عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هويدا سليم - السودان

الطاولة


أكثر من عشرين عاما وها هي في مكانها، لم تتزحزح قيد أنملة ولم يتغير شكلها، غاب من غاب بسبب السفر المؤقت في بلدان العالم أو السفر النهائي من الدنيا، ولكنها هي ظلت في مكانها هكذا، وكأن قوانين الزمن لا تنطبق عليها ولا تطالها، أو كأن الزمان نسيها. ابتسم هامسا لنفسه: أو علها تعيش خارج إطار الزمن.

سرح بخواطره قليلا تذكر ليلة شراء هذه الطاولة القابعة أمامه الآن بثباتها العجيب، شعر كأن ذلك كان بالأمس وليس قبل نيف وعشرين عاما، لعن ذلك اليوم الذي امتلك فيه هذه الطاولة التي صارت جزءاً منه هي وطقم الكراسي الخاصة بها، أحس بحرارة الدمعة التي سقطت غصبا عنه على جسده المرتعش حتى ظنها بعضا من رماد السيجارة التي نسيها مشتعلة بين أنامله، أفاق قليلا من شروده وهو يحاول مسح تلك الدمعات الساخنة من على بنطاله.

هذه الطاولة التي لا تتجاوز مساحتها ستة أمتار مربعة (ثلاثة أمتار طولا، ومتران عرضا) هي كل مساحة حياته بآلامها وأفراحها، بأحزانها وسعادتها، لم تكن مساحة حياته تتعدى مساحتها، كل أفراحه وأتراحه كانت هذه الطاولة تمثل القاسم المشترك وربما العامل الأهم فيها، حتى زواجه كانت هذه الطاولة هي سببه.

يتذكر الآن جيدا كيف كان مزهوا حينها وهو يشتري هذه الطاولة، عليها اللعنة. صار منذ لحظات وبعد عشرين عاما لا يذكر سيرتها إلا مقرونة باللعنات بعد أن كانت مثار فخره، فقد صارت عنده مثل إبليس لا تذكر إلا مقرونة باللعنات.

كان حينها مزهوا بشبابه وبثروته المفاجأة، ظل يتجول أكثر من أسبوع ليختار الطاولة بالمواصفات التي يريد وعندما أعيته الحلية في العثور عليها قرر صناعتها، فبعث من يأتيه بأجود أخشاب الأبنوس من غاباته إلام في جنوب السودان، كما أرسل من يأتيه بالعاج من مجاهل إفريقيا، والصندل من مجاهيل الهند، كل ذلك كان محاولة لكسب الرهان في أنه سيمتلك أجمل طاولة وسط الشلة، طاولة ليس قبلها ولا بعدها، هكذا اقسم إمام الشلة وها هو يبر بقسمه الآن، فبعد إن جلب له الأبنوس والعاج والصندل اشترى عشرة أرطال من الذهب الخالص واحضر امهر النحاتين ليجسد لها الطاولة التي صنعها خيله في لحظات سكر وطيش.

كان يؤمن بأن النحات الماهر هو ذلك الذي وصفه أرسطو في كتاباته بأنه هو الذي يرى الشكل في الكتلة التي أمامه ثم يعمل على تخليص ذلك الشكل الذي يراها من سجن الكتلة بإزميله، على أساس هذه النظرية التي اطلع عليها في قراءته الفلسفية القديمة امتحن العديد من النحاتين ليقع الاختيار على عاصم الذي جسد الطاولة وكأنه كان ينظر إلى عقله وينفذ فصارت تحفة كسب بها رهان الشلة فلم يستطيع أحدهم حتى الآن ولأكثر من عشرين عاما الإتيان بمثلها.

كان كمن يعاني سكرات الموت يفيق قليلا ثم يغيب في سكراته ليفيق بعدها وهكذا. وكان بين سكرة وإفاقة ينظر للطاولة –عليها اللعنة – ثم يسرح بخياله بعيدا عنها، في احد إفاقته تذكر أول علاقة بينه وبين الطاولة، كان ذلك قبل ثلاثين عاما عندما كان طالبا في المدارس الثانوية العليا، يتذكر الآن بوضوح شديد كيف كان يبحث عن عمل لتسديد رسوم امتحانات الشهادة عندما دله صديقه إلى هذه الطاولة عليها اللعنة، لم يكن يدري شيئا عن الطاولات وعن وظائفها المتعددة خاصة وأنهم ظلوا في البيت يأكلون على الأرض.

