هيام ضمرة - الأردن
أرجوك أبي
ببؤس الوحدة بدأتُ أولى خطواتي وعلى تردداتها سارت حياتي. ووجدتني مضطرة أن أُلملم على حطام الأماني أطرافها وأقبع في زاوية من زواياها، تؤذيني وحدتي إلى أبعد الحدود ويعذبني صمتها رغم استغراقي الخياري بأركانها، إلا أن الوحدة راحت تنحت بعمق نقوش تشكيلاتها على أجزاء حياتي، تحتل بواطن عقلي وكياني وتتماهى على خطواتي بدأت نفسي تتقبل وحدتي منذُ زمن لستُ أدري مبدأه، لكني أُحس وحشتها قد طغت على كياني، وكبيت العنكبوت تمددت داخلي، نمت وشاخت في عقلي وتشكلت عقدتها الباهتة على سلوكي، رغم سني عمري العشرين، فكيف ستكون عليه خطواتي الباقية؟ ومن يقلقه أمري إن نجحت بها أو لازمني الفشل؟ فقد كنت مجرد شيء طاف على سطح هذه الحياة.
قدري أن أكون ثمرة لزواج قصير فاشل، ليتخلى عني والدي طفلة رضيعة، حين كانت تذوب لدانتي على السواعد الحانية، رحل بعيدا مع ذاته متحررا من مسؤوليتي، يجرجر ثقل أنانيته بلا كلل، و حتى لا يساوره الحنين قلّم ضميره كليا من المراجعة، انطلق إلى عوالم الدنيا يقطف من كروم مباهجها بلا حدود، فالحدود في يقينه أداة مرنة، تارة تتشبث نفسه بظلال الرصانة وأخرى يُبعدها عنه طغيان الاغتراب قلبه بنفس رخاوة حياته، أدمن لعبة التنقل من زواج إلى آخر نافضا يديه من نبض مسؤولية ثمارها، فلا الابنة ولا الابن كان يربطه إلى مسؤولياته، شدته قارة الأحلام في الشمال الأمريكي فارتمى في أحضان تضاريسها، يتقيأ رغباته على أرصفة طليقة، محررا ذاته من ذاته مثلما حررها من قيود الانتماء، أحب النساء فوجدهن في كل مكان، تزوج الأمريكية لتمنحه جنسية بلادها، بينما ذهنه يلتقط الموجات من كل إرسال، وحين أضحى المواطن المكافئ، ودعها مهاجرا مخلفا وراءه طفلين تُنشئهما والدتهما في قفار أبوة هائمة.
تزوج بالأخرى، نجحت في أسره مدة كافية لإنجاب طفلين تتهافت وسامتهما على اجتذاب سحر الاحتواء، ومع ذلك نزعهما عن جلد أبوته على عجل وارتدى جلباب التنصل من جديد، ونسي أن هذه القارة تضيّع أهلها وتُخفي آثارهم، وراح ينقش له في كل ولاية أثرا، تعددت الزيجات وتعدد الأبناء المهجورين، مطلقا على الدوام أجنحة الهروب متخففا من كافة مسؤوليات تنشئتهم، حارما إياهم من وهج الحنان الأبوي ومن قدوة التمثل، يغرقه الزمن في متاهات أنانياته لا يقلقه جوى شجن ولا يجتذبه حنين، وقد أصبح إنسانا زلقا متزحلقا تنزلق خطواته على منحدر حياة لا يدري أنها ستغرقه يوما بالألم.
ما تحمله إليه المرآة كل صباح، من وضاءة وجه وتواؤم ملامح تعبئه بالغرور، خاصة وهو يقرأ انعكاس ذلك على وجوه النساء، فيغوص في أعماق أنانياته وانتشاءاته، متغافلا حاجات أبنائه متساهلا بالإنفاق على نفسه بلا حدود حتى وجد نفسه في خريف العمر منهك القوى والأنفاس، يتخبط في وحدته، يتمدد نهاره على مسنن الملل، ويجتاحه برد الليل على أعتاب جدب قاتل.
في غمرة تجواله وتوهانه قادته الصدف لصُحبة متدينة، فألفت نفسه صحبتهم، ووجد روحه تصفو بينهم خاشعة في رضا الرحمن، وقد كان أرهقها بترحالاته واغتراباته في زمن احتار له العاقل وتاهت عليه خطوات الواهمين والمغترين، ورغم أن رياح التغيير ظلت تطارح عقلة بلا هوادة، إلا أنه ثبت بيقظة إيمان عالية هذه المرة، فقد كانت روحه متعطشة للسلام مع الذات، وضميره مثقل إلى درجة التوجع، تلاوعه من أقاصي الذاكرة جذوة محرقة، فغدت روحه كيانا من توق، تهفو بلهفة محمومة لأطياف الماضي، ويُعذبُه أنه يوما تركها مع الجرح مغطاة بالملح وابتعد عقدين لا يلوي شيئا، فيتوهم أن أصواتا تناديه وغربانا تحوم في رأسه، يرى في نفسه حصادا معطلا مفقود السبلات.
ومن أكداس الحزن نفض عن رأسه سحابات احتدام قاتم. بحث عمّنْ كنّ زوجاته، فإذا بعضُهنّ في عصمة أزواج صانوا العشرة، وتمتعوا بأجواء الأسرة المتراحمة والمتماسكة على الوفاق، وبعضهن الآخر مع أبنائه ذُُبْنّ في محيط شاسع بين الولايات، واختفى أثرهن تماما ربما ليأس الرجاء منه.
شاء قدري أن أكون جزءا من الحياة المقصية ثم المنسية لهذا الرجل، فمنذ أن بدأت مداركي تعي مجريات ما حولي، وتبحث عن هويتي وانتمائي الأسري، كان أبي مجرد اسم يلتصق باسمي، شيء طفيلي لا أدري ما صلته بي، وما صلتي به، أعيش مع جدتي لأمي منذ زواج والدتي من قريب لها، ورغم أنها تسكن الشقة المقابلة لشقة جدتي بناء على موافقتها المشروطة لهذا الزواج، إلا أن ابتعادها أصبح أمرا واقعا. وقد تكونت لها أسرة جديدة، تكاد همومهم تنتزعها من ذاتها، لتصبح الأم المجزأة ما بين أطفالها داخل منزلها وبيني في منزل جدتي. قد يطالُني منها قدر يسير من الاهتمام، حتى أصبح وجودها قربي مجرد طيف يبحر على جدب التمادي.
نعم أحببت إخوتي وأخواتي من أمي، إنما في غفلة مني تساقط الصقيع في بؤرة روحي ليصب الحسد لهم في نفسي ويذكيها بالتنائي والاغتراب، ورحت أتقوقع داخل نفسي وأنكفئ في واديها المقفر البعيد، فما الذي سيصرف السؤال عن رأسي ويسحق حبيبات قهري، فما داموا إخوتي، لماذا عليّ أن أنفصل عنهم مساء لأقبع وحيدة غرفتي بينما تسلم جدتي وعيها للنوم المبكر، وفيما هم هناك في أحضان أمهم هانئون لا يعبُر الملل على أرواحهم؟
ومع وحدتي كان ينمو عشب التصحر داخلي، والبرد يرصد آمالي ويفترس مشاعري، خاصة حين بدأت أعي معنى اختلاف الانتماء باختلاف الأسماء، ولا تفوتني تلك اليد لوالدهم وهي تمسح على رؤوسهم وتتعدى رأسي، وقبلاته الجافة حين كنت أُلقي ببراءتي الطفلة في أحضانه. حقا الوعي منْحةٌ إلهيةٌ مُثلى للبشرية، لكنه حمل إليّ الألم المُعذب من حالة النبذ المؤلم المُعايش لحياتي، كنت كما الشهب الساقط في غير موقعه وغير زمانه، يُربك حياة الجميع، وليس من أحد يهتم إلى أي قدر كان يربك بالبؤس حياتي.
وهكذا، ظهر أبي فجأة دون سابق إنذار، تذكر مفقوداته (إذا ما كنت حقا فُقدتُ منه)، اكتشف أن ما تخلى عنه يوما أصبح ذا قيمة ثمينة وقد أسقط في مهاوي غفلته ستة من أبنائه، ابتلعتهم أصقاع الأرض واليُتم جرّحهم. كان واضحا أن تساقُط أوراقُ خريفه أنعش ذاكرته لربيع أبناء نضجت في البعد ثمارهم فراح يبحث في دولاب حياته ويقلب ما كان بالأمس شيئا ليس ذا بال، بل شيئا منسيا، فاته الكثير من معاني الأبوة، لم يدرك أنها مشاعر تنمو في دفء الأحضان، لتسكن في العقل والوجدان، يعززها الكثير من المؤثرات الحسية والعاطفية المتبادلة.
وحين تذكّرني لم يأت ليقدم نفسه إلي، ويعتذر عن الجزء المفقود من ارتباطنا، ولم يمسح يده على الرأس الملتهب بمشاعر الشوق، بل أرسل حوالة بريدية بمبلغ مائة دولار تُخبرني أن ها هو قد تراجع عن هجري، رحت أقلبها بين أناملي بمشاعر جافة:
"لماذا الآن؟ وأين كان حين كنت في حاجة إليه؟ ولماذا لا يصنع المبلغ أو مرسله السحر في قلبي؟ وما حاجتي الآن إلى الأب وأنا على أعتاب التخرج؟ وهل هذا المبلغ لشراء مشاعري أم للتعويض عن هجري؟ إن كان كذلك فقد أساء تقدير تجارته على الحالين."
استجبت ذلك اليوم لنداءات الهاتف، ولكني وجدت يدي تلقي بالسماعة بعيدا حين استقبلتْ أُذني صوتا ذكوريا آتيا من الجانب الآخر، يُعرّفُ عن ذاته بأنهُ والدي، صفعني الاسم بقوة ترنحت لها نفسي من الداخل، أخذتني المفاجأة في تلابيب دهشتها، واهتز جسدي مرتجفا حتى وجدّتي تعيد سماعة الهاتف على أذني بعد أن عرفت هوية المتصل، فقد سقط صوتي في سحيق مصطخب، وشريط مهتز من مواقف مبعثرة يمر على ذاكرتي يجرح كينونتي، لتغوص روحي مذبوحة تئن عن وجع اصطباري. وجدت خذلانا بيدي يُعجزني عن التقاط السماعة ثانية، وقفت منصتة وسط ذهول وأحاسيس تنتحب داخلي، فقد كانت روحي تطفو على سطح متماوج وسط محيط يعجزني عن بيان مواقع الشطآن مني.
ورغم تكرار اتصالاته ومحاولاته التقرب إليّ، وجدت عقلي رغما عني، يتمترس خلف صور ضبابية حفرت أثرها بجلافة على أحاسيسي، حين كان يعزو كل أمر سلبي يصدر عني، إلى تذكيري بتخلي والدي عني وإقصائي من حياته ومن مسؤولياته، فينمو المارد في عقلي ويزداد تمردا.
زيارته الأولى كان لها وقع الصاعقة على أحاسيسي، وجدت نفسي في مواجهة رجل لا أعرفه، لم أستطع أن أرى فيه غير أنه رجل غريب يتطفل على حياتي، وحين حاول معانقتي وجدت رفضا عنيفا داخلي، دفعته بذات القوة التي أدفع بها أي غريب عني، لم أستطع كبح جماح عقلي عن استنفار دفاعاته الطبيعية، أيلقيني قطعة لحم صغيرة ويعود ليلتقطني شابة على أوج التخرج؟ أي إجحاف هذا وأي تمادٍ بالظلم؟
ذات يوم وقد كنت أعتقد أن مساحة التصحر في نفسي قد بدأت تنحسر قال لي:
"إني أرتب لك يا ابنتي حياة مُثلى وزواجا رائعا."
تأملت ملامحه ستقرئ جديته المتجارئة فمن هذا الغريب الآتي من خلف الضباب ليرتب على مزاجه حياتي؟ ويسرق حق من ربوني وأنشأوني وعبأوني بالدفء، حين أدار لي الظهر وولى بعيدا مختفيا لا يعنيه بردي فقلت وطعم المرارة يجرح حلقي:
"إلى أن تتمكن من ترتيب حياتك سيكون من رباني ورعاني هو صاحب الحق في ترتيب حياتي."
شد جفنيه عن عيون متصلبة غير مصدق ما يسمع وقبل أن ينطق اعتراضه أكملت.
"لماذا ظهرت الآن وما الذي ترمي إليه؟"
ردّ وهو يداري غضب فضحه صوته: "إنك ابنتي، حبيبة قلبي."
"ماذا تعرف عني؟ هل تعرف كم مرة كادت حرارة المرض أن تطوحني نحو قبر فاغر مدخله؟ هل تعرف كم مرة تعثرت وفتح الحصى فجوة في ركبتي؟ هل تعرف أول كلمة نطقتها؟ وأول خطوة خطوتها؟ وأول يوم قضيته في المدرسة؟ هل تعرف شيئا في أي المواد تفوقت وفي أيها تعثرت؟ هل تعرف بأي الظروف تجاوزت المرحلة الثانوية؟ وكيف تدبرت والدتي مصاريف تعليمي الجامعي؟ واضطراري العمل إلى جانب الدراسة لتأمين مصروفاتي، وكم رثيت لحالي والحيرة تعصف بأركاني كلما أقبلت امتحانات كل فصل دراسي ماذا تعرف عن كل ذلك؟ أين كنت خلال تلك الأوقات؟ كيف تذكرتني وبأي الملامح تصورتني؟ ومتى فقط أصبحت ابنتك الحبيبة كما تدعي؟ ماذا تعني لك الأبوة؟ هل الأبوة تقف عند الارتباط الجيني فقط؟"
ابتلع ركام غضبه عنوة وقال وهو يضغط على كلماته، وأصابعه تتصلب على مسند المقعد، فيما أقف أمامه أنتفض كشرنقة معلقة على جذع
"أنت ابنتي من صلبي. أنت لي، وأنا والدك."
بصوت مسحوق وقلب مدنف بسحائب الحزن قلت:
"اسمح لي بالقول إني لستُ أعرفُك، وتكاد لا تعرف أنت عني غير رابط جيني لم يحرك بالسابق فيك أبوتك نحوي، ولتعلم انه على ذلك رابطنا هش، وانتماؤنا لبعضنا ما هو إلا ضروب قدر ليس إلا، أنت تحمل عني ذاكرة قطعة اللحم النابضة التي ألقيتها خلفك، وأنا أحمل منك اسما متطفلا، والمعادلة على هذا النحو لا تبيح لك ما لست أهلا له.
تركته يعفر بغضب مستشيط، وابتعدت وأنا أقبض بكف قوية على جرحي، لا أدري من أين واتـتـنـي هذه القوة، أو لماذا رفضه عقلي، كل ما أدريه أني عايشت اليتم واحترقت بجماره وشربت مرار لوعة حطام نفس تكسرت بلا ذنب ولا مبرر، فبأي أبوة بعد اليتم ظن أنه قادر اليوم على أن يطفئ بي احتراقه بعدما جردني مختارا من حقي.
◄ هيام ضمرة
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