عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 7: 72-83 » العدد 82: 2013/04 » فاتن الليل: مساءلة الوعي الوجودي

د. أحمد بلحاج آية وارهام - المغرب

فاتن الليل: مساءلة الوعي الوجودي


مُسَاءَلَةُ اَلْوَعْي اَلْوُجُودِي: مقتربات أولية لديوان "فاتن الليل" (*) للشاعرة المغربية نجاة الزباير

* الناشر: منشورات أفروديت. العدد 21. مطبعة وليلي، مراكش (2012).

أحمد بلحاج آية وارهام قفزة الانجراح بالوجود:

نجاة الزباير اسمٌ يُبَسْتِنُ وجودَنا الإبداعي، وبخاصة الشعري منه؛ ويحملنا على الإصغاء إليه بكل ما لدينا من حواس، وكل ما لدينا من حمولة معرفية. فهو يأتينا بإبداع شعري مشجون بأنفاس الفرادة في زمن يطفو فيه الغثاء على الجوهر، وتعلو فيه حمَّى الرداءة إلى حدٍّ لا تعرف له سقفا.

منذ ديوان الشاعرة الأول "أقبض قدم الريح" الذي تلاه ديوانا "قصائد في ألياف الماء" و"لجسده رائحة الموتى" وهي تشكّل فسيفساء الروح، وفسيفساء الواقع، وفسيفساء ما وراء الواقع، لكي نوغل في مرآة هذا التشكيل والتشاكل، ونكتشف ماهيتنا المقنعة بأقنعة النار والتواطؤ والتحربؤ.

وما ديوانها "فاتن الليل" سوى قفزة شعرية في هذا الفضاء، تقفزها أنثى انجرحت بالوجود، واكتوت بناره غير المقدسة، مثلها في ذلك مثل شواعر أخريات معاصرات يفتحن للكَلِم الشعري آفاقا جديدة لم يستطع الشعراء اكتشافها، والراصد لجغرافيات الشعر الحالية بمختلف تضاريسها سيدرك ذلك لا محالة، فمختبر الشعر اليوم هو مختبر تسهر عليه الشواعر بجدية يتشابك فيها الحدَبُ مع الدقة، والرقة مع الفطنة، كما تسهر الأم في سرير القمَر على وليدها.

وقد تبين لنا، نحن المدمنين شعرها، أن هذا الديوان يتضمن رائحة اختلاف عن سابقيه، هو يذهب بك إلى مناطق يبتسم لك فيها الحَوَاكِبُ (=الحكَّام العناكب)، ويرشونك بماء السراب بُغية تدجينك وتليينكَ. ولكن متى لاَن لِضِرْسِ الماضغِ الحجرُ؟! وإلى مناطق تُؤزِّمك لتتألق كما نجمةٌ في كهوف المجوس، ومن ثمة تؤوب إلى ذاتك مشتعلا بسؤال الوعي الوجودي، وبكعكة التخييل التي تُعطيك مُنَّة(=قوة) لاجتياز أسوار الإشكاليات الملتهبة في عالمك الذي هو أيضا عالمُ الآخرِ الثاوي فيك، والصاهل بأبعادك.

وتتغيا هذه القراءة الدنو من الديوان بثلاثة مُقْترِبات أولية، هي: هوية الفاتن، وتربيعه، وآليات إنتاج الصورة داخله.

=1= هوية الفاتن:

إذا كان لا يُمكننا أن نرى الحقيقة كلها في قطرة ماء، أو في مرآة ذات بُعد واحد فكذلك القصيدة، فحقيقتها "هي ما لا هي" حسب تعبير محمود درويش. ولذا نجد أنفسنا أمام ورطة جميلة حين نتناول إبداع الشاعرة نجاة الزباير الذي هو عُملةٌ ذات وجهين. فهي تكتب نثراً رائعا كما حدائق الفردوس يتماهى مع ما تكتبه من شعر ويتجاسدُ، وهي بهذا الصنيع تدخُل في فلك الشعراء الذين يأخذون بتلابيب وجدانك ولُبّك كلما قرأت شعرهم ونثرهم، من أمثال: أمين نخلة، بُّوَلْسْ سلامة، نزار قباني، محمود درويش، محمد الصباغ، وغيرهم من الشعراء المعاصرين.

غلاف ديوان نجاة الزبايروفيما يخص شعرها فإنه يُمِدُّنا بذلك "الفرح المختلَس" الذي يسرقنا من ورطات الحياة، كي يتباعد بنا عنها نعود إليها، ونحن أكثر وعيا، وأكثر قدرة على المواجهة(1). فشعرها هو زهو اللحن(=الفِطنة) الذي يتلألأ كنجمة المستحيل ضدّاً على الأباخس (=الأصابع) التي ترسم على الذاكرة صدأ المألوف بريشة العوائد. فالشعر مسيحٌ يُحيي موتى الأرواح، وفِعلُ الإحياء هنا تنداح دلالاته الرمزية إلى أقصى مداها. وتلك هي الفتنة: فتنة الإبداع عموماً، وفتنة الشعر خصوصا. فنحن نعلم أن الليل هو فضاء الإبداع، والليل زمن، أما المكان فهو مَهْمَهُ الخيال الذي يمضي فيه القلب باحثا عن محلوماته على جناح الظل الغريب للنور المفَضَّض المهيب. فالفتنة لا تأتي إلا في الليل، إذ في الليل تفتننا الظلال بلغاتها وامتلاءاتها التي تجعل الأموات ينظرون إلينا وكأننا أشباح، رغم نقل أجسادنا على كاهل الدنيا.

وكما يسحرُ الشعر الليل ويفتنُه، فإنه يحمل عن الإنسان أعباءه الروحية، ويقوده إلى مناطق يتصالح فيها مع ذاته ومع غيره، تقول الشاعرة:

بَيْنِي وَبَيْنَ قَصَائِدي

ألْفُ كَبْوَةٍ

فَتَعَالَ أَيُّهَا اَلْفَاتِنُ

كَيْ تَحْمِلَ عَنِّي حَقَائِبِي(ص:50).

هي الرحلة إذن؛ ولكن إلى أين؟ إلى جهة يتم فيها تربيعُ هذا الفاتن قصد النظر إلى الوجود من خلال أضلاعه، واستكناه ما يتناغل فيه، وقصد مشاكسة وعيه بمبضع المساءلة.

=2= تربيعه

نستطيع أن نجمل النظام الدلالي لديوان "فاتن الليل" في أربعة موضوعات thèmes أساسية؛ هي: الحب، الحرية، الحرب، الحلم. ففي هذه الموضوعات المبدوءة بالحاء تسْبح لغات العالم المختلفة لتقول الإنسانَ والوطن وفلسفةَ الحياة.

رسم بياني

إن أضلاع هذا المربّع تشغل مساحةَ العالم ومساحة الذات، ومساحة الآخر. ومن لم يرها في مجراه الأنطولوجي يكون أكمهَ البصر والبصيرة.

الرؤية من هذه الزاوية هي التي ستبين لنا الطريق الأنسب للوصول إلى الوجود المُعافى، وإلى المصالحة مع العالم، ومع الذات، دون السقوط في وحَل الحياة الذي يُسَمّيه النقدُ المغموسُ في محبرة الحداثوية نبضَ الشارع، وتفاصيل الحياة اليومية. فالشارعُ شوارعٌ، والإنسان فيها متشظٍّ ومكمودٌ، والتفاصيل طاحونة مائية تتشابه قطراتُ مائها، والشعر منذ كان هو ضد التشابه والتناسخ والتكرار، ومع التميز والفرادة والاختلاف. وهذا هو مقُولُ "فاتن الليل" الأجدُّ.

نجاة الزبايرالشاعرة نجاة في هذا العمل تركز على السِّمة الرئيسية التي تطبع فكر الإنسان، ونقصد هنا فكرة التناسق الأصيل، والفهم الجذري للبيئة المحيطة، اللذين يجعلان الإنسان قادرا حقا على أن يسكن عالمه دون تصنع. وعلامة هذا هو الطبيعة نفسُها؛ التي هي منطقيا العالم نفسه للإنسان بالنسبة إلى الإنسان، والتي لا تُترَك أبداً عُرضة للّامعنى الذي تخلفه الأحداث العارضة عادة، أي الأحداث التي تُكون ما يسمَّى التاريخ. فالعالم من منظور الإنسان البدائي يتخذ طابعاً أنطولوجيا، لا طابعاً تاريخيا، إذ التاريخ لا وجود له في صيرورته.

وفي هذا المعنى لا يعود للإنسان البدائي ذلك الموقع المركزي الذي يسبقه عليه الفكر الإنساني النهضوي. وفي المقابل فإن موقعَ الإنسان – حسب ميرسْيا إليادْ – يمنعه من أن يؤله نفسه، ولكنه يُعطيه مكانة أساسية في الكون، وقداسة مرتبطة به منذ ولادته، تكون هي التي تمنحه مدارَه الروحي.
وهكذا بدلاً من أن يكون التقدم التقني خطوة على طريق إبعاد الإنسان عن هذه النزعة الروحية والعاطفية، فإنه يُصبح خطوة إضافية على طريق تأكيد إنسانيته وسماته الروحية(2).

وهذه السمة التي تُلحُّ عليها الشاعرة في متنها الشعري هذا تتخذ لبوساً جماليا فنيا يكاد يقترب من الرمزية بالتباساتها الملونة، حيث نُلفيها تمتشق تأملات الفكر الفردي المتشظي وجدانًا، والمثخن بمعضلة الوجود، وتصوغها بفنية لغوية عبقة، وشعرية مفارقة لتوصل ناتجَ تجربتها أو حكمتها إلى المتلقي، وكأنها على صهوة النار.

وترتبط بهذه السمة سمة أخرى تتجلى في العنوان الذي هو مركّب إضافي، يدل على نقيض الدلالة السطحية له، مما يعني أن الليل بكل تلاوينه المشجية والجارحة لابد أن يذوب إذا أضيفت إليه قطرة فتنة ساطعة. وهذا هو معنى الخلاص بالشعر، والخروج من طريق الجحيم إلى أفق مختلف تتمرد فيه الذات على الميتافيزيقي والثيولوجي؛ المغتبطين بهُويتهما العمياء عن كل ما عداها؛ لتقول هوياتها المقموعة، وتُجابِهَ معضلات الوجود التي تعانيها فكراً وتأملا وإبداعاً. وبهذا الصنيع تكون الشاعرة قد وضعت أقدامها الشعرية على بساط الفكر الشعري المُباين للفكر الفلسفي، إسوة بكبار الشعراء المعروفين بتأملاتهم الشعرية، فالأنا التأملية عندها تمُدُّ بصرَها لترى كل شيء في حقيقته الوجودية، وتبحث عن دلالة الموجودات، للكشف عن جُرثومتها(=أصلها) الفيزيقية والميتافيزيقية. وهذا هو سرُّ سحرها الشعري وجرأتِه.

فالجذر الأصلي للشعر مغروسٌ في الذات الكونية، لكنه يطير في مختلف السموات والأقاصي بجناحين: جماليته وروح منافحته عن جوهر الجوهر في الوجود، فهو "الصمت والموت الذي يشرب قهوة، وينتشر على الجسم كالقمح" على حد تعبير المرحوم محمود درويش. فانهمام الشاعرة بهذا الانتشار للشعر على جسد العالم هو الذي دفعها إلى توزيع الجسد النصي لديوانها. هذا على أربع جهات؛ هي الحرية، الحب، الحرب، الحُلم. وهي موضوعات تتلبسُ الذات والعالم، وتشتغل في الوجود كما الهواء.

=2=1= الحرية:

هي حق الإنسان الطبيعي الذي يَدفع ثمنه غاليا على أيدي مغتصبيها من الطغاة وسدَنَةِ الظَّلَمُوت، ومن الحَواكب (=الحكام العناكب) المتألهينَ، الذين يعُدُّون دبيبَ محكوميهم على الأرض حريةً ما بعدها حرية، أما الشعور بالكرامة، والإحساس بالأمان، والامتلاء بالآمال فمفسدة لا يُقرُّونها. وإزاء تصور استبدادي كهذا؛ ماذا يستطيع الإنسان الذي استوت النقائض في قلبه أن يفعل؟ هل يفتح كُوة في جدار الزمن الذي يستحيل فيه وجود آمنٌ؟ أم يستجير بالحلم هرباً من فضاء لا يعترف له بالانتماء إليه؟

إن الحرية هي القيمة الوحيدة التي تجعل من الموت ميلادا، ومن الكائن قبلةً مضيئة على جبين الكون، نجلس في روضة إشاراتها لنصنع وطنا من الوجد:

كَانَ يَعُودُ إِلَيَّ مِثْلَ أُودِيسْيُوسْ

وِفِي نَعْلَيْه قِنْديلٌ ضَوْئِيٌّ

يَعْلُو زفيرُ جُرْحِهِ.

يَرْسُمُ مَمْلَكَةً مِنْ حِبْر ووَرَق

تَنْهَارُ فِيهَا تَوارِيخُ أَوْلَمَتْ فَجائِعَهُ

أقرأُ فِيهَا شُمُوخَ حُزنِهِ

فَتَتَعانَقُ فِيهِ اَلْمَسَافاتُ(ص ص:61، 62).

والمسافات، أي العالم؛ لا تتعانق إلا في مَنْ أشرقت فيه ومنه الحرية بكامل بهائها الذي هو روحُ الإبداع، ونقطة إدراك الأشياء في الكون، والاعتراف بهُويتها:

كَانَا عَاشِقَيْنِ

يَكْتُبُهُمَا اَلْوَقْتُ قَصِيدَةَ وَجْدٍ

وَكَانَا لِلْحُرِّيَّةِ وَاَلْأَمْطارِ يُغَنِّيَانِ

(...)

اَسْتَنْشَقَتْ أَسَاطيرُهُ

وَفِي جُبَّةٍ الصَّبَابَةِ

اَتَّكَأَ اَلْجُرْحُ وَنَامْ(ص ص:43 ، 44).

فالحرية لدى الشاعرة مطرٌ يُخصبُ الأجسادَ، وينبتُ فيها أزهارا تتضوع بروح الأسطورة التي تقودنا إلى شهوة الخلود، وتفيض علينا سمَاديرَ (=رؤًى)، نقاوم بها فظاعات الحياة وآلياتها النَّهمة للدم وهي كذلك قصيدة تجعلك نزّاعاً إلى الشك، راجما كل مَنْ وما حولك بالأسئلة الحارقة الموجعة:

وَأَنَا فِي وَحْدَةِ الصُّراخ

أحتَسي غُصَّةَ اَلظُّنُونْ(ص:57).

وإلا فإنها خارج هذا لا تعدو أن تكون مجرد ثرثرة تتوهم أنها سفينة تجوب قارات الشعر المجهولة، لا توقظ فيك لهب الحرية الأزرق، الذي هو أثمن من الرغيف، ولا تعطيك فسحة لقراءة غيرك وقراءةِ ذاتك، واكتشاف المسكوت عنه قهرا وحيفا. فنحن بالحرية نُبصرُ المعنى وما وراءه؛ معنى الوجود ومعنى الأشياء فيه، معنى القيم، ومعنى أن نكون شجرة على الأرض تغذي الحيارى وتُظلهم من فجائع الحروب، وخسارات الحب، وانتكاسات الأحلام.

=2=3= الحب:

هو ثاني أضلاع هذا المربع، ونعني به تلك القوة الوجدانية الشفافة التي لا تغتني الحياة وتعمُر إلا بها. فهو قيمة القيم الإنسانية التي تضم الأرض والسماء في رداء من التناغم والتكامل والتفاعل:

أُعَلِّقُ هَذَا الْهَوَى تَميمَةً

فَوْقَ هُدْبِ نَهَارِي

فَأمْشِي فِي مَفَاصِلِ الْجُرْحِ

تَتَلَصَّصُ عَليَّ

مِنْ ضِفَافِ اَلْقَصيدَةِ

فكَأَنِّي أَقْطِفُ مِنْ الْغَيْمِ

قُبْلَةَ ابْتْهَالاَتِي

وَذَيْلُ هَذَا اَلْوَقْتِ اَلطَّويلِ

يسْكَرُ مِنْ كِأْسِ حُلْمِي(ص:53).

فإذا كان الهوى تميمةً تُعلقها الشاعرة، فهو كذلك فرحة كائن يستبدل الحرية بالضرورة، وسعادة قلب يتحسَّسُ ما خلف الوجود على صفحته، ونفحةُ وعدٍ تحملُ العاشقين إلى حيث ريحُ الطمأنينة:

كانَ يَخْتَفِي مِثْلَ أميرِ اَلْأَسَاطيرِ

أُطَارِدُ عِطْرَهُ

وَأَنَامُ فِي قَصيدِهِ

أَفْتَحُ أَقْواسَ جنُونِه

فيهَا طِفْلةٌ تَلْعَبُ بضَفَائرِ اَللَّيْلِ

وأُنثَى تنْثُرُ فوْضَايَ

تَكْتُبُ حِبْرَ جَسَدي

زهْراً

جَمْراً

وتَجْري مَعَ الرّيحِ

تُمْسِكُ بِأَظَافرِ شِعْري

تُدَاعبُ هَمسي(ص:37).

غير أن الحب يَعْتَل من الليل الموحش الذي يُولد فيه الرعب، وتُفتح الهُوات الوحشية، وتشتعل الظنون السامة(3):

ولَهِي مُهَاجِرٌ

فِي أصابعِ النَّزيفِ

واَستَرْخَى مَنْسِيّاً

كَطَلاسِم الْعَرَّافينْ(ص:27).

وفي الطلاسم يكمن سرّ التزاوج بين المادي واللامادي، وسرّ الزهرة الجامعة بين الحب والشعر:

جَاءَنِي ذَاتَ قَصيدَةٍ

بِثَوْبِ الْهَوَى

ارْتَدَيْتُهُ

تَبَخْتَرْتُ بَيْنَ اَلْمَعَانِي

(...)

أَفْرَغْتُ الْعُمْرَ في فنْجَانهِ(ص: 33).

إن هذا الإفراغ هو الذي جمع بين الحب والشعر في معنى هو النسمة العَفِيَّةُ التي تنتزع الحياة من الموت، وتفرض الحبور على الوجود، بها تؤذن به من ولادةٍ جديدة، وتبعث الصحة التي تقضي على المرض(4). فالشعر هو الحب متعددا، والحب هو الشعر متغلغلا في شرايين العالم، وفي اقتران التعدد بالتغلغل تتكوّن الاستجابة إلى نداء الظلال الذي تبثه المعاني، حيث تفاصيلُ المتعِ الروحية والمادية، وحيث تمتزج كل المُدركات رمزية أو غير رمزية، وتتجاوب الإحساسات، فيغدو المسموع مرئيا، والمرئي مسموعا، والمحسوس معنويا، والمعنوي ماديا، والاستعارات بصنوفها متواشجة كأنها مولود جديدٌ من رحم لغة جديدة.

وهكذا يصنع كل من الطرفين:(الحب، الشعر) وجودا للوجود، ويصبح الكائن في هذا الوجود مصباحا فريدا يُومض في أعتى العتمات. فهذان الزوجان إذن هما اللذان تتولّد منهما في الذات الكونية حوافز Catalyseurs مُناهِضة للحرب، أيا كان شكلها.

=2=3= الحرب:

إن الحرب؛ بمختلف ضروبها؛ تزعم أنها تعيد صياغة العالم، وتغذيه بلبانها، والواقع أنها ليست سوى أمّ عامر(=الضبع) أجّجها الطّوى المادي، فصارت تنتقل من جهة إلى أخرى فرَقاً من سهام السلام التي تطلقها عليها الإنسانية العاقلة(5). فوراء كل حرب نزعة لقيطة Batarisme تنخسُها ليتحول الكل إلى لقطاء مثلها، وهذا ما فطنت إليه الشاعرة، وأكدت استمراريته وتحولاتها بجملة فعلية ناقصة في قوها:

كَانَ العاَلَمُ يُصْغِي لِذَبْحِ اَلْبَرَاءَةِ

تَسَلَّلاَ مِنْ تَحْتِ رِدَاءِ اَلرُّعْبِ

رَأَيَاهُ يَهْذي بِوَطَنٍ زَائفٍ

وللظُّلْمِ يُصلِّي.

"هَلْ وَصَلْنَا؟!"

مَرَقَ اَلْفَتَى مِنْ تَحْتِ إِبْطِهَا

"عُدْ"

قَالتْ بِخُفُوتٍ لاَ يُسْمِعُ نَبْضَهَا

(...)

يا لَهذا اَلْجُنُونِ الَّذي خاصَرَ مَوْتَهَا؟(ص:21).

أو في قولها:

كَانَا لاَ يسْمَعَانِ غَيْرَ صَوتِ الرَّصاصِ

لَمْلَمْتِ المَرْأةُ شَعَرَهَا

مَسَحَتْ بِلُطْفٍ عَنْ ثَوبِهَا

تَعَطَّرَتْ بِقنِّينةِ الْحَرْبِ

وَرَكَضَتْ نَحْوَ بحَار الدَّم(ص:18).

فالحرب هي ذلك الكلب المسمَّى في الأساطير الإغريقية بـ سِرْبِرُوسْ". فهو كلبٌ له رؤوس ثلاثة وأعناق ذات أفاع، في الأساطير يحرس مملكة الموت، ويعذب الأرواح الخاطئة، أما في واقعنا فهو يدمّر مملكة الحياة، ويعذب الأبرياء قبل الخُطاة، ويستلذ الخراب، ويُحَوِّل الزمنَ جحيمًا للجحيم(6):

قُلْتُ للزَّمَنِ يَغْتَالُ البَرَاءَةَ:

"أَرَاكَ تُلْبسُنَا أَلْغَاماً

تُزيّننا بالأسَاوِرِ

وتحْفِرُ في كُلِّ رَحِمٍ قَبْراً

حَتَّى صَرَخَتِ الأَرْضُ

أَمَا اكْتَفَيْتْ؟!"(ص:25).

ويمكن أن نعتبر الأساورَ في قول الشاعرة رمزاً لأفاعي هذا الكلب، ورمزا لقيود التعذيب التي يُصفدُ بها من وقع في دائرة نُباحه الفظيع. ومن هنا يتحتم إلجامه حتى لا تصير الأرحام قبوراً، والأرض مساحة للغياب: غياب القيم، غياب الكرامة، غياب التآزر والتسامح، غياب الشعر، فغياب الشعر كغياب الحياة، وكلا الغيابيْن لا يعني سوى الموت، والموت أنواع، منها: الصمتْ الكبير الذي هو معنى من معاني توقف المقاومة، وسيادة العُقم، واستكبار الرماد.

فالمواجهة مع الموت أصبحت خبزنا الواقعي، كما أصبحت الحروبُ مقياسَ تقدمنا، أما الإنسانية فهي رمادٌ في مهب الريح. وحينما يحتقرك البشرُ في كل بقعة حللت بها حينذاك ستدرك أنك لست على قيد الحياة، وأن الإحساس بالوجود شبحٌ أسطوري يسكن خلاياك الجذعية. فهل تستسلم وتترك حصتك من الوجود؟ أم ستقاوم بكل ما أوتيت حتى يتم الاعتراف بك كائنا هويتُه التكريم؟

أكيدٌ أن مُساءلة الوعي الوجودي بكل الوسائل التي تقتضيها المساءلة سيُشعل ضوءًا في النفق، وسيفتح طريقا سالكاً للخروج. فمادمنا نحلم فلن نعدم الوسيلة للعيش كما نحب، إذ الحلمُ هو ميقاتُ خطواتنا، وبوصلةُ أنفاسنا، به ندخلُ بوابة اللانهائي للقبض على عُشبة إعادة التكوين.
هل كلنا نفعل ذلك حقا لنتخلص من الوعي الزائف؟

=2=4= الحلم:

ليسَ الحلم هنا هو ما يتراءى للنائم من رؤًى وسماديرَ، وإنما هو ذلك الجنين المتخلّق من الواقع، التواق إلى الانعتاق والتغيير. فالثورة على الظلم والمهانة تبدأ دائما بالحلم وبالشعر، فهما قدماها الراكضان صوبَ أرض المستحيل، وفي هذا تقول الشاعرة:

تَمسّكتُ بِذَيْلِ الحُلُم

لَعَلِّي أَرْسُو فَوْقَ شَفَةِ القصِيدْ(ص:14).

وشفةُ القصيد هي المرام الذي يتلذذ فيه الإنسان بقبلة الحياة، ومادام الواقعُ كما تُصوره الشاعرة في قولها:

أرى جُثَثاً تستصْرخُ السَّمَاءْ

ومُدُناً مِنْ مِلْح ودمٍ وتُرابْ

كيفَ أمشي هَزيلاً بَيْنَ نَزيفِهَا

وقَدْ مَلأَ أنينُهَا هذا الفَضَاءْ؟!(ص:16).

فإن الإنسان سيستمرُّ في الحلم الذي يُعينه على اجتراح بدائل لهذا الواقع الملتهب الدامي. ونعتقد أن قصائد هذا الديوان تساعدنا على ذلك، فهي تقدّم لنا خبز الشموس لكي نقتاته، وتحرّضنا على التسكع في طرقات الحياة بحرية، وعلى الغوص في سراديبها الموحشات إلى أن نعثر على الحقيقة داخلها، ومن ثمة نتمكن من بناء مملكة العدل ضد مملكة الشر.

هي إذن قصائد تَصنع الحَتف والفتحَ الجميلين في الوجود بكلماتها. حتفَ الضبُع التي تشرشِرُ حروبا، فتجعلنا نعيش "لحظات الليل، الرحم، القبر، الغابة، ليل الخوف الداجي، والوحشة والرعب المتمرّد، والأحزان الباطنة الصخَّابة، ليلِ الجرح اليومي الذي ظل ينُزُّ دماً أسود في الصبح المقبل، علامة على سقوط الحاضر في المستقبل"(7)، وفتح وقتٍ يُزهرُ فيه شجر الأمنيات بدم التضحيات. فنحن لا نضحّي
إلا إذا سكَنَنا حُلُمٌ وضَّاءٌ فاتن:

كَمْ سَقَطْنَا فِي بئْر الحُلْمِ

نَحْمِلُ الْهَذَيانَ سريراً

وفَوقَ كَتِفِ الشَّمسِ نُصَلّي

"سيُورقُ شجَرُ الأُمنيات"(ص:34).

ولا نخال أننا نحيد عن الصواب الشعري إذا قلنا إن هذا الفاتن الذي أبدعته الشاعرة نجاة قد جاء بشجر الأمل والنور، بعد أن كان ديوان "شجر الليل" لصلاح عبد الصبور قد ألقى في وجداننا ومآقينا وذاكرتنا ثمَرَ الكآبة المُرّة، ودفعنا إلى اليأس من كوة يُطل علينا منها المستقبل، رغم أننا مع الشاعر الدكتور عبده بدوي كنا نقوم بـ"دقات فوق قلب الليل"، لكن ذلك القلب لم ينشق، ولم يتطايرْ شعاعاً، لينبثق من الشقوق والصخور ربيعٌ ممتدٌّ في المدَيَات والآفاق، فيه من الحُلُم الذي ولده الضَّوْعُ والإشراق، والإصرارُ والمتعةُ والبهجة:

حُلُمي عُشْبٌ

يتَلَوَّى في الْعَتَمَاتْ(ص:58).

فالتلوي انفتالٌ ومقاومة للعتمات التي تكرَهُ العشبَ لكونه ينعش الروح ويبهج العين، ويداوي الأسقام. والجملة الشعرية الإسمية هنا تدلُّ لسانيا ونحويا على ثبات كل هذا ورسوخه. مما يؤشر على أن الشعر عند الشاعرة هوعُمقٌ أونطولوجي، وليس حديثا يوميا عمّا يجري ويحدث على السطح، ولا شعيرة احتفالية. وإنما هو إضاءة للدواخل التي لا تُرى، بما لم تُضئها به التعبيرات الجمالية الأخرى. وبهذا يكون الشعر رفضاً لشروط الضرورة غير الإنسانية، وسعياً إلى التحرر منها.

تقودنا هذه الجولة في أضلاع الفاتن إلى التساؤل عن كيفية اشتغال الصورة داخله، وعن الآليات الجمالية لسانا وتركيبا وإيقاعاً وتناصّا التي يتم بها هذا الاشتغال.

=3= آليات إنتاج الصورة داخله

يقدّم الديوان شحنة عالية من الانفعال الواعي بالعالم، وبخصوصية ما يمكن أن تُقدمه اللغة؛ المعجونة في قصعة التخييل بماء الصور وملح الإيقاع؛ من متاع العالم ومذاقه ونكهته. والسر في ذلك هو لجوء الشاعرة إلى استخدام تقنيات مفترضة من فنون أخرى (= السرد، السينما، الأغنية، التشكيل) جعلت الجسد النصي حقلا لمجازات مَشهدية خاصة، ومسرحا لأنماط بلاغية تبتعد عن اللغة الشعرية المعقدة المكتنزة بالاستعارات والكنايات والتشبيهات، حيث تم استبدالها بلغة تتلألأ شفوفا كلما خطت في الرصد والوصف والتلميح، مع اعتماد الجملة والإيقاع والتناص في بناء الصورة، واعتماد كذلك جمالية الفوضى وآلية المتناقضات والمتنافرات، وتقنية التفكيك والبناء(8).

فالقصائد في "فاتن الليل" تتلبس لبوس المكر الشعري الذي يجعلك تخالها تحدّق في الذات الشاعرة، مع أنها تحدِّق فيك أنت كـ"قرين" لا يفارقك. وهي بهذا المعنى يمتزج فيها الداخل بالخارج، والأنا بالآخر، ومن هذا الامتزاج يتولد عالم آخر كما المرآة، تُبصرك فيه وتُبصر غيرك. إذ العالم كما يرى ابن عربي ما هو إلا مرآة الحق، والحق مرآة العالم؛ وفي هذا يقول:

قَلْبُ المُحَقِّقِ مِرْآةٌ، فَمَنْ نَظَرَا - - - يَرَى الَّذي أَوْجَدَ الأَرْواحَ وَالصُّوَرَا

إذَا أَزَالَ صَدَا الأكْوانِ واتَّحَدَتْ - - -صفَاتُهُ بصفَـــاتِ الحّــقِّ فاعتبـــَرَا

وهذا المكر يتحقق مُنجزُه الجمالي في تلك اللغة السهلة الرشيقة السلسة، الشفافة بوضوحها الذكي، المعبرة بالإيحاء والتلميح والانزياح والتضمين والمحاورة والمناجاة والتناص الظاهر والباطن. فهذه كلها أساليب متبعة في نصوص الديوان أحياناً، وأحيانا تُبرزُ تناقُض الأفعال بمردودها. ففعل الرقص مثلا هو فعل الفرح والحبور والجذل، ولكنه يرتبط بالرصاص والقذيفة والخوف:

كَانَ لي مَسْكَنٌ فِي مَنْفَى العِشْقِ

يَقْتَاتُ مِنْ جَسَدي

وكُنْتُ أرقُصُ نَغَماً

جُرحاً

وهَجاً

وكنتُ أُعَانقُ انشِطَاري(ص:57).

فالرقص الذي كان نغَمَ فرحٍ التصقَ به الجُرح والاحتراق والانشطار، فتولد التناقض، وأعطى للصورة حيوية ما كان لها أن تكون لولا هذا التناقض المتفاعل.

=3=1= الجملة بنوعيها:

للشاعرة ولعٌ خاصٌّ بالصورة الشعرية، فهي تُدقق في العلاقات بين الأشياء(=الاستعارة)، وتعمّق المعنى وتتفاعل معه سلباً وإيجاباً(=المطابقة)، كما تهتم بالإيقاعات وتنوُّعها، زيادة على إعمالها الفكر في حقيقة المعنى وحقيقة ظلاله. وبهذا الصنيع تكون قد اجترحت بلاغة يتضافر فيها الدال مع المدلول لإنتاج المعنى الذي يدل على المعنى، أي أن المتلقي شعرها "يكون أسرع فهماً لمعنًى منه لمعنى آخر إذا كان ذلك مما يُدرَك بالفكر، وإن كان مما يتجدّد له العِلم به عند سمعه"(9). فالجملة عندها؛ سواء أكانت فعلية أم اسمية؛ هي الغرفة السوداء التي تلتقط الصور وتصفيها وتكيّفها حسب الرؤية الشعرية، وحسب تعالقات الجسد النصي مع الجواذب والفراغات والامتلاءات، ومع نداءات ما وراء الإيقاعات.

فنحن نجد الجملة الاسمية في متنها الشعري تتغيا إثبات "المعنى للشيء من غير أن تقتضيَ تجدُّده شيئا بعد شيء"(10) كقولها:

الطريقُ طويلٌ يعُبُّ مِنَ الْخَوْفِ

وَكَانَ الْبَرْدُ الشَّديدُ يُقَوِّسُ ظَهْرَهَا

دَفَعَتْ فَتَاهَا نَحْوَ حُضْنِهَا

وغَنَّتْ مَمَاوِيلَ

تَفْهَمُ وَحْدَهَا جُرْحَهَا(ص:19).

فالجملة الإسمية هنا وضعت تحت إبطها الأفعالَ ونزعت حركة التجدُّد لكي تُبقيها في دائرة المعنى الثابت الذي تجسده صورة المرأة المقوسة الظهر.

أو قولها:

كمْ هيَ ضيِّقةٌ أَبْوَابُ الْهَوَى

تشرقُ رَاحتي

تُقَيِّدُ خُطَايَ(38).

وأما الجملة الفعلية فتتغيا بها "تجدُّدَ المعنى المخبَرَ به شيئاً بعد شيءٍ (...) فالفعل يقتضي مزاولةَ وتجدُّدَ الصفة في الوقت"(11) كقولها:

كَانَ يَعُدُّ جُثَثَ الكلمَاتِ

يُوَاريها صَدْرُه

فتَعْلُو الزَّفَراتُ خُطَاهْ(ص:8).

أو قولها أيضا:

كانَ يَتَقَمَّصُهُ الذُّعْرُ

بَيْنَ يَدَيْهِ قِنينَةٌ مِنَ الْوسَاوِسِ

ظَنَنْتُهَا خَمْرَةً نُوَاسِيَّةً

قَهْقَهَتْ مَعَالِمُهُ

وَأَمَامَ باب الجُرْحِ ارْتَمَى(ص:9).

أو قولها الآخر:

جَاءَني ذاتَ قَصيدَةٍ

بِثَوْبِ الهَوَى

ارْتَدَيْتُهُ

تَبَخْتَرْتُ بَيْنَ الْمَعَاني

وكأنِّي كِلْيُوبَاتْرَا

لِلْقَيْصَرِ تُغَنّي(ص:32).

وليس هذا التوظيف للجملة بنوعيها من قبل الشاعرة آتيا من بئر الاعتباط، وإنما هو آت من عين الوعي بالكتابة الشعرية الثابتة جِنساً، المتجددة زماناً في جوانيتها ومظهرانيتها. فهي وجهٌ يتقنَّع في كل حِقْبَةٍ برموز جديدة، والرموز في المحصلة النهائية ما هي إلا وجوه للتعبير بالصورة، قد تكون أسطورية وغير أسطورية، وقد تكون تاريخاً للوجدان الجريح غيرَ مقروء بعدُ.

=3=2= حيوية الإيقاع:

وإلى جانب هذه الآلية في ابتداع الصور ينهض الإيقاع بحيويته الآسرة، خصوصاً حين يصبح تنوعا متوتراً بين إشباع التوقع النغمي، وإحباط التوقع في علاقات الموسيقى الشعرية(12)، كقولها مثلا:

ارْتَعَشْتُ

تَلَفَّتُّ عَنْ يَمينِي

وَجَدْتُ الأَرْضَ تَرْكُضُ أورَاقُهَا

"إلَى أَيْنَ؟"

سألْتُهُ مَبْحُوحَةَ الْجِرَاحِ

قال:

" أَلاَ تَرَيْنَ الْحَيْرَةَ تَعْصِفُ بِالْأَشْيَاءِ؟"(ص:14).

فتفشي التاء في هذه الأبيات يدل على التوتر الإيقاعي اللاهث الذي ما كان له أن يُلجَم إلا بهاء الغائب الذي رشّ الجراح المبحوحة بماء الحيرة لتهدأ.

والملاحظ أن تنويع الإيقاع في هذا الديوان له دلالة خاصة، فالشاعرة تقوم بتوزيع متقن للقوافي يجعل المتلقي يتأمثل الصورَ في أُطُرها وكأنها سمفونية تُسمَع بالبصر والعقل والوجدان والعين. فالقافية لديها هي بمثابة مَصَبٍّ للدفقات الشعورية، وليست ترَسُّباً لأصداء التراث الشعري القديم، ولنتأمل قولَها:

الْغُرْبَةُ تَخْنُقُ خُطَايَ في مَدَارِ اللِّقَاءْ

وَأَنْتَ تُحَاولُ مَدَّ جِسْرٍ لِهَوًى

يُغَيِّبُنِي فِي أَوْجَاعِ الجَفَاءْ

فيَا لَبَوْحِكِ الَّذي نسيَ لَهْفَةَ العُمْرِ

وَالْتَحَفَ الْغَبَاءْ!(ص:41).

وقولها:

كانَ يَمْشِي بِلاَ هُوِّيَّةِ

يَتَأَمَّلُ بِحُزْنٍ خُطَاهْ

مُرْهَقاً مِنْ صَوْتٍ يَئِنُّ في حَنَايَاهْ

الْتَفَّ حَوْلَ كَاهلِهِ الْحَريقِ

وفَاضَتْ عَيْنَاهْ(ص:18).

ففي التنوع الإيقاعي، والتعدد التقفوي يكمُنُ جذر الثراء الشعري، إذ هما ضمان الوجود الجمالي في كل
أبعاده. وذلك لأن في التنوع والاختلاف يتجلى الامتدادُ الروحي والمادي، والعَراقةُ الإنسانية(13).

=3=2=1= الحركة الإيقاعية المُمتدة:

فالحركة الإيقاعية في الديوان حركات، وهي كلها تختلف باختلاف المد الشعوري، والتوهج الخيالي. فهي تارة تمتد لتنبِّه على ما سيأتي، مثل قولها:

كَانَ يعُدُّ جُثث الْكَلمَاتِ

يُوَارِيهَا صَدْرَهُ

فَتَعْلُو الزَّفَرَاتُ خُطَاهْ.

اقْتَرَبْتُ مِنْ غُبَارِ عيْنَيْهِ

"هَلْ كُنتُ نفْسِي؟"

سألتُني وَأَنَا أَتَشَكَّلُ في حَرَائقِهِ

حَبَوْتُ نَحْوَ بِسَاطِهِ النَّازفِ

رأيتُ...

يَاوَيْلِي مِنْ صَوْتِ لُهَاثِهْ!(ص:8).

=3=2=2= الحركة الإيقاعية السريعة: وتارةً تتغير لتصبح سريعة حاسمة كضربة سكين، لكي تُلفت الانتباه إلى زاوية في الحياة مؤلمة أو مفرحة، كمثل قولها:

هِيَ تَتَدَثَّرُ بِالْحَنِينِ إِليْهْ

هُوَ يَصُبُّ كُلُّ يَوْمٍ

قَهْوَةَ أَيَّامِهَا في عَيْنَيْهْ(ص:46).

فالحركة الإيقاعية هنا شبيهة بانصبابِ القهوة أو كقولها:

أنا يا أنَايَ

أَجْرِي فِي مُزْقِ الْعُمْرِ

لاَ أنامِلَ تَخيطُ تِيهِي(ص:50).

أما هنا فهي تتماهى مع الجري لتدل على الحزن والتمزق.

=3=2=3= الحركة الإيقاعية الهادئة:

وطوراً تأخذ طابعاً هادئاً نسبياً يشبع توقعات القارئ، ويهيئه لاشعوريا إلى تقبُّل إشباعات جديدة لم تكن في حسبانه وهي في كل هذا تقوم بصدمة صوتية مقصودة مرتبطة بالمعنى، لأجل شحننا بالإحساس الثاوي تحت سطح المقول الشعري بصورة أشبه بالمفاجأة القدرية. إذ لولا هذه الحركة الإيقاعية لما أحسسنا بالصدمة الشعرية العذبة في مثل هذه الفِلدة:

حينَ يَصِيرُ اللَّيْلُ

الرَّاكِضُ فِي دَمِ الأَرْضِ

قَرَنْفُلَةً؛

تَلْهُو عَلَى ضِفَّةِ الفُصُولْ

أَرَاكَ

قَادِماً مِنْ مراَفئ الْجُنُونْ(ص:56).

=3=3=3-3 التناص العضوي:

يتميز ديوان الشاعرة نجاة بتداخل أصوات العالم العميقة من الماضي الإنساني السحيق إلى اللحظة الراهنة؛ أصوات صارخة باكية، هادرة هامسة، منكسرة متحدية، غايتُها محاولة اكتشاف التعددية في العالم والوجود، وفي الزمان والمكان. ومن ثمة فهي أصواتٌ متأمثلة للتراث الشعري الكوني، متفاعلة معه، ومحاورةٌ إياه محاورةَ استضافةٍ تفتح زوايا أخرى للرؤية غير التي فتحتها نصوص هذا التراث البعيد والقريب.

فالنصوص التي تناصت معها قصائد الديوان أصبحت مُكَوِّناً عضويا في بنيتها الكلية، تحمل سماتها ودلالاتها، لا تستطيع أية قراءة أن تعزلها دون إخلالٍ بالسياق الشعري الذي وردت فيه عند الشاعرة. وهذا ما يعطي للتناص هنا صفة العضوية، وينفي عنه صفة الترقيع التي هي مجرد"رواشمَ" لا تساهم في إغناء البنية الدلالية، ولا في الرقي الجمالي للنص، ولذلك تظل أشبه برقعة حريرٍ في ثوب من الخيش يخاله أصحابه ثوباً شعرياً جذابا.

وفي إطار هذا التناص تلجأ الشاعرة إلى أنْسنَةِ الأشياء وتشخيصها، وإلى تذويتِ المعنويات:

اسْتَنْشَقَتْ أَسَاطيرَهُ

وفي جُبَّةِ الصَّبابَةِ

اتكَأَ الْجُرْحُ ونَامْ(ص:44).

كما تقوم باقتراض رموز من الدين والتراث معروفة (=الحب، يوسف، أوديسيوس، أبو نواس، أبو تمام، امرؤ القيس، الحلاج، ابن عربي، لوركا، جورج جرداق، محمود درويش). وهذه الرموز هي بمثابة حافز Catalyseur لذاكرة المتلقي على الانزياح عما اعتادته، والانزياح عامة ما هو إلا تغيير في نسق التعبير أو التفكير المتوقَّع المعتاد إلى نسق آخر يؤدي دلالة مخالفة، فهو خرقٌ للثبات، وعدولٌ عنه إلى تحوُّل توليدي يخالف مقتضى الظاهر السائد، ويخرج عنه.

إن الآليات التي استعملتها الشاعرة في إنتاج الصور هي التي جعلت ديوانها هذا "يمنحنا ذلك الإحساس بالأشياء كما ندركها، وليست كما هي معروفة بالنسبة إلينا" حسب تعبير الناقد الشكلاني الروسي فيكْتُور شْكْلُوفْسْكي(14) ويجعلنا نقر بأن الغريب قد أصبح يسكن داخل المألوف"(15) و"أن إحساسنا به هو إحساسٌ حياتي، وإحساس جمالي أيضا، أي أنه خبرة حياتية، وخبرة استيطيقية مرتبطة بالذات في فرادتها وتعددها، وسلوكها وقلقها، وفي افتقادها الألفة واليقين على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجمعي أيضا"(16). فالديوان إذن هو مَكْنَزُ صورٍ متخيَّلةٍ، تربطها وشائج قوية بنفسية الشاعرة، وبواقعها الذاتي والكوني.

تقطير حدائق العالم السرية:

فالشاعرة قد دخلت الحداثة من بابها العقلاني المفتوح على التيارات الشعرية الكونية، ولذلك جاء شعرها مكثِّفا للوجود، ومقطِّراً لحدائق الكون السرية، فهي قصيدة تتحرك على قدمين، وتغمس قلبها في الموروث الثقافي العالمي، لتضيء عوالمنا المستحمَّة بالظلام، والغارقة في منافي التَّنابُذ الذاتي والوجودي. تأخذك قصيدتها إلى الأعلى بعيداً عن سفاسف اليومي وتفاصيله المكتظة بالقتامة المبلِّدة للذاكرة والمسطحة للوجدان، حيث تجد الكلمات داخلها تتنفس أسطورتها، وتقتاتُ من الينابيع الأولى العذراء عُشبة الفتون.

هي قصائد ترشُّك بماء الدهشة، لتقترف الأُمثولة التي بها تشعُّ وجوه الحقيقة في مراياك كما لم تشع من قبل، ولتُمَلِّكَكَ أسرارَ الإشارة والإيحاء، فتبوح بما لم يُسمح لك من قبل بالبوح به. لأن من امتلكته الإشارة يهرُب من ذاته إلى المحلوم بها، ليتحدث بلغة غير التي يعرفها وتعرفه، وتسكنه ويسكنها.
وهي أيضا قصائد الوُشوم الثاويةِ في الحافظة والجوانح، يمتزج فيها الألم اللذيذ بالسعادة المبتورة، والعذابات المتلاحقة بالأحلام المتدفقة(17). ورغم هذا كله تبقى كمسك الليل، تكتسح دواخلك بعبير أخّاذ وغير مألوف، هو عبير آت من جُزر الروح التي تجلس عليها حوريات بلا ثياب مزركشة، وبلا لآليء ومساحيق، هُنَّ عرايا، يُمَدِّدْنَ سيقانهن في الماء، ويستقبلن الدمعَ بابتسامة، ويمسحن بالياسمين على الجروح(18).

= = = = =

الهوامش

=1= جابر عصفور: عوالم شعرية معاصرة، ط1، سلسلة (كتاب العربي 88)، الكويت، أبريل 2012م، ص:5.

=2= نقلا عن إبراهيم العريس: "أسطورة العود الأبدي" لميرسيا إلياد: بعض مما وراء الموت والحياة، جريدة (الحياة) البيروتية الصادرة بتاريخ الأربعاء 04 يونيه 2012م، في صفحة (ثقافة).

=3= عوالم شعرية معاصرة، مذكور، ص:43.

=4= م.س، ص ص:47، 48.

=5= أحمد بلحاج آية وارهام: يفكر وكأنه يصلي، قراءة تحليلية تركيبية في فكر المفكر المغربي حامد بلخلفي، ط1، منشورات (أفروديت)، العدد 25، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش 2012م،ص:64.

=6= حسن توفيق: بدر شاكر السياب أصوات الشاعر المترجم، كتاب(الدوحة)،ط1، منشورات وزارة الثقافة والفنون والتراث، دولة قطر 2012م، ص:39.

=7= عوالم شعرية معاصرة، مشار إليه، ص:28.

=8= حاتم مرعي: عن قصيدة النثر العامية، مجلة (الشعر)، فصلية تصدر عن اتحاد الإذاعة والتلفزيون، العدد 144، شتاء 2012م، القاهرة، ص:21.

=9= رشاد احرازم: الإيجاز في دلائل الإعجاز، تنقيح وتهذيب (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني، منشورات مكتبة سلمى الثقافية بتطوان،ط1، العدد 16، مطبعة آنفو-برانت، فاس 2011م،ص:76.

=10= م.س، بالمعطيات ذاتها،ص:49 .

=11= نفسه، ص ص: 49 ، 50.

=12= عوالم شعرية معاصرة، سبق ذكره،ص:21.

=13= إبراهيم الكوني: فرسان الأحلام القتيلة، سلسلة كتاب(دبي الثقافية)، العدد 63، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، ط1، دبي، يونيه 2012م، ص:48.

=14= أورده شاكر عبد الحميد في كتابه: الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب، سلسلة (عالم المعرفة)، العدد 384، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت صفر 1433هـ/يناير 2012م، ص:27.

=15= شاكر عبد الحميد: الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب، ص:39.

=16= م.س،ص:48.

=17= مصطفى الجارحي: يا شعر، مجلة (الشعر) القاهرية، سبق ذكرها، ص:12.

=18= مصطفى جوهر: حياة كاملة، مجلة (الشعر) القاهرية، مذكورة أعلاه، ص:80.


غلاف ديوان نجاة الزباير
D 25 آذار (مارس) 2013     A أحمد آية وارهام     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 82: هل الأدب العربي (لا يزال) محظور(ا)؟

زهرة زيراوي: تكريم في المغرب

تحديد النسب بالبصمة الوراثية

النحو الحاسوبي لدى تشومسكي