بشير بلاح - الجزائر
مختارات: مسار قلم أبو القاسم سعد الله
الدكتور أبو القاسم سعد الله: قطب المدرسة التاريخية الوطنية الجزائرية (التي يرى أنها لم تتكوّن بعد، وإنما نحن في مرحلة ردود الفعل على المدرسة التاريخية الفرنسية الموجّهة للجزائر[1])، ووجهٌ من وجوه الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، بتأصيلاته الفكرية والمنهجية، وإبداعاته الأدبية، ومساهمته الهامة في بعث تراث الجزائر الثقافي، وفي بناء وصيانة الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري والأمة الإسلامية.
صدرت للدكتور في الآونة الأخيرة أعمال جديدة، يندرج أكثرها في باب التأملات والخواطر والمذكّرات والاعترافات، حوَتْ خلاصة أفكاره وتجاربه، رأينا من المفيد تقديم بعضها للقراء؛ باعتبارها منطلقاتِ وتصوراتِ فاعلٍ وشاهد على العصر، يمكن للمجتمع أن يتلمّس معالم طريقه في ضوئهما، ويصوغ خططه ومشاريعه في إطارهما، نظرا لانسجامها في نظرنا مع ضميره وتطلعاته. ولا غرْو؛ فالثقافة هي جوهر هويّة الأمّة، والمحرّك الأساس الفاعل في حياتها، وفي علاقاتها كلّها[2]، وما سائرُ فعاليات ومظاهر حياتها سوى فروعٌ منها وخادمة لها[3]. وحتى السياسة لا تخرج في النهاية أن تكون استجابة ثقافية.
وكما أن الرجل ابنٌ صميم للثقافة العربية الإسلامية التي هي مصدر الأصالة، فهو أيضًا سليلُ المناهج الغربية الحديثة المُحْكمة؛ منبع الفعالية في زماننا، وكلّ من الأصالة والفعالية يكمّل أحدهما الآخر؛ لأنّ الفعالية المجرّدة من الأصالة تستحيل فعالية تنافريةً هدْميّةً منهِكة، حيث أنّ الأصالة هي التي تمنح الفعالية روحانيّتها وهويّتها الحضارية والإنسانية، وتحوّلها إلى فعالية تكاملية بنائية نموذجية[4].
سنحاول تقديم بعض هذه الأعمال، مبتدئين بالأجزاء 3، 4، 5 من "مسار قلم"[5]، وهي يومياته التي تغطي فترة 1381-1415/ 1961-1993. ويعود انطلاقنا من الجزء الثالث (بدل الأول) إلى تناسبه مع بداية اتساع آفاق الكاتب الجغرافية والفكرية، وتنوّع مسؤولياته وإنتاجه، وشموله مرحلة نضجه وقمة عطائه، وكذلك بداية احتدام الصراع حول هوية الجزائر الثقافية ومستقبلها الحضاري، الذي بلغ ذروته في أواخرها (مع الجزء الخامس)، فضلاً عن صدوره جملةً مع الأجزاء التالية مؤخرًا. فكيف نظر الرجل من خلال بعض المحاور الرئيسية في هذه الصفحات من سيرته واعترافاته إلى الواقع الثقافي لبلاده وأمته والعالم من حوله؟ وكيف تأثر بكل ذلك وتفاعل معه؟ وما أثره في معاصريه؟.
من المناسب قبل ذلك تقديم فكرة عامة عن أدب اليوميات.
اليوميات (Diary/Journal): سجلّ يحوي مداخل منفصلة، مرتّبة حسب التاريخ، تشمل اليوم والشهر والسنة والمكان، يسجّل فيه صاحبه الأحداث الهامة أو المؤثرة في حياته وفي محيطه يومًا بيوم (أي يسجلها في ذات اليوم)، في سيرة ذاتية يومية. من الشائع أن تتخلّف كتابة اليوميات أيّامًا، كما قد تنقطع، فتتخلّف عنها أيامٌ أو أسابيع أو حتى شهور، لرتابة حياة، أو تقاعُس، أو طوارئ، أو كثرة مشاغل. وقد يقوم شخصٌ بتدوين يوميات غيره، كحالة بعض الكتّاب مع أمرائهم؛ ومثاله: تدوين ابن شدّاد (ت 632/1234) يوميات صلاح الدين الأيوبي في "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية"، وهو مِن أجْوَدِ ما كُتب عن حياته.
وهي فنّ أدبيّ قديم وعامّ، لم ينحصر في أمة محدّدة أو ثقافة معيّنة، أو طبقة أو فئة خاصة، لكنه مطبوع بمساهمات الكتاب والعلماء والقادة والجنود. كانت اليوميات محدود الانتشار قديمًا، وانتشرت كتابتها واتّسع نطاقها باطّراد في القرنين الأخيرين بفضل مساهمات الكتاب الغربيين. ومن أشهر اليوميات الجزائرية (Journal : 1955-1962) لمولود فرعون.
تكتب اليوميات تنفيسًا لكُروب، أو ترويحًا عن قلب، أو لشهادة، أو دفاع، أو التماسًا لمنفعة مادية، أو طلبًا لشهرة. وتختلف عن المذكّرات في أنّها تكتب يوميًّا في الغالب، بينما تكتب المذكرات عمومًا في مرحلة متأخرة من عمر المتذكّر، الذي يسجّل فيها ما عاشه في الماضي من أحداث هامة أو مؤثرة في حياته، أو في مجتمعه وأمته، أو العالم من حوله، رغم أنها قد تستمدّ من اليوميات.
مصدرُ اليومياتِ أفكارُ وانفعالات صاحبها، والأحداث التي عاشها ومواقفه منها. وكثيرًا ما تنطوي على أمور عاطفية وشخصية لم يُرِدْ صاحبها مصارحة الآخرين بها أو يُطلعهم عليها في حينه، أو مواقف وآراء على جانب من الخطورة أو الحساسية؛ فيعتمد الكاتب الكناية أو التورية أو الترميز في بعض هذه الحالات. لذا؛ فهي من هذا الجانب بمثابة متنفّس من ضغوط، وبلسم لجراح!. وهي أيضّا وثائق تاريخية ثمينة، سيَما إذا صدرت عن شخصيات فاعلة، يمكن الإفادة منها في أكثر من مجال أدبي أو اجتماعي أو سياسي، خاصة منها التعرّف على شخصية وتوجهات صاحبها ومواقفه من قضايا عصره ووطنه وأمته.
محنة المثقف
وصف الشيخ البشير الإبراهيميُّ معاصريه بأنهم "غُثاءٌ من الأناسيِّ كغثاءِ السّيل المتساوي الغيْبة والمشهد في تقدير حياته، لا يَحْكُم ما يريد، ولا يفقه ما يُرادُ به...لا يفكّر في مستقبلٍ إلاّ بأضغاثٍ من الآمال لم تسنُدها أعمال"[6]. ونعى عليهم ابنُ باديس وإخوانُه تقاعسَهم عن العمل، وجمودهم عن التطوّر فيما لا يُعدّ من المواقف. وربما لم يتوقع هو شخصيًّا ضياعَ تفسيره (كما أُضيع في المئة التاسعة تفسير الشريف التلمساني[7]) الذي علَّمه على مدى ربع قرنٍ من حياته بين تلاميذه ومعاصريه، ولم يبلغنا منه إلاّ شذرات كتبها هو نفسُه كافتتاحيات لصحيفة الشهاب، ضمن "مجالس التذكير" مابين 1929 و 1939؛ خلافًا –مثلاً-للشيخ رشيد رضا الذي أحيا تفسير أستاذه الإمام محمد عبده، أو طلبة عالم اللغة فردينان دو سوسور (Ferdinand de Saussure) ، الذين تكفّلوا بعد وفاته في 1913 بجمع محاضراته اللسانية "دروس في علم اللسانيات العام" (Cours de linguistique générale)، وأصدروها في كتاب صار مرجعًا رئيسًا في اللغة واللسانيات.
ويبدو أن في الجزائريين قلّة احتفاءٍ بمجالس العلم والثقافة المكتوبة؛ قد يشهد لذلك اضطرار "الشهاب"-لتواضُع مقروئية الجزائريين وضعف مؤازرتهم للصحافة الملتزمة[8]- إلى الوقوف عند حدود 2000 عدد شهريًّا (عدد المشتركين)، أي أقلّ من 70 عددًا في اليوم! رغم أنها كانت معروفة في أركان العالم الأربع؛ وانحصار عدد المشتركين الجزائريين في صحيفة شكيب أرسلان المناضلة "الأمة العربية" )La Nation arabe( في 150 مشتركاً، على الرغم من وصف الشهاب الاشتراكَ فيها بأنه "رفعٌ لعلم العروبة العلميّ، وإحياءٌ لمجدها القومي، وهو من أعظَم ما يفعله أبناؤها المخلصون اليوم"[9]. كما قلَّ عددُ قُرّاء المنار المشرقية العتيدة في حينه[10].
