احبك بقلب رجل لا ذكر، وشتان الفرق بينهما يا شريكة العمر.
29 يونيو 2005
* *
سمعتك بالأمس تسدين النصائح لابنتنا الصغرى. كنت تظنين أنني جوارك غارق في النوم، وأن أدوية مرضي أثقلت رأسي وصمت أذني كما تغيبني معظم ساعات اليوم عن الوعي.
أخبرتها أن حب الشباب المشتعل لن يدوم طويلا، وأنه سيخفت بمرور الوقت، تاركا محله مساحة كبيرة تسكنها المودة والعطف تخلقها العشرة الطيبة بين الشريكين، لتكون لهم بمثابة وسادة تتكئ رؤوسهم عليها ما تبقى من عمر، ضاربة لها المثل بنا.
كنت أصغي لك مؤيدا ما تقولين ومن داخلي أشاركك الرأي فيه، ولكن شيئا ما غص في نفسي، لا أدري ما هو. يبدو أنني بعد هذا العمر كنت اطمع بشيء بيننا اكبر كثيرا من "المودة والعطف".
13 فبراير 2014
* * * * *
كتب هذا الاعتراف في غرفة مكتبه غالقا بابه عليه، ليطوي ورقة الاعتراف ويكتب على ظهرها كما سبق وفعل باعترافاته الأخيرة: " إلى زوجتي الحبيبة"، ثم أدار مفتاح الخزانة الحديدية، ليخرج حزمة من الوريقات الصفراء المربوطة بشريط من الحرير الأحمر، ليفك العقدة و يضيف لمجموعته اعترافا ابيض جديدا.
أعاد ربطها ثانية بذات الشريط الأحمر كما تربط الهدايا، دون أن تخفي العقدة الحمراء أعلاه جملة "إلى زوجتي الحبيبة"، حتى إن كان هذا آخر اعترافاته، ضمن أن تصل الحزمة ليد زوجته مباشرة، دون أن تتفحصها أعين ورثته ومحاميه وأقربائه.
◄ مهند فوده
▼ موضوعاتي
8 مشاركة منتدى
رجل لا يحسن التعبير, منال الكندي | 26 كانون الثاني (يناير) 2015 - 14:04 1
للاسف هذه الاعترافات كثيرة في بيوت صارت هشة ومفاهيم المودة والرحمة والحب تغيرت وصارت لها اكثر من معنى حتى الماديات صارت احد معانيها، ويظل الكل لا يحسن التعبير سوى زوجة او زوج وإذا تركنا العنان لاعترافات الزوجة سنجدها تكتب أضعاف ما كتبه الزوج الذي لا يحسن التعبير وهي تظن بنفسها بانها احسنت التعبير او ربما لم تحسن التعبير
قضايا تم مناقشتها ومازالت عالقة لا احد يريد أن يحاول فهمها رغم بساطتها.
سلم قلمك
1. رجل لا يحسن التعبير, 27 كانون الثاني (يناير) 2015, 22:45, ::::: مهند فوده - مصر
ا.منال .."ويظل الكل لا يحسن التعبير" ..هذه الجملة التي قلتيها في تعليقك ولخصت بها كل شيء ..ويظل كما قلت لكل طرف منطقه ومبرراته .. اسعدني تعليقك .. شكرا لمرورك الكريم
رجل لا يحسن التعبير, ايناس ثابت اليمن | 27 كانون الثاني (يناير) 2015 - 12:17 2
القصة تمثل واقع ما وراء أبواب الكثير من البيوت، بدون كتابة اعتراف منهم وتفضيل الكبت.
دام قلمك راقيا.
1. رجل لا يحسن التعبير, 27 كانون الثاني (يناير) 2015, 22:39, ::::: مهند فوده - مصر
استاذة ايناس .. الكبت يؤدي للانفجار .. وحينها ستكون عواقبه وخيمة علی الجميع.. سعيدا جدا بقراءتك و بتعليقك... تحياتي
رجل لا يحسن التعبير, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 27 كانون الثاني (يناير) 2015 - 18:17 3
أ/مهند تحية طيبة حاولت تناول علاقة الشراكة الشائكة بين الزوجين ب لاقبل كل حيادية ظاهرا,لكنك وأنت تبرز المسكوت عنه أدنت أنانية الزوجة ولست من العصابيات النسويات لأن العلاقة الأسرية قضية نموذ ج إنساني اجتماعي ونواة مجتمع وليست ثنائية المرأة والرجل فحسب .على أية حال أجدت في التعبير والتصوير وقدمت قصة مؤثرة واقعية بالتوفيق دوما .تقديري لحيوية السرد.
1. رجل لا يحسن التعبير, 27 كانون الثاني (يناير) 2015, 22:33, ::::: مهند فوده - مصر
الكاتبة الرائعة ا.هدی .. تحياتي لمرورك العطر وتعليقك علی النص الجديد .. النص يكتبه زوج كاعترافات او خواطر بمنظوره هو .. فبالتالي قد يری نفسه مظلوما بعض الشيء.. ولكن حتی في اعترافاته ايضا اشياء قد تدينه ..
لست من هؤلاء الكتاب الرجال الذي ينحازون في كتاباتهم للرجل علی حساب المرأة ..ولكن هذا نموذج لنوع من الازواج موجود في حياتنا .. فليست كل النساء مظلومات علی طول الخط .. وليس الرجال ظالمين دائما.. واعتقد ان فشل الحياة الزوجية في معظم الحالات يتقاسمها الشريكين معا..تحياتي لك وتقديري
رجل لا يحسن التعبير, إبراهيم يوسف - لبنان | 29 كانون الثاني (يناير) 2015 - 13:33 4
كل الرجال يا صديقي متى تزوجوا تغيبُ عن بالهم اللياقة وطلاقة التعبير، إن لم تصدق فسلِ المتزوجين.. وبعض المسؤولية في هذا الجانب إنما تقع على عاتق المرأة..!؟ قلتُ رداً على تعليق سابق: إن المرأة التي لم تظفرْ برجل "يعبدها".. لهي امرأة مطعونٌ في أنوثتها.
أما ما قلتَه في متن الموضوع فبسيطٌ ومعبِّرٌ وواضحٌ تماماً، ولا يستعصي على الإدراك أو يستدعي صعوبة في التفسير، وهو يختصر حياة أسرة رسمتَ لها مساراً محدداُ.. لو اجتهدتَ وتوسعتَ قليلا في تفاصيلها..؟ لتحوَّلتْ إلى رواية لها نصيبٌ من النجاح الملحوظ.
رجل لا يحسن التعبير, إيمان يونس | 31 كانون الثاني (يناير) 2015 - 17:46 5
أ/ مهند ...قرأت قصتك أكثر من مرة إعجابًا بها وتمعنًا فى أعترافات الزوج المحب الذى لا يحسن التعبير ...قصة رائعة متماسكة البنيان شيقة السرد وإضافة مميزة لرصيدك الذى اتابعه عن كثب وألحظ حرصك على التجديد فى الموضوع وطريقة السرد ...موفق دائمًا وفى شوق دائم لكل جديد يسطره قلمك الواعد ..تحياتى
رجل لا يحسن التعبير, رانيا كمال -مصر | 4 شباط (فبراير) 2015 - 14:50 6
رائع جدا يامهند بالتوفيق دائما ودام قلمك مبدعا
رجل لا يحسن التعبير, أنور جعفر - الدوحة | 10 شباط (فبراير) 2015 - 12:00 7
ما أروع أن يمتزج الإحساس والشعور بحروف اللغة فيخلق مزيجا صادقا معبرا عما يدور ويعتمل بالنفس البشرية .
القصة رائعة والألوب راق جدا ...تحياتي وتمنياتي الطيبة
أنور جعفر
1. رجل لا يحسن التعبير, 20 شباط (فبراير) 2015, 22:24, ::::: مهند فوده- مصر
اسعدتتي شهادتك استاذي الكريم .. شكرا لتعليقك .. وتحياتي لك ابعثها مع كل امنياتي بالخير
رجل لا يحسن التعبير, محمد سامى حسانين .. مصر | 22 شباط (فبراير) 2015 - 23:12 8
أكثر من رائعة تحية كبيرة على أرقى و أجمل أسلوب و تعبير و كلمات . إلى الأمام دائما