كانت أمه ترص أواني الطعام على الأرض فيتحلق كل من في البيت حينها حولها لالتهام ما فيها من طعام بشراهة وسعادة لم يحسها منذ فارق الأرض وانتقل إلى الطاولة عليها اللعنة، حتى أواني الطعام وأزيار المياه كانت من الطمي المحمي أي الفخار فهي إذن من الأرض، كما إن أبوه ظل يصفها دائما أي الأرض بأنها (أم البشر المقدسة) فمنها جاءوا وإليها يعودون لذلك كانت كل حياتهم في المنزل مرتبطة بالأرض ففيها يأكلون وعليها ينامون وبأديمها الممزوج بالماء يلعبون، فألعابهم في الصغر والصبا كانت تصنع من الطين أي من الأرض.

حتى عندما ذهب إلى المدرسة تعلم كتابة الحروف لأول مرة على الأرض، كانت قناعته بقدسية الأرض راسخة حتى رأي تلك الطاولة عليها اللعنة، فانهارت كل قناعته بالأرض وقدسيتها وبابيه وبالفقراء وحياتهم.

كانت مهمته كما شرح له صديقه تتلخص فقط في الوقوف خلف الطاولة وتقديم المساعدة لمن يطلبها مقابل مبلغ من المال يعطى له في نهاية الليلة، وعندما سأله عن طبيعة تلك المساعدة لم يوضح له وإنما اكتفى بقوله أي مساعدة يطلبها أي واحد من الجالسين حول الطاولة.

لم يكن راغبا كثيراً في الخوض في طبيعة تلك المساعدة بقدر رغبته في معرفة قيمة المال الذي سيناله مقابل تلك المساعدة، خاصة وأن موعد تسديد الرسوم قد شارف على نهايته وأن أباه اعتذر له وطلب منه الاكتفاء بما تحصل عليه من علم والانضمام إلى مساعدة الأسرة في الحقل.

كان هو الوحيد في الأسرة الذي بلغ هذا المبلغ من العلم، كان رافضاً بشدة إن يكون واحدا من القطيع الأسري، كان يحلم بأن يكون واحدا من العظماء الذين يقرأ لهم أمثال أرسطو وفولتير وغيرهم، كان سيكون كذلك لو لا الفقر لعنه الله الذي قاده إلى هذه الطاولة عليها اللعنة، ظل حلمه بالعظمة يعمي عينيه ويسد إذنيه عن نصائح أبيه بأن لا ينظر إلى أعلى بل عليه أن يلتزم الأرض لأنها منها جاءوا وإليها يعودون.

أخذته إغفاءة طويلة ظنها دهراً، عندما أفاق منها كان العرق يتصبب منه بغزارة، أحس بحرارة الغرفة كأنها نار جهنم، فأدار بصره نحو جهاز التكيف فوجد المؤشر يشير إلى أعلى الدرجات فرفع بصره إلى السقف فوجد المروحة كذلك تعمل بأقصى سرعة، أحس ببعض الراحة عندما أزاح حبات العرق عن جبهته شعر وكأنه يزيح صخرة من على كاهله.

سرح مرة أخرى مع مشهده وهو يمارس عمله لأول مرة، لم يكن يدري وهو يقف وراء الطاولة لأول مرة بأنه يضع قدميه في أول عتبات سلم السقوط، عندما دخل لأول مرة كان المكان مضاء من كل الجوانب. حتى السقف كانت تنبعث منه إضاءة قوية، كانت الطاولة، عليها اللعنة، تتوسط الصالة وحولها ستة كراسي شديدة الوثارة، أحس وكأنه يدخل إلى إحدى صفحات الروايات الروسية أو الإنجليزية لا يذكر، كانت مثل هذه المشاهد تمر عليه في بعض الروايات ولكن ليس بهذا الوضوح.

ازداد بصره حدة وهو يحدق في ماضيه، شعر بأن نظره صار اليوم أقوى من الحديد وهو يتجول في طرقات ودهاليز ماضيه، شعر وكأنه يتجول في لوحة سريالية لا يستطيع فهمها أو تفسيرها إلا من رسمها، كانت لوحة تداخلت فيها الأفراح بالإحزان وشهقات الضحك بشهقات البكاء، اختلطت فيها المتناقضات بصورة يصعب معها أجاد حداً فاصلا بين صرخات الميلاد وعويل الرحيل مما أنهكه إن يجد له مساحة للراحة بين شفرتي أفراحه وأحزانه.

كان معذباً بالحزن الناقص والفرح غير المكتمل، فكان الحزن يداهمه في قمة لحظات فرحه وكذلك الفرح لا يأتي إلا وهو على عتبات الحزن فيظل حائر بين إن يفرح أو يواصل حزنه أو أن يحزن ويدوس على أفراحه، فصار لا يعرف للحزن ولا للفرح طعماُ، تسأل بينه وبين نفسه وهو يستغفر الله في سره هل قصد الله إن يرسم له حياته هكذا أم أنها الصدفة وحدها هي التي صاغتها بهذا التعقيد؟

في أحد جوانب اللوحة كان أبوه يقف هناك والشر يتطاير من عينيه والدم يغلي في عروقه عندما أخبره بعمله الجديد، لم يميز حينها هل كان أبوه غاضبا منه على تلك اللحظات أم كان غاضبا على مستقبله المظلم الذي تكشف له لاحقا؟ هل كان أبوه يقرأ المستقبل؟، لم يستطيع تميز تلك النظرة لأنها كانت آخر نظرة، فقد طرده أبيه وحرم عليه دخول البيت، هل كان خطأه هو أم خطأ أبيه عندما قذف بها لي تلك الطاولة عليها اللعنة، أم خطأ القدر الذي جعله فقيرا؟

كان أول فرح له بالمال صدمة حيث فقد أسرته حيث طرده أبيه لاعتقاده بأن أي مال لا يأتي من الأرض مال حرام، كان يريد إن يصحح لأبيه هذه المعلومات الخاطئة عن الأرض، فقد اكتشف إن الفقراء وحده هم الذين خلقوا منها وربما هم وحدهم من سيعودون إليها لأن الأغنياء لا يعترفون بذلك فهم يعتقدون أنهم خلقوا من معادن أخرى أنفس وأقيم من هذا الطين، ومن يتواضع منهم ويعترف بأنه مخلوق من تراب فهو لا يعتقد بأنه خلق من تراب الأرض التي يقدسها أبي بل ربما من تراب الذهب أو أحد المعادن النفيسة.

لم تسعفه الذاكرة بلحظة فرح خالصة في حياته منذ ارتبط بهذه الطاولة، عليها اللعنة. حتى زواجه الذي كان يخطط له للهروب من دوامة الإحزان صار كحبل المشنقة ملفوفا حول رقبته.

ما يزال يذكر تلك الليلة، وكيف ينساها وهي ما زالت تعذبه كل يوم في صحوه وفي منامه، كانوا يلعبون كعادتهم، لكن تلك كانت ليلة مختلفة، ربما لأنهم أكثروا فيها من الشراب، استمر اللعب حتى الساعات الأولى من الصباح فصديقهم كان مصراً على تعويض خسارته أمامه، كان كلما وضع مبلغا خسره في رمشه عين حتى خسر آخر فلس في جيبه وفي حساباته في البنوك.

كنت أنا الرابح الوحيد بعد إن تساقط الجميع الواحد تلو الأخر، ومع ساعات الفجر الأولي بدأ يرمي بعقاراته الواحد تلو الأخر أمامي على الطاولة، عليها لعنة الله: المصنع، الدكان، ثم البيت الذي يقطنه مع أخته، وأنا اسحبها من أمامه بكل بساطة كما اسحب نفس من سيجارتي حتى نفدت هي الأخرى، فقذف بمفتاح سيارته فسحبته هو الآخر في أقل من لحظة.

تلفت ذائق البصر يبحث عن معين من الشلة كلهم رفضوا مد يد العون له فما كان منه إلا أن قال: "أختي. أختي" بصورة ذكرتني بالعالم الإغريقي أرخميدس وهو يصيح "وجدتها. وجدتها."

حتى تلك اللحظة لم يخطر ببالي ما خطر بباله، فقلت:

"مالها أختك؟"

"هي لك."

لجمت الدهشة لساني وربما ألسنة كل الحضور فلم ينطق أحد بكلمة.

عم الهدوء القاعة للحظات. قلت باستغراب:

"هل أنت جاد؟"

رد بإصرار: "نعم."

حاولت الرفض لكنه أصر، تحت إصراره وحب المغامرة وهلوسات الخمر وافقت. ولم تمض لحظات حتى تحولت أخته إلى أملاكي. صرخ الجميع. طالبته بالذهاب لإحضارها الآن. انهار ورجاني أن أمهله فرصة لإخطارها بالأمر.

في الصباح جاءني متوسلاً وطلب مني أن أتزوجها على سنة الله ورسوله حتى يبدو الأمر طبيعيا. رفضت. توسل إلي بكل رخيص وغال. وافقت بعد لأي بشرط أن يتكفل هو بكل مصروفات الزواج، فوافق غير مصدق. وهكذا تم زواجي.

بلع ريقه بصعوبة، كان ريقه قد صار جافا حد التحجر، وهو يصل إلى منتصف ذاكرته، لا بل إلى قلبها، كان كمن يسير على الجمر حافي القدمين، كانت كل قطعة من قطع ذاكرته عبارة عن كرة من كرات اللهب عصية على الإمساك بها، رأى كرة كمجرة ملتهبة تعمي عيون الناظر إليها، أشاح بوجهه عنها لفترة ثم عاود المحاولة.

كانت تلك ليلة زفافه تقف هناك في منتصف ذاكرته متوهجة وترسل أشعتها النارية الملتهبة على مسام الذاكرة وتلتهم كل أيامه، أحس بالدوار وهو يسترجع ذكريات تلك الليلة، عندما دخل على زوجته مزهوا بكسبه لها على طاولة القمار، عليها اللعنة، فأخبرها بالقصة. نظرت إليه بنظرات كنظرات أبيه وهو يعطيه أول مبلغ ربحه من علاقته بالطاولة، ثم مضت، لم يسمع صوتها منذ ذلك الحين، كانت لا تعطيه حقوقه إلا عنوة، فكرهها. زاد إدمانه بعدها للطاولة، صار يفرغ كل همومه ورغباته أمام تلك الطاولة. هل كان خطأ زوجته؟ أم خطاه هو؟ أم خطأ القدر؟

أيقظه صوت ارتطام أشياء في الأعلى من سكراته، حدق في السقف كأنه يريد إن يستشف ما حدث من خلاله. كان الصوت قادما من غرفته الخاصة، غرفة نومه. حاول النهوض لكنّ قدميه خذلتاه. ازداد الارتطام حدة حتى خال أن السقف سينهار على رأسه، قفزت الأسئلة إلى رأسه هل ...؟ هل ...؟ هل ...؟

لم يستطع إكمال السؤال، سكت صوت الارتطام، ازداد طرق الأسئلة على رأسه حدة، أحس بأن رأسه سيتطاير إلى شظايا فوضعه بين يديه، ظل يضغط على رأسه بشدة في محاولة يائسة لإيقاف طرق الأسئلة على رأسه. سمع حركة أقدام على السلم، فتح عينيه عن آخرهما، حدق في السلم، إنه الآن وليس ذكريات، إنه يحدق في الآن، في الحاضر، كان صديقه يهبط السلم، حدق فيه، متحشرجا: هل ...؟ هل ...؟

لم يخرج صوته، اقترب صديقه من الطاولة، عليها اللعنة. التقت أعينهما للحظة خالها دهرا من قسوتها، امتزج الماضي بالحاضر في مخيلته، أدرك إن هذا ليس ماضياً بل حاضر شاخص الآن إمامه، كان بالأمس قد راهن على هذه الطاولة، عليها اللعنة، على آخر ما يملك. زوجته. نعم زوجته. هل كان يحاول الانتقام لرجولته المهدورة كل يوم أم كان ينتقم من نفسه؟

ها هو صديقه الذي كسب الرهان يخرج من عندها، قفز السؤال مرة أخرى إلى رأسه هل ...؟ يرفع رأسه من على الطاولة ليبحث عن الإجابة في وجه صديقه، هل أكمل صديقه السؤال في رأسه؟ أم أنه كان يعرفه؟ أم قرأه في عينيه؟ فقد أجاب بابتسامة ملؤها الخبث وبهزة من رأسه: نعم.

سقط رأسه مرتطما بالطاولة وهو يتمتم بلا صوت: نعم ماذا؟ نعم ماذا؟ نعم ماذا؟

بلغت روحه الحلقوم عندما رأى زوجته تجرجر أذيال خيبتها على درجات السلم هابطه باتجاهه. أغمض عينيه هربا من نظراتها لكنه رآها بوضوح أكبر كأنها كانت تتحرك بين جفنيه. ظل يضرب رأسه بالطاولة بشدة لا يدري هل كان يحاول تحطيم رأسه أم تحطيم الطاولة. أوقف الضرب عندما وقفت أمامه زوجته. رفع رأسه. كان يود أن يقول شيئا ما لها، عاجلته بصفعة وبأخرى قبل أن يفيق من هول مفاجأة الأولى، وثالثة.

سقط على الأرض فركلته بقدمها ومضت إلى الخارج، تدحرج على الأرض، حاول التشبث بأقدام الطاولة. ارتفع إلى نصف الطاولة وواصل الارتفاع حتى وقف على قدميه لكنه فجأة أحس بالطاولة، عليها لعنة الله، تخذله وتتهاوى إلى الأرض. أحس وهو يهوي إلى الأرض معها بأنها النهاية. سمع صوت أبيه يقول بكل رضى وتقديس: "إنها الأرض، أمنا. منها جئنا، وإليها نعود."

D 1 شباط (فبراير) 2010     A هويدا سليم     C 0 تعليقات