لم يتغير الحال بعد تصفية الاستعمار، إلا بما فاقَمَهُ من الإهدار الرسمي للثقافة الأصيلة، وتهميش العلماء والمثقفين. وعليه؛ يمكننا اعتبارُ ارتفاعِ صرحِ الدكتور سعد الله الثقافي المهيب وسط هذه البيئة تصديقًا لآراء التيار الفردي من علم النفس الثقافي، الذي يذهب إلى أنَّ الكائن البشري نظامٌ متوازن تعمل آليات التوازن الداخلي لديه على تفتيت الثقافة واستيعابها وصناعتها، وأن الضغوط الاجتماعية السلبية لا تؤثر إلا على الأفراد الذين يمكّنونها من ذلك بضعفهم أو لا مبالاتهم، بخلاف الأقوياء الذين يغالبونها ويصمدون لها، ويبدعون داخل مجتمعات يسودها الاغتراب والجهل، ضاربين على ذلك مثَل أن المواقف الاجتماعية تقدّم الحبوب إلى مطحنة الفرد، لا أنها المطحنة التي تنتج عمله؛ وأن الفرد مبدعٌ ثقافيٌّ يضيف تجربته الفريدة إلى مجموع الأنماط والتوقعات الثقافية الجماعية، فتتغير الثقافة باستمرار من خلال هذا التفاعل بين الأفراد، وبينهم وبين الثقافة[11]. وفي مغالبة الكاتب نكبةَ "فقدان" محفظته الحاويةِ حصيلةَ عمل أعوام في مطار هيثرو/لندن عام 1988-مثلاً-مِصْداق.
ولكن، هل كان لذلك الصرح أن يكتمل لولا تفرّغ صاحبه لإنجاز المجلدات السبعة المتبقية (3-9)-مثلا- من "تاريخ الجزائر الثقافي" في إحدى روضات الفكر: خلوةٌ في جامعة منيسوتا (1993-1996)، ثم نشاطه لها في عمّان وبيروت المعطاءتين أيضا (1997-1998)؛ تمامًا كما انعكست فيوضاتُ فاس على الونشريسي في "معياره"، وأنوار دمشق والقاهرة على المقَّري في "نفحه"، وعلى طاهر الجزائري في "تذكرته" وسائر أعماله، أو كما فتّقت عبقريةَ الزمخشري (ت 528/1134) أمُّ القرى في "كشّافه"، وأمرَعت مصرُ لأبي حيّان الأندلسي (ت 745/1344)، "ففاضت" روحه بـ"بحره" و"نهره" وسائر بنات فكره؟ وعموما، فإن خلل المؤسسات الاجتماعية لا يلغي دور الفرد، الذي يمكن أن يعود بالإلغاء على الوسيلة المخطئة، وتغيير البذور الفكرية لتنتج ثمارًا أخرى في المجتمع والدولة والأمة.
لا يخفي الدكتور سعد الله أسفه الشديد على هوان الثقافة والمثقف في بلادنا-كما سجله في مسار قلم-، مجسَّدًا على سبيل المثال في شعوره بالضيق الشديد من الجو في جزائر السبعينيات: "فبلادي تهين المثقف ولا تعترف بالعامل المفكر، كتبي لا تطبع وهي مخطوطة، الجو العلمي ميّت ومميت." (3/278)[12]، ومن القيود الشديدة المفروضة على المثقف (3/355)، وشكواه من استعصاء الكتابة عليه في الجزائر "وهي لا تفيد على أي حال" (3/278)، ومن تفاهة الحياة فيها وانعدام تقدير المثقفين (3/321)، والحجر على سفرهم (3/348)، ومصادرة كتبهم ومجلاتهم (3/81، 85)، والحَجْر على النشر (4/402 مثلا)، وإهدار حقوق التأليف، وسائر الحقوق والتعويضات المادية (3/206 مثلا)، وتراث المكتبات كلأٌ مباح، فكتبها ووثائقها قد تخرج بلا تقييد (3/214)، وتدهور حال الجامعة (3/278): "ما أكبر الفرق بين جامعات أمريكا وجامعة الجزائر؛ هنا لا نظام، ولا قانون، ولا احترام، ولا تعارف بين الأساتذة، ولا تسهيلات مادية أو أدبية" (3/88)، وحرص السلطة على تدجينها، وإساءة معاملة الأساتذة العرب المشارقة من طرف الإدارة (3/278) لضرب التعريب وعزل الجزائر عن محيطها العربي الإسلامي، وتسلّط الوزير (بن يحيى) بدل الاحتكام إلى القانون (3/344)، ومنعه هو شخصيًّا من اصطحاب المال الكافي إلى المغرب في رحلة بحثه عام 1973 (3/355)، ما أمْلَقَهُ وأعْجَزَه عن إكمال مهمته الثقافية، وسخريته من الثورة الثقافية على عهد بومدين (3/355)، خاصة أنّ الأخير كان متذبذبًا وازدواجيًّا في موضوع التعريب (4/32)، وكان يستحلّ التدخين (4/59)، حتى جعل السيغار الكوبي عادةً استهلاكية معيارية تدلّ على المكانة الاجتماعية.
تتجلى حصيلة تلك السياسة اليوم في تدهور واقع الثقافة والمجتمع، من خلال 60.000 لقيط سنويّا (أي حوالي 10% من مجموع المواليد!)، وتصنيف مدننا ضمن الأقل نظافة في العالم، وتدنّي معدلات القراءة، ناهيك عن استفحال آفات العنف والتخريب والنهب والرشوة والدعارة والتسوّل والمخدرات والخمور والقتل والسرقة وانتهاك البراءة والشذوذ الجنسي، وإسفاف الأخلاق، وتدهور الحسّ المدني، والعودة القوية للأمية، ونزيف الأدمغة. ومصدر كل ذلك عند الدكتور سعد الله ثلاثة: المجتمع، السلطة، والمثقفون أنفسهم.
1. المجتمع:
يبدو أنّ في المجتمع الجزائري قلّة تقدير وضعفَ موالاة للعلماء والمثقفين-كما أسلفنا-، وهيْبة لأصحاب السطوة والقوة! فلم يُسلس قيادَهُ لأهل الفكر والقلم مثلما امتثل وانصاع لذوي العصبيات والشوكة. ولعلّ وراء ذلك عوامل موضوعية كالفقر، والأمية، وسياسة السلطة المشكّكة في قيم العلم والثقافة، وارتباط صورة كثير من المتعلمين في ذهنية الشعب بالسلوكات المتغرّبة، والنزعة القبلية والجهوية، والصراعات التقليدية بين البداوة والحضارة، والسهل والجبل، والمراكز والأطراف.
ولعلّ ذلك هو الذي حالَ دون تكوُّن جامعات عريقة أو مجتمع علمي، وأدّى إلى انحلال البؤر العلمية التي ظهرت في السبعينيات والثمانينيات الماضية في بعض المؤسسات العليا في بعض التخصصات؛ كالرياضيات في جامعة باب الزوار وبعض المدارس الكبرى، وفي علم الاجتماع في جامعتي الجزائر ووهران. لذلك نرى المجتمع في مسار قلم ضعيف الالتزام بالشأن الثقافي، مقبلاً على مسائل الحياة اليومية.
يضرب الدكتور لذلك أمثلة كثيرة، فيتحدث عن جمود فكري خانق (3/312)، وعن موت الثقافة (3/ 89)، وحياة تافهة وانعدام تقدير المثقف في الجزائر (3/321)، وهي ظواهر اجتماعية، بدليل زهد الجمهور في الأنشطة الثقافية، فأمسية شعرية تكريمًا لشاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة لا يشهدها سوى 20 شخصا (3/54)، ورواد المحاضرات قلّة (3/92)، وربما أفذاذ (3/326)، والطلبة "أحسن منهم تلاميذ الابتدائي" (3/278)، و(في أحد الملتقيات عام 1972) فوضويون (3/302..)، ولم يشهد في إحدى المناسبات صلاة العصر جماعةً سوى 6 من مجموع 1500 ساكن (5/336)، والسرقة مستشرية (4/142)، والمجتمع يمجّد جلاّديه، ففي مصر استغراق في تبعية شاملة طوعية للغرب على تواطئه مع الصهاينة عام 1967 (3/37)، وفي عرَب التسعينيات إعجابٌ بصدّام (5/225، 242، 245).
ورغم حبه لتونس (3/333) إلا أنه خصَّها بجانب معتبر من النقد والتحسّر على إهدار الأصالة، كالتهافت على الخمر (4/9)، واستخذاء الزيتونيين وخورهم (5/167)، وإعراض الناس عن الصلاة (5/66،71)، وهجران الزيتونة (5/168،233)، وغيره من المساجد حتى الجمعة (5/274)، واستباحته من طرف الأجانب (4/11)، وغير ذلك، كأنّ الكاتب يردّد صدى ذلك لمناضل:
مَدارسُ آياتٍ خلَتْ من تلاوةٍ *** ومنزلُ وحْيٍ مُقفِر العَرصات
2. السلطة:
اتّسمت السلطة (الأجهزة والفئات التي تمارس الحكم) الجزائرية المعاصرة براديكالية سياسية، ورثتْها عن الحركة الوطنية والثورة التحريرية، مقابل تغاضيها أو سكوتها عن الاختراق الثقافي الفرنسي العميق، لا يفسَّر إلا بضعف التكوين الثقافي والضحالة الفكرية للفئات الاجتماعية التي قادت الحركة الوطنية، وسوء فهمها للحركة الاستعمارية باعتبارها هجمةً حضارية شاملة، لا مجرّد غزو عسكري واستغلال اقتصادي، حتى انتهى الأمر بالجزائر إلى العودة مجدّدًا إلى أحضان فرنسا كما هو ظاهر! وأدى ذلك إلى إفراغ تلك الراديكالية بالتدرج من مضمونها، وقولبتِها في أُطر شكلية تتطفل على الرموز الوطنية والتاريخية، وتعارض التطور والتجديد الثقافي والاجتماعي. فتحولت من وسيلة لتعميق الوحدة، إلى جهاز قهر وتجميع بالقوة.
كما أن أحاديتها السياسية الناجمة عن ظروف ثقافية عميقة، وطول التجربة الاستعمارية المركزية، والكفاح المسلح تحت راية جبهة التحرير الحصرية، وبروز النظام الوطني الجديد بنزعته المركزية ومنطق تسييره السياسي والاقتصادي المركزي البيروقراطي، والضحالة الفكرية للنخبة الحاكمة وقصورها التعليمي واللغوي؛ ساهمت في ترسيخ الثقافة السطحية، وتعميق الثقافة المحلية الضيقة، حينما حظرت بروز الاختلافات الفكرية والجدل السياسي الممهّد لتبلور الوعي الوطني (وإن كان للتعددية الفجّة أيضًا مخاطر)، فلم يجد الجزائريون بالتالي ما يؤكدون فيه وجودهم ومصالحهم سوى الانتماءات القبلية والعروشية والجهوية. ما أوْهَنَ الروح الجماعية، وميَّعَ انتماء الجزائر الحضاري.
فنراها في مسار قلم نزاعةً إلى فرض وصايتها ورداءتها على مؤسسات الثقافة، وحرمانها من الاستقلالية الضامنة لفعاليتها وحركيتها، لا مبالية بأوضاع المثقفين، وهي لا تكتفي بخذلانهم، بل تحْجُر عليهم حتى استخدام وسائلهم المتواضعة؛ كاصطحاب أموالهم لاستكمال أبحاثهم في الخارج، مثلما سلكت مع الدكتور سعد الله مرات عديدة، وتحجُر على آرائهم وتمنعهم من نشر أعمالهم، كما فعلت بالجزء الثالث من "حياة كفاح" لتوفيق المدني (4/402)، وتُلزم الأساتذة الجامعيين بإخطارها بالدعوات التي تأتيهم من الخارج (4/149)، واستكثارها على كاتبنا تفرُّغ ستة أشهر لتاريخ الجزائر الثقافي (4/88)، نقيض موقف السلطات في الدول المتقدمة، كذلك الأستاذ الهولندي الذي مكّنته حكومة بلاده عام 1976 من التفرّغ سنتين لكتابة تاريخ...اليمن الاقتصادي! (4/88). ومن الغريب أيضا محاولتها تسخير العلماء للحاكم، بحملهم أيام انعقاد مؤتمر الأدباء العرب عام 1975 –مثلاً-على الاصطفاف لبومدين (4/186). وهكذا.
والمثقفون بالنسبة للمسئولين قاصرون، يخطبهم بومدين في قصر الشعب بطريقة وصائية أبوية بدلاً من مناقشتهم في مشاكل الجامعة (3/203). وتريدهم أبواقًا تردّد صداها، فتعمد إلى إلغاء طريقة انتخاب عميد كلية الآداب-مثلا- عام 1971 وتستبدلها بالتعيين (3/259)، فيرفض سعد الله المنصب –كما يستشفّ من مسار قلم-، ويستلمه أستاذ مفرنس. والحزب الواحد المتحالف مع السلطة لا يخفي نزعته في الهيمنة على الحياة الثقافية (3/260، 314)، وتأطير الطلبة وهم يرفضون (3/208). وإذا واجهت السلطة مقاومة من بعضهم، عمدت إلى اضطهادهم، غير عابئة بجهادهم أو شيخوختهم، من ذلك وفاة الشيخ عبد اللطيف سلطاني بأزمة قلبية ناتجة عن ضغوط وتجاوزات الإدارة، التي منعته حتى من التعزية بوفاة أحد أصهاره، فلم يتحمل قلبه المرهق، ومُنِع عنه الطبيب، فقضى العالِم المجاهد الذي قال عنه العقيد عميروش: "إنني لا أثق إلا في الشيخ عبد اللطيف سلطاني". "والغريب أن الإعلام لم يتكلم عنه ولم يُشر إلى وفاته لا من قريب ولا من بعيد" (5/81).
وهي كذلك سلطة شعبوية ديماغوجية، ترفع شعارات وتحدّد أهدافًا لا تتَّخذُ أسبابَها، فهي ترفع شعار التعريب-مثلا- وتعرقله في آن، فتعيّن ابن آشنهو المفرنس مديرا للتعليم العالي في زمن بومدين والتعريب (1973) (3/334)، وتمكّن لبن يحيى الذي يخطب بالفرنسية أيضا على رأس الوزارة "ومع ذلك يعيَّن في عهدٍ قادمين فيه على التعريب" (3/225)، وهو يضغط على صاحب مسار قلم ويضايقه (3/341، 343)، لأنه "يعادي الثقافة العربية، ويكره المعرَّبين" (3/341). فكيف لا تهيمن الأقلية المستلَبة المعادية للأصالة على الجامعة أيام وزارة محمد الصدّيق بن يحيى (1971) (3/261)، ولا ينقطع رجاءُ الكاتبِ الخيرَ للتعريب بفعل ذلك (3/260)؟.
بل إنّ عرّاب التعريب (بومدين نفسه) تجاهل التعريب والأصالة، وانتشر التعفن والفساد في عهده، وضحّى بكل شيء في سبيل السلطة (4/405)، وتغيّب عن افتتاح المؤتمر العربي الثاني للتعريب "فالتعريب يزداد تأخرًا كل يوم في الجزائر" (3/401). وماذا بعد غلَبة اللغة الفرنسية على مؤتمرٍ حول بوعمامة ومقاومة الغزو الفرنسي عام 1982 (5/31)، وكتابة لوحات التوجيه في موقع مؤتمر الصومام بالفرنسية (5/337)، وإيكال كتابة ميثاق 1976 لشيوعيين (4/10)؟. ولا عجب، فذلك ثمرة التحالف السري بين بومدين وحزب الطليعة الاشتراكية الشيوعي[13].
لا تسهّل السلطة عمل الباحث، بل تعقّده، فها هو ذا كاتبنا يطلب–مثلاً- معاينة أرشيف ولاية قسنطينة، فيُجابَه باشتراط إذن الوالي! (3/214)، وحينما تعِدُه إدارة مدرسة شرشال العسكرية بضمان تنقّله لمحاضرة طلابها (1973) لا تلتزم فيتأخر، ويتضايق الطلاب (3/321)، وتحْجُر السلطة على العلماء والمثقفين باشتراط رخصة الخروج الخاصة عليهم للسفر إلى الخارج (3/318)، وتصادر كتبهم ومجلاتهم كما أسلفنا، وتجبر كاتبنا على العيش أكثر من تسعة أشهر بلا راتب "هكذا تجوّع الجزائر أبناءها ثم تحاسبهم على الإنتاج!" (3/161)، ولا تخبر الأساتذةَ عن مواعيد الملتقيات التي لا علاقة لها بفرنسا إلا قبل أيام من ذلك (3/ 164، 173)، ما يفوّت إمكانية المشاركة وقد يحبط الملتقيات.
وهي تسخو على الأنشطة التافهة وتهتمّ لها، وتكرّم أربابها، لكنها تقتّر على وسائل النهوض بالعلم والثقافة الجادة، من ذلك شكواه من محنة النسخ والتصوير في مصر السبعينيات (4/ 124)، وعجزه عن تدبير مسكن يؤوي إليه في الجزائر (3/278)، وهي ظاهرة واسعة، فقد التقى-مثلا- إطارًا جزائريّا في تونس صيف 1991 بقي في ألمانيا بعد الدراسة لعدم إعطائه سكنًا في بلده، وضاع أبناؤه هناك: "فكم خسرت الجزائر من أبنائها.." (5/273)، وإن وجدَه فهو مرهق أو ضارّ بصحته (3/89، 5/70)، ولا مكتبًا يشتغل فيه (3/88، 89)، وتشجيع القطيعة مع الشرق: مصادرة مجلة "الآداب" اللبنانية (3/62)، ومنع منشورات دار الآداب اللبنانية من دخول الجزائر، ومنها بعض أعماله (3/62). وفي السعودية إهدارُ وقتٍ وإمكانات احتفالاً بعودة الملك من العلاج في لندن على مدى عشرة أيام، وهم بالمناسبة لا يحتفلون بالمولد النبوي! (4/199).
وهي سلطة تابعة، فالعلاقات مع الأشقاء العرب والمسلمين عاطفية وغير مفيدة، بينما العلاقات مع فرنسا هي الأساسية والمفيدة، حتى غدت علاقة الجزائر بمرسيليا أو ليون أهم عند النخبة الجزائرية الحاكمة من العلاقات مع الهند أو تركيا أو إيران، وأصبحت تلك النخبة تتعصّب للفرنسية بطريقة يستهجنها الأُصَلاء، وتدهش الفرنسيين أنفسهم، حين يرونها تسبّق لغتهم على اللغة العالمية (الإنكليزية) في منظومتنا التربوية وتدافع عن الفرونكفونية مجّانًا في المحافل والملتقيات الدولية، مما يعكس خللاً في التقدير وقصورًا في الإدراك.
فهي تستهدف مقوّمات الهوية، وتسخّر إمكانات البلد للأجانب؛ فتعرقل التعريب كما سلف، وتهمل مسقط رأس رائد الجهاد و"الوطنية الجزائرية" (3/274)، وتحوّل معالم تونس-مثلا- إلى مراتع للسائحين المتفلّتين: "تونس ضحية السياحة...ضرر السياحة كبير...هناك تعفّن اجتماعي في الفنادق وغيرها نتيجة السياحة" (5/276)، ورباطات الفتح والجهاد إلى مراقص (5/275)، وتضرب حركة الأصالة (5/275، 276)، ولا عجب؛ فلدى بورقيبة مستشار يهودي مطاع (5/274)، لذلك اعتبر صاحب اليوميات وجود بورقيبة نكبة على تونس وثقافتها (3/328). وفي مصر سواح يدنّسون المعالم الدينية (4/86)، ومسارعةٌ في خدمة السياحة والأجانب (5/138)، وقس على ذلك.
3.المثقفون:
المثقفون طليعة اجتماعية، وفئة مرشَّحة لريادة الأمة وقيادتها نحو الإصلاح والتنوير والحرية. لكنها تفقد أحيانًا جدارتها، فتُنكر مسؤولياتها، وتغدو أعمالها صدى لواقع مرير وتكريسًا لسلطة قاهرة. وأكثر دوافع ذلك رغَبٌ أو رهَب.
وفي مسار قلم نماذج لافتة من ذلك. فوزير الثقافة أحمد طالب الإبراهيمي (المثقف) يذعن للسلطة، فيحظر-مثلا-نشر الجزء الثالث من حياة كفاح لتوفيق المدني عام 1979 (4/402؛ 5/19)، لكن علينا ألاّ ننسى أنّ توفيق المدني وآخرين اصطفّوا إلى جانب السلطة ضد الشيخ البشير الإبراهيمي عام 1965 (4/65). وفي المثقفين التونسيين المستَلَبين ومؤتمرات تونس المشبوهة (5/67) معاكسةٌ ظاهرة لثقافة تونس الأصيلة (5/232، 233)، وبعض الأساتذة المصريين خمّارون (4/78)، عابثون (4/81).
وفي مجال النشر إهدارٌ للقواعد والأصول (4/379)، ومادية مفرِطة واستهانة بالمؤلفين (3/135)، وضياع لحقوق التأليف (في مصر مثلا) (4/370). وأهل محمد العيد آل خليفة يتهربون من تسليم ملاحظات الشاعر إلى سعد الله حول كتابه "محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث" (5/32). وفي جامعة الجزائر تسيُّب: "...وهكذا تحوّل الافتتاح (بحضور بومدين عام 1967) إلى مهزلة وفوضى لم أعرف مثلها في حياتي" (3/88)، وفي محاضرة الكاتب طلبةَ جامعة قسنطينة في جانفي 1972 معاناة عامة من البرد والمطر والانقطاع والظلام (3/287) إلخ.
لذلك لا نستغرب تصريحَ صاحب اليوميات بعجزه عن تسجيل أفكاره في بعض الظروف لافتقاده سكينةَ النفس بفعل تفاهة الأحداث ومعاكسة الإدارة والحوادث العامة والروتين (3/260)، ويأسه من مردود الإنتاج الثقافي (3/319)، ويفكّر مرارًا في إحراق مخطوطاته (3/278)، وينسب الثورة الثقافية في السبعينيات إلى الزيف كما أسلفنا، ويرفض المناصب، كمنصب مدير جامعة الجزائر في مارس 1982 (4/30)، ومنصب وزير للثقافة عام 1991 (5/261)، لاقتناعه بعدم جدوى العمل في أجواء يُعوِزُها الجدّ والالتزام.
وكلها صور تعكس فوضى العالم الإسلامي، والجزائر قطعة منه.
فوضى العالم الإسلامي
يتكون عالم الإسلام من خليط من بقايا موروثة عن عصر ما بعد الموحدين، وأجلاب ثقافية حديثة، جعلته ينطوي على ألوان من التناقض والتنافر التي تجمّعت وتراكمت في هيئة فوضى على حد تعبير مالك بن نبي[14]. كما يعاني من فصام شخصية يمثّله انقطاع الصلة بين أفكاره وأعماله، ومبادئه وواقعه[15]. وقد انجرَّ عن ذلك استغراقه في دوامة من ردود الأفعال العشوائية والأنشطة الغريزية، رهنت مستقبلَه للظروف والصّدف ومبادرات الآخرين.
يبرز الدكتور سعد الله هذه الفوضى على امتداد "مسار قلم"، ولعلّ أبرز ما ركّز عليه من ذلك: الانقسامات بأنواعها، والتسيب والعشوائية واللامبالاة، وتقديس المظاهر، واحتقار المبادئ، والتماس الشرعية والمصداقية من الآخرين، والتبعية وتمجيد الجلاّدين. نمرّ سريعًا بظاهرتين ذواتي دلالات وآثار بالغة:
1. الانقسامات:
التعارف والتآلف أساس العلائق بين الناس، والانقسام والتشتّت علامة قصور عقلي، وتعصب فكري، وشذوذ عاطفي. ومن ثمّ فأهلُ الإسلام أحقّ بمراعاة القرابة الإنسانية بين الخلق، والأخوة والتضامن بين المسلمين، لكن الواقع خلاف ذلك. وفي مسار قلم أمثلة لا تحصى، منها: فوضى عيد الفطر في العالم الإسلامي (3/278)، وشذوذ الجزائر في العيد (مثلا في 1973 و 1976) (3/321، 4/147)، وفوضى بداية الصيام كل سنة تقريبًا. وانتفاء فرص الوحدة السياسية والتواصل الثقافي أمام نزوات وخلافات الحكّام في ظلّ غياب دور المجتمعات، فليبيا ترحّل المصريين (4/70)، وتونس ترفض عرْض الوحدة الليبي عام 1978 (4/348)، وقطار الجزائر- تونس يتوقف بفعل أزمة الصحراء الغربية (4/128)، ومسار الطائرة بين الجزائر وطرابلس كان يمرّ بروما وباريس بدلاّ من الخط المباشر! (3/183)، والمطبوعات الجزائرية معدومة في المغرب (3/383)، حتى أن الكاتب يلتقي مغربيًّا خفيةً: "وتحدّثنا في الظلام عن شؤون المغرب والمشرق العربيين...وكان هو خائفًا.."! (4/128)، وهكذا.
2. إهدار الوقت:
الوقت أحد خمائر الحضارة (مع الإنسان، والتراب). وقد حثّ التراث على تقديره، واغتنام فرص الحياة، واستغلال الإمكانات، والتحذير من التواني والتسويف، فيما لا يحصى من الآثار والتوجيهات؛ واقرأ مثلاً هذا الحديث: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفنيًا، أو موتًا مُجهزًا، أو الدجّال فشرّ غائبٍ يُنتظَر، أو الساعةُ، فالساعة أدهى وأمرّ"[16]؛ ما يوحي للمسلم بأنه في سباق مع الزمن على الإمكانات المتاحة فيه، التي إما أن تغدو صروحًا من الإنجازات والمكاسب، أو عدمًا وهباء.
لكن خالِفي هذه الأمة يجدون الوقت عبئًا عليهم، لا يألون في ابتكار وسائل تبديده، يزخر "مسار قلم" بأمثلة عجيبة منها، نجتزئ منها مصاديق.
فحينما كان في أمريكا، تطلّب تسلُّمه رسالةً من المركز الوطني للدراسات التاريخية بالجزائر (1978) قرابةَ شهرين (4/306)، وفي حالة يرثى لها من انعدام الطوابع والأختام رغم تبعية المركز لرئاسة الجمهورية، وانعدام التاريخ من المرسل ومن البريد! واستغرق مسار مجلة "الآداب" من لبنان شهرين أيضا، وكتاب "ابن العنابي" أربعة أشهر! (4/308).
وكفّةُ الإنتاج تطيش أمام مجد الحاكم حين يجبر الجيش فلاّحي منطقة الوادي على الاصطفاف لاستقبال الرئيس بدلاً من ريّ مزروعاتهم عام 1983(5/48)، والمنح تتأخر (4/307)، وكذلك الراتب (3/116،205 مثلا)، والاستدعاءات إلى الملتقيات (3/164،173) وافتتاح الجامعة إلى شهر نوفمبر (3/87)، وانطلاق الدروس، مثلا في جامعة قسنطينة إلى ديسمبر عام 1971 (3/279)، والمواعيد لا تحترم (3/372)، والمعلمون يلعبون في ناديهم الدومينو بلا حرج (5/21)، وسفيرنا في دمشق وأعوانه يلعبون "الكارطة" أيام نكبة 1967 (3/129)، وكثرة اجتماعات بومدين بالإطارات بلا فائدة (3/93)، واجتماعات جامعة الجزائر لا تنقطع (3/176)، يستغرق أحدها 5 ساعات (3/222)، وكذا جلسات اللجان، حتى تبلغ خمس ساعات أيضا (3/222).
كما يتجسّد ذلك في شعب القاهرة اللاهي أيام النكبة بدلاً من الإعداد للجولة القادمة (3/144، 238)، وإجراءات الجمارك الطويلة على الحدود السورية اللبنانية عام 1970 (3/232)، وإجراءات السفر المعقّدة إلى المغرب (3/345)، وغيرها.
وحتّمت هذه الفوضى انحناءَ المسلمين أمام اختراقات الثقافة الغربية المعاصرة، التي احتلّت مساحات فكرية واجتماعية متوسّعة من مجالهم الحضاري، ما أدّى إلى ذبذبة كثير من المفاهيم والممارسات لدى أجيال هذا العهد، وإحداث استلاب واسع.
استلاب مُنْهِك
ذهب "هاملتون غيب" (Gibb) إلى أنه "يستحيل على المسلم الذي يتلقّى تعليمًا علمانيًّا على النمط الغربي أن يتجنّب أثر الفكر الغربي..الذي يحضّ المسلمين نوعًا ما على اعتبار الأشياء من وجهتين اثنتين"[17]. كما أن حياة المدن في العالم أجْمع أخذت مع ظهور الاستعمار واتساع الحداثة والتغريب تتماهى بالنماذج الأوروبية، وتطبعُ معظمَ المتأثرين بها بطابع الزّراية بمجتمعاتهم وثقافتهم، وتُذَبْذِبُ أفكارهم وسلوكهم، مما يدخل تحت ما ذكره ابن خلدون من "أنّ المغلوبَ مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحْلته وسائر أحواله وعوائده"(المقدمة)، ويُصطلح عليه اليوم بـ"قانون التكيّف".
ومن جهة أخرى؛ فإن تخلّفَ وعيِ الأمة وواقعها عن الدين، وضعف تمثّل المسلمين لحقائقه، وعجزهم عن تقديم صورته الصادقة إلى الناس؛ حَجَبَ حقيقته عن الآخرين وزهّدهم فيه.
ومن هنا اشتدّ الاستلاب الثقافي في الجزائر وغيرها من بلاد العروبة والإسلام. ويزخر "مسار قلم" بنماذج جديرة بالتأمل والاعتبار، تتمحور حول احتقار اللغة العربية، وإهدار الثقافة الوطنية، والتماهي بالفرنسيين.
فالفرنسية تغدو في الجزائر مرجعًا ومقياسًا لكل شيء، فلا قيمة للشهادة الأمريكية إلا بعد معادلتها بالفرنسية (3/319..)، ولا عجب فالجامعة (1966) بيد الفرنسيين والمفرنسين (3/45)، لذلك أذاقوه علقمًا وهو يكافح في الستينيات لتعديل شهادته "هناك تعفّن كبير في هذه الجامعة" (3/86،87..)، والحوار فيها بالفرنسية (3/95)، حتى النقاش حول إصلاح التعليم عام 1968 بالفرنسية (03/100)، ولغة اجتماعات مجلِسِها هي الفرنسية (3/117، 118)، ومعارضة التعريب في لجنة إصلاح التعليم عام 1970 قوية (3/224)، وبلعيد عبد السلام يهنئ الكاتب بعيد فطر 1961 بفرنسية رديئة الخط (3/27)، وهي ذاتُ السنة التي زار فيها أحد معارف الكاتب من المشارقة الجزائرَ ووجد الجزائريين لا يتحدثون سوى بالفرنسية (3/68)، وحين يحاضر الكاتب في مدرسة المعلمات بابن عكنون عن الوطنية عام 1973 تقدّمه المديرة إليهن بالفرنسية (3/322)، وكل أعمال سفارة الجزائر "المُعتِمة الموحِشة" بواشنطن بالفرنسية (1966)، حتى طُلب إليه أخذ جريدة بالعربية "لأنه لا يوجد هناك من يقرأ هذه اللغة" (3/42)، والدبلوماسيون الجزائريون بها وزوّارهم من المسؤولين والطلبة لا يتحدثون غير الفرنسية، حتى أطفالهم، "وبذلك أصبحتُ أشعر بالغربة مع مواطني، تلك هي لعنة الاستعمار" (3/43).
لكن مهلاً، فالتعرّض للاستعمار لا يشلّ الإرادة ويمحو الذاكرة نهائيًّا، وهل نفسّر إهمال مسقط رأس الأمير عبد القادر (القيطنة) بعد الاستقلال (3/274)، وإباء الطلبة الجزائريين في أمريكا التعرّف على أحوال بلادهم (3/62) مثلاً إلاّ بتخبّط الفكر واضطراب الشخصية؟. بل إنّ اللغة أمر كسبيّ، باستطاعة أي شخص تعلمها والإبداع فيها، وهل كان معظم أئمة اللغة العربية الكبار إلاّ من العجَم؟
ومن الظواهر الأكثر حضورًا في مسار قلم: "الدولة التحديثية"، التي قامت لإدراك ومواكبة العصر الصناعي والتكنولوجي، وتجاوز رثاثة الواقع، لكنها عقّدت الوضع بدلاً من ذلك[18]، لأنها حاولت استنساخ واستعارة نموذج الحداثة الغربي الجاهز، بدلاً من اعتبار الحداثةِ ممارسةً ترقويّة تعتمد على استثارة عوامل القوة الذاتية؛ فكانت مظهرًا من مظاهر الاستلاب الحضاري.
الدولة التحديثية
طغت على تاريخ الجزائر بعد استقلالها ظاهرتان ذواتي أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية عظيمة:
1. عمليات التحديث الشاملة التي أطلقها النظام الوطني الجزائري، وفرضتها تطورات النصف الثاني من القرن العشرين. وكان تحديثًا انْغرسَ في أجسام اجتماعية لم تخضع لنفس التطورات التاريخية الغربية؛ باعتباره نِتاجَ تطورٍ اجتماعي-سياسي تاريخي لنوعية محدّدة من التشكيلات الاجتماعية، ومحصّلةَ مسارٍ حضاري، وسيرورة تطور عام، خاصّ بقسم معيّن من البشرية. ما ولّد إشكاليات حضارية عميقة؛ لأن تلك العمليات استعارت مظاهر الحداثة دون أن تبنيَ النّسَقَ الفكري والثقافي القادر على تجاوز الواقع السالب إلى المساهمة الفعلية في الحضارة البشرية على أساس التعامل الفعّال والمُثمر مع الهوية والخصوصيّة.
2. العواقب والتساؤلات الجوهرية التي استثارها التحديث السريع؛ بما ترتّب عنه من تعميق تحوّلاتِ أنماطِ الوعيِ والتمثُّلاتِ الذهنية القديمة إلى أشكال الوعي والتفكير العصرية، برؤاها ومناهجها التفكيكية لعناصر الهوية والوحدة الاجتماعية، التي أعادت الجزائر بشكلٍ أكثر حدَّةً إلى مربّع جدلية "الأصالة والمعاصرَة"، النّاجمة عن اصطدام المسلمين بالحضارة الغربية المتفوّقة قبل أكثر من قرنين، في ظلّ تفاقم وهَن الحضارة الإسلامية وضعف استجابتها لمتطلّبات الحياة العصرية (لأسباب لا مجال لذكرها الآن)[19]، واطّراد الظاهرة التغريبية العالمية؛ ما أدّى إلى إعادة إنتاج معطيات الفترة الاستعمارية على نطاق أوْسع، خاصةً على مستوى تطوّر النُّخب الثقافية وتعبيراتها الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية، وتأجيل النظام الوطني الجزائري الحسْمَ في موضوع الهويّة الثقافية الجزائرية، مُمَثَّلاً في تكريس الازدواجية اللّغوية التي اكتسبت بذلك شرعية لم تتمتّع بها في السابق، و"قطاعية" الدولة الجزائرية، أي تقسيم القطاعات والمؤسسات بين المعرّبين والمفرنَسين.
تتسم الدولة التحديثية في مسار قلم بضعف الصفة التمثيلية، والمركزية المفرطة، والاستبداد، والهيمنة على المجتمع.
1. ضعف الصفة التمثيلية: يعيش النظام الجزائري أزمةَ شرعية حقيقية منذ الاستقلال، وافتقار لأدوات اتصال فعالة بالمجتمع، أسبغت عليه هشاشة ظاهرة، جعلته يستند إلى قوة بعض الأجهزة المركزية، ويرفض أية تعددية قوية وتمثيلية، تؤدي إلى تفاقم أزمته وسحب كامل البساط من تحت أقدامه.
فالسلطة تتلاعب بالانتخابات (4/100، 130)، وعندما تخسرها بالفعل فإنها لا تتوانى عن إبطالها، ويكون التبرير: "لا ديمقراطية مع مصير الجزائر" (5/330)، ثم تدفع بالمقولة الشهيرة: "الجيش لا يتدخل في السياسة" (5/331)، وتعيّن أعضاء المجلس الاستشاري عام 1992 "وهذه تلفيقة جديدة لن تحلّ المشاكل ولن تعيد المصداقية، سيما وأن عددًا ممّن عيّنوا لا يتمتعون بأية ثقة من مجموع الشعب، وهكذا رجعنا من الانتخاب إلى التعيين" (5/311). وغير ه كثير.
2. المركزية المفرطة:
لم يسمح النظام الوطني بعد الاستقلال بوجود أي هيئة أو فئة خارج مؤسساته، بل حظَر ما كان قائما منها كالحزب الشيوعي الجزائري، وجمعية القيم، وضرب المعارضين، وأعدم بعضهم. لذلك لم يكن يسمح بإجراء انتخابات غير مضمونة، كفيلة بإنتاج مشرّعين أو قياديين قد يخالفونه الرأي أو يستقلون في عملهم، وكل ما همَّه تكثير التابعين.
ولم يكن بومدين مؤمنًا بقدرة المجتمع الجزائري على إنتاج نخب رائدة خارج إطار المؤسسات الرسمية، وكان لا يتصور إمكان قيام أي نشاط مؤثر خارج تلك الأطر، أيًّا كان المبادر بذلك، حتى وإن كان من تيار محايد، ما بالُك إن كان من جهة مستقلة، بلْه منافسة أو معادية؟. فكلام بومدين كما سجّل مسارُ قلم يُراد له أن يكون الأعلى (4/304)، والمساجد مؤمّمة، وخُطَبها موحّدة (4/147..)، ودستور 9/11/76 يخوّل الرئيس سلطات فرعونية ويُصاغ بعيدًا عن الأنظار (4/145)، فضلاً عن انبتاتِ صلته بالثوابت الثقافية والروحية (4/57). ما يدل على أنّ القرارات كانت تُتخذ من قبل مجموعات مركزية بيدها الحلّ والعقد.
3. الاستبداد:
من أهم مصادر الشر في العالم، فتسلُّطُ الإنسان على الإنسان، وشيوع الاستبداد والاستغلال، لا يورثان سوى الفساد والهوان. ومصدر الاستبداد الأول: خوف الإنسان على رزقه وحياته، ولو علم أن الله كفَل الرزق وقضى بالأجل، ما رضَخَ لظالم؛ ما يدل على اتساع الهوة بين جمهور المسلمين والعقيدة الحقّة، بينما تعيده النظرة العصرية بالأساس إلى تأخّر المنظومتين الفكرية والاجتماعية، وضعف الاتجاه العقلي العلمي.
وقد ترسخ الاستبداد في الجزائر (والعالم العربي والإسلامي) حتى غدا الشباب يفضلون مخاطر البحر وبطن الحوت على القهر والمعاناة التي لا تنتهي، وحرصت الحوامل اليوم على السفر إلى الغرب للولادة هناك، واكتساب حق الجنسية الضامن للإفلات من استبداد دولة الأصل.
فالسلطة لا تتردّد في فرض الحداد 40 يومًا على حاكمٍ خلّف مصر –بعد حكم فردي دام عقدين- مهزومة ومفلسة (3/240)، وتخذل المعارضة المغربية في عهد بومدين رغم ادّعاء التقدمية (4/348)، بل تؤيد نظام الحسن الثاني (باسم الجزائر طبعًا) (3/310 مثلا)، وتسجن جامعيين وعلماء نهاية 1976 (4/146) لنقدهم الحكومة، على خلفية فرض الدستور الجديد، وتستولي على أملاك الناس، منهم عائلة الكاتب (3/323)، وهلمّ جرًّا.
4.الهيمنة على المجتمع
واجهت الدولة الوطنية الجزائرية الوليدة بعد الاستقلال تحديات متعددة جسيمة، كان أداؤها أمامها عشوائيًّا أو ضعيفا ، بشهادة مآلات أوضاع البلاد في كافة المجالات، كما في واقع الحريات، والبيئة، والتربية والتعليم، والثقافة، والأخلاق، والتضامن الاجتماعي، ناهيك عن المناحي المادية الأخرى كالزراعة أو الصناعة.
ومردّ ذلك بالأساس إلى نظرة السلطات الخاطئة إلى علاقة المجتمع بالدولة، فبدلاً من أن تكون الدولة خادمة للمجتمع، ضامنةً لحقوق الإنسان كما هو الشأن في الدول المتقدمة؛ فإنها غدت في أكثر بلداننا مصدرًا لتهديد الأمن والحريات، وتهميش الكفاءات، وتقويض المواثيق الدولية والانقلاب على الدساتير والقوانين الوطنية كما يرى برهان غليون[20] (وغيره)، مما تزخر به يوميات سعد الله. وفي المقابل نرى ذلك نتيجةً أيضا لضعف التزام وفعالية المجتمع واستخذائه أمام السلطة، حيث تسود بينهما علاقة "التنظيم المتبادل"، وتكون طبيعةُ السلطة انعكاسًا لسلوك الأفراد وطبيعة المجتمع؛ مثلما برّر ونستون تشرشل وجود نائب أحمق (على الأقل!) في مجلس العموم البريطاني بأنه ممثّل طبيعي لفئة من الإنكليز. ومأساة بعض مجتمعاتنا بتنصّلها من مسؤولياتها أنها جعلت معظم ممثليها من الجاهلين والحمقى!
فهل كل ذلك محصّلةُ تبايناتٍ جوهرية بين ثقافتين؟
ثقافتان متمايزتان في "جغرافيا الفكر"
يرى "ريتشارد نيسبيت" (R. Nisbett)، أحد كبار علماء النفس الثقافي الغربيين أنّ الشعوب والأمم تفكر كلّ منها بطريقة مختلفة، تبعًا لأصولها البيئية/ المجتمعية/ الطبيعية الممتدة في الزمان والمكان. وأن الفروق في التوجهات والسلوكيات والتصورات والمعتقدات، ما هي إلا ثمرة من ثمار الاختلاف في طرائق التفكير المتوارثة عبر الأجيال والمتأصلة كسِمات نفسية وعقلية لدى الشعوب والمجتمعات[21]. ولعلّ ذلك هو ما يفسّر الاختلافات الجوهرية بين واقع وإفرازات الثقافتين: العربية الإسلامية الراهنة (القائمة على الجماعية، والعمومية، والمجاملة، والتوفيقية..)، والثقافة الغربية المعاصرة (القائمة على الفردية، والخصوصية، والمواجهة، والحسم).
واليوم تقترب حضارة الغرب من الكمال في مجال فقه الإنجاز بأبعادِه المختلفة: فقه التخطيط وتعبئة الإمكانات، وفقه التنفيذ، وفقه التقويم والمراجعة، وفقه حماية المكاسب حسب تقسيم الطيب برغوث[22]؛ وترتب عن ذلك أنها حققت ما درجَ المسلمون على تسميته بـ"فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، التي هي مناطُ الخيرية عندهم، وأنجزت أكْمَل منهجِ تقويمٍ دائم ومراجعة مستمرة لحياتها العامة؛ من خلال المجالس المنتخبة، واللجان المتخصصة، والقضاء المستقل، والفصل بين السلطات، ومؤسسات الصحافة والإعلام الحرة، وأنواع الرقابات المالية والإدارية المتيقظة، التي طالما نوّه بها الدكتور سعد الله في "مسار قلم"، هي ضماناتُ حيويةِ المجتمع وتفجُّر الطاقات، ومنعِ مداراة الظالم والتستر على الفاسد.
بينما لا يزال العرب والمسلمون يكررون نفس الأخطاء العريقة، ويطبقون ذات الأساليب العتيقة. وها نحن اليوم متأخرون عن مستوى فكر الأفغاني ومحمد عبده وابن باديس!، وفينا من يشكّك في إلزامية الشورى للحاكم، ومشروعية الاحتجاج السلمي على الظلم والفساد، وفي قيمة العقل، ولا غرو؛ فقد سلَف مِن أعلام الأمة مَن سوّغ قتل الصالحين[23]، وفضّل أمثال الحجاج وعبد الملك بن مروان والمنصور العباسي ونصرهم على المصلحين كسعيد بن جبير وشبيب وأبي حمزة "الخارجي" ومحمد النفس الزكية (بذرائع طاعة وليّ الأمر، ودرء الفتن، وذمّ الاختلاف)، وبرّر الاستبداد السياسي[24]، واعتبر قوةَ الحاكم أساسَ قوة الدولة[25]. وفي الطرف المقابل من ينتصب للثّأر من التراث!.
ولا يخفي الدكتور سعد الله إعجابه بتفوق الغرب في مجال الإنجاز بأبعاده المذكورة، وخيبة أمله من تردّي واقع قومه، لكن بلهجة معتدلة ومنهج وسطي، لإيمانه بالأسباب وإمكان استعادة المبادرة من خلالها.
من ذلك ما يورده عن عناية الغربيين بالعلوم والثقافة، وحرصهم على خدمة أهلهما، مقابل تنكُّب قومه عن ذلك في الغالب. فالعائلات الغربية تحتضن الطلبة الأجانب لتيسير إقامتهم وتعلمهم اللغة (3/25)، وكبار الأساتذة يؤيدون صغارَهم بالتزكية (3/70)، والزمن عندهم مقدس والسرعة قاعدة حياة، فالناس في هولندا- مثلا- يسرعون حتى أنهم يجرون (3/156)، ولا مجال عندهم لإزعاج وتعطيل المسافرين، فلا تفتيش ولا سؤال في مطار باريس (3/157)، وراتبه يستلمه في أمريكا منذ الشهر الأول (4/ 267)، وتنظيم اللعب والرياضة والحدائق والنوادي من المبادئ الأساسية لدى الأمريكيين بخلاف الشرقيين (4/317)، واليهود في أمريكا متحدون، عكس المسلمين، وإدراك قيمة التاريخ عندهم راسخة، وهو يثمّن –كمثال-مبادرة دولة حديثة كرومانيا إلى نشر أرشيف تاريخها "فأين نحن؟" (4/329)، ويثني على روعة وتأثير النظام الرائع في سويسرا (3/306-308)، حتى جعل أوروبا قدوة في أكثر من مجال، وحُقّ له ذلك.
لكنه لا يخفي انزعاجه من فساد أخلاق الغربيين في مجال العلاقات بين الجنسين على سبيل المثال (3/73، 75، 76...): فـ"لم أعد أميّز (في الحي الجامعي بباريس) بين ما هو حيواني، وما هو إنساني" (3/76).
أما في الجانب الآخر؛ فحدِّث –مثلا- ولا حرج عن الراتب الذي لا يأتي (في الجزائر) لأخطاء إدارية أو غيرها (كما سلف)، والمنحة التي لا تصل من الجزائر إلى أمريكا (4/424)، ومجمع اللغة العربية المترهّل في القاهرة وأعماله البطيئة (5/195)، وأعضاء المجمع غير المسؤولين (5/205)، واستبدال المصريين سقائف الجريد التي خلّفها اليهود في منتجعات سيناء بالحجر والإسمنت؟! (5/139)، وما إلى ذلك من مظاهر التسيّب واللاّمسؤولية. فهل ذلك هو معنى قوله أن الشرق شرق، والغرب غرب (3/122)؟.
وقد حزّت كل هذه الاختلالات المُعرقلة لحركة وتطور المجتمع والأمة في نفس سعد الله، فانتصر لشروط النهضة الإجرائية الأساسية في حينه كما قدّرها، وأهمها: التعريب، والجزأرة، والحرية أو الديمقراطية.
مُدافِع عن الأصالة والحرية
كانت الجامعة الجزائرية في الستينيات جزائريةً بالاسم فقط، أما المناهج واللغة فكانت فرنسية. وكان الأساتذة الفرنسيون يستحوذون على نصيب الأسد من المناصب البيداغوجية فيها، حتى في تدريس التاريخ الجزائري! وتصدى الأساتذة المعرّبون لهذا الشذوذ الثقافي، رافعين شعارات التعريب، والجزْأرة، والديمقراطية. ونشبت معركة وقف فيها كثير من الجزائريين المستَلَبين ضد إصلاح الجامعة.
وكان الدكتور سعد الله في مقدمة المنافحين عن تلك المبادئ، لاعتقاده بأنّ سيادة الجزائر ونهضتَها لا تتحقّق ولا تكتمل إلا بإعادة إدماجها في محيطها الطبيعي العربي الإسلامي، لأنها مهما حاولت أن تطير بأجنحة غيرها لن تستطيع. وتحققت في هذا الإطار تطورات معتبرة في السبعينيات، وخاصة في الثمانينيات.
ناضل الدكتور سعد الله في سبيل المبادئ بصبرٍ واحتساب –إذن- طويلا في وجه دسائس وعراقيل اللوبي الفرونكوفيلي المتشبّث بالواقع القائم في ظل تخاذل ولا فعالية المجتمع، وغموض أو ازدواجية موقف القيادة السياسية. كما ناضل ضد الرداءة والفوضى وتحريف الجامعة عن دورها الحضاري. ومن أشدِّ الضغوط التي تعرّض لها (مثل كافة المتخرّجين من جامعات غير فرنسية): تسويف معادلة شهادته الأنكلوسكسونية الذي طالما آلَمَه وأحزنه أربعة أعوام (3/195)، واستكثار سكنٍ محترم عليه، وهو مِن جملة من أُنيط بهم نفخ الروح في جسم المجتمع! وقد تجلّى نضال سعد الله في هذا الباب-بإيجاز شديد- في الآتي:
1. التعريب:
مثلت اللغة العربية لسعد الله روح المجتمع والأمة. ولا غرو؛ فاللغة خاصّةٌ إنسانية تتوقّف عليها نشاطات الإنسان الثقافية[26]، ومن أهم أسس الحياة الاجتماعية والشخصية، حتى قال هايدغر (Heidegger) "إنّ اللغة هي منزل الكائن البشري"[27]؛ إذ هي وسيلة الإنسان للتعبير عن رغباته وأفكاره وأحاسيسه، وهي واسطته في تطوير مواهبه وتنمية عقله وإخصاب فكره وخياله وأدواتِه لاكتساب خبراته ومهاراته، كما أنها وسيلته للتّخاطب والتعايش والتبادل وبناء وتوثيق الروابط[28]. وهي كذلك الوسيلة الأساسية لنقل الثقافات والحضارات من جيل
إلى جيل. فهي قاعدة تطور الأمم وتقدُّم الجنس البشري.
لكن هذه الوظائف معدومة أو معطلة في الجزائر، حيث لا يعرف معظم المسؤولين السامين والسياسيين -في دولة شديدة المركزية كالجزائر- كيف يعبرون عن معشار أفكارهم بلغة يفترض أنها وطنية، بل منهم من لا يعرفها، أو يعاديها كما استفاض واشتهر. كما أن كثيرًا من الفئات المثقفة وذات التخصصات المهنية التقنية أو العلمية لا تريد أو لا تستطيع التعامل بلغة الشعب فيما بينها أو بينها وبين المجتمع، بل إن كثيرا جدا من الأفراد البسطاء يقعون في ذلك في معاملاتهم العامة و الإدارية، ما خلَق أزمةَ تواصُل حقيقية هيكلية ومؤسساتية واجتماعية شبيهة بنظيرتها في دول جنوب الصحراء، كبوركينا فاسو، ومالي، وساحل العاج. ونتج عن ذلك تنافر وتضارب الجهود والمبادرات، وتكريس التبعية للخارج، وإعادة إنتاج معطيات الفترة الاستعمارية على نطاق أوْسع، وتعطيل التنمية.
ولطالما تألم سعد الله لواقع العربية المأساوي الذي تواطأ عليه عاملان: تفريط المجتمع، وخذلان النخب العصرية الحاكمة. فدعا إلى إنزالها المنزلة التي تستحقُّها؛ وعضَدها بجهوده الملموسة، باستفراغ الجهد في إحياء تراثها؛ وملء الفراغ في مجال التاريخ الذي كان حكرًا على إنتاج المدرسة الاستعمارية؛ وتكفّله بمهام التعاقد مع الأساتذة الجامعيين العرب الأشقاء (3/226-254)؛ واعتراضه على ازدواجية أقسامٍ في الجامعة (أي وجود قسمين معرّب ومفرنس لكل تخصُّص) (3/222)، وفيه ذريعة لإجهاض التعريب؛ واصطدامه بعميد كلية الآداب (1969) بسبب دفاعه عن العربية (3/192)؛ وتحذيره من مخاطر النزعة الثقافية المحلية (أو الشعبية) المستندة إلى النخبة الفرونكفونية المتحكمة في الإعلام والإدارة التي لا توادّ العربية، رغم أنه لا يعادي الثقافة الأمازيغية ويعتبرها من روافد الثقافة الجزائرية كما صرّح لمجلة الوحدة صيف 1991؛ ونيّته التفرّغ لكتابة تاريخ الجزائر الثقافي ما بين الفتح الإسلامي ودخول العثمانيين، لولا اعتراض بعض المسؤولين؛ وتبرّعه بنصيبه من جائزة الإمام ابن باديس المالية لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة عام 1991، غيرةً منه على ثقافة الأمة، ناهيك عن تيار إنتاجه الذي لا ينقطع بالعربية داعمًا مصداقيتها وحضورها. وغير ذلك.
2. الجزأرة:
يرى الدكتور سعد الله أنه لا توجد في الجزائر أمة قائمة بذاتها ذات هوية خاصة محدّدة، كالأمة الألمانية أو الأمة الفرنسية، وإنما فيها جزءٌ من الأمة العربية، ومن أمة أعظم هي الأمة الإسلامية، تربطها بهما روابط ثقافية متينة، أهمها العقيدة، واللغة، والنظم الاجتماعية. وقد كانت الجزائر كذلك على الدوام، إلى أن استولت عليها فرنسا، فراحت تحاول أن تصطنع لها هويةً مزعومة خاصة جوهرُها العاداتُ والتقاليد الاجتماعية المحلّية والفرنسية، تكرّست للأسف إلى حدّ ما بعد الاستقلال.
والواقع أنّ ما يربط الجزائريين من عناصر هويّتهم، وهي الدين واللسان بشكل خاص؛ يجمعهم كذلك بسائر الأمة. لذلك فالجزأرة عند الدكتور سعد الله ببساطة هي نفيُ تلك القوالب التي يحاول البعض حصرَ الجزائر داخلها، مثل "الوطنية" الضيقة، و"الثقافات المحلية والشعبية"، و"الهوية المتوسطية"، و"الهوية الإفريقية"، وإحكام ربط الجزائر بمحيطها الطبيعي والتاريخي العربي الإسلامي، ممّا ينبض به مسار قلم؛ وفي مراجعةِ الشعارات التي رفعتها وضحّت من أجلها أجيال المقاومين على مدى 130 عامًا إيجاب.
3. الحرية:
الحرية قيمة جوهرية يقرّها ويكفلها الدين والعقل والمواثيق البشرية. وفي العالم الإسلامي إهدار لهذه القيمة، فيما يتمتع الغرب بأقدار من الحرية وحقوق الإنسان-أصبحت من المسلّمات-حتى غدا الانتماء إليه من أغلى أمنيات الشرقيين. وقد دافع سعد الله عن الحرية على الدوام.
من هنا رفضُ صاحب مسار قلم أن يكون بوقًا للسلطة، أو مثقفا موسميًّا، بل مثقفًا جامعيًّا حرّا وملتزمًا إيجابيًّا، فهو يتردّد في حضور ندوات السلطة (3/110)، ويأبى المشاركة في ندوات المناسبات (3/ 43)، ويمتنع عن تلبية دعوة بومدين إلى حفلة استقبال بمناسبة أول نوفمبر 1969، لغيرته على شخصيته العلمية.. (3/208)، ويعارض الحزبية (3/93، 96)، فيرفض منصب المستشار الثقافي للحزب عام 1968 (3/96)، ويستهجن استمرار تمجيد الطلبة المصريين لناصر رغم تسببه في نكبة مصر (3/76)، وغير ذلك.
ولعل استعادة المجتمع والأمة "وعيهما التاريخي" كفيل ببلورة وعيهما بسنن الاجتماع والتدافع البشريين والتعجيل بالنهضة المنشودة.
إشكالية الوعي التاريخي
الوعي التاريخي هو الإدرك العميق لدور الخبرة التاريخية الذاتية والإنسانية الحيوي في بناء الوعي بسنن التسخير عامة، وسنن الأنفُس والهداية والتأييد منها خاصة، وما يوفّره ذلك لحركة التجديد من شروط ضرورية لضمان أصالة وفعالية واطّرادية مبادراتها على كافة الصُّعد[29]؛ أو هو الوعي بمقومات الوجود التاريخي، والإمساك بتلك المقومات، وإعمال الإرادة لحمايتها[30].
ويبدو أن أصول إشكالية الوعي التاريخي عند الأمة تتصل بمعركة صِفّين (37هـ/ 657م) والانحراف الذي تلاها كما يرى مالك بن نبي[31]، الذي يذهب إلى أنّ الحضارة الإسلامية لم تنشأ-بسبب ذلك- عن مبادئ الإسلام، بل إنّ مبادئَ الإسلام هي التي توافقت مع سلطةٍ زمنيّة قاهرة[32]. حتى استبدلت اسم "الـمُلك العَضوض" المذكور في أكثر من حديث[33] باسم "الخلافة"، وغدت نظريتُها السياسيةُ (في الخلافة، وهي رمز سيادة الشريعة) في مواجهة مجادلات الفِرَق-على سبيل المثال- مجرّدَ انعكاسٍ للوقائع التاريخية؛ أي صبغٌ لتاريخ الأمة بصبغة عقلية.
وغدا التاريخُ نفسُه بنبرته الدّعائية، وانتقائيّته، وأحكامه المطلقة، واندماجه في علم الكلام[34]، أداةً للجدلِ المذهبي، وسبباً في الجمود الفكريّ؛ بدلاً من أن يكون وسيلةً للنقد الذّاتي، ومقاومة التعصّب والأوهام والغُثائية واللاّفعالية، وتأسيس الوعي الموضوعي والسُّننيّ التكامليّ[35]، واستنباط وسائل ترشيد الفعل الثقافي والتربوي، لتحقيق الانبعاث الاجتماعي والحضاري؛ حتى ذهب بعض الباحثين إلى أنّ تلك "الأحكام السلطانية"، ومبدأ "طاعة المتغلّب"، وذلك التأويل العقلي للكتاب والسنّة؛ ليست سوى تسويغًا بعديًّا للوقائع التاريخية السابقة التي أقرّها الإجماع[36]؛ لأنّ الأمّة من هذا المنظور لا يمكنها الوقوع في الإثم والخطأ، وإلاّ حبطت كل أعمالها، وبطلت كل نشاطاتها.
وأدى ذلك إلى استصحاب حوادث الماضي كقوالب ومرجعيات معياريّة مطلقة لإضفاء المصداقية أو الزيف على أعمالنا ومبادراتنا حاضرًا ومستقبلا، وجعلنا نعيش-كما يرى محمد عابد الجابري- فجوة في الوعي بين المستقبل ومعطيات الحاضر وتحديات العصر من جهة، وماضينا من جهة أخرى، فأحدثَ قطيعةً لا واعية وفجوة واسعة بين الأمة وواقعها. وعلى سبيل المثال؛ فإن تعظيمنا للمُلك العاضّ الأموي والعباسي والعثماني (بقطع النظر عن فتوحاته وتصدّيه للغزاة) إنما هو تزكية وتعظيم لا شعوريان للحكم الاستبدادي الحاضر، مع أنّ المشرّع الأسمى يجرّد ولايةَ الظالم من الشرعية، كما في قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) البقرة: 124.
وبذلك وقفت مشاكل ماضينا حائلا دون حلّ مشاكل حاضرنا ومستقبلنا، وأصبحت الأمة عاجزة عن إنتاج تاريخها، الذي غدا نابعًا من تاريخ الغرب وتابعًا له.
تتجلّى مساهمة الدكتور سعد الله في حل إشكالية الوعي التاريخي لدى الجزائريين-من خلال مسار قلم-(وإن لم يكشف عن جذورها العميقة، مثلما فعل ابن نبي، وشرفي الرفاعي مثلاً) في دعوته إلى التسلّح بالمناهج العلمية الحديثة، وكتابة التاريخ العلمي الدقيق لا التاريخ الاستعراضي أو تاريخ المناسبات، واجتهاده في إظهار الحقيقة، وإبراز قيمة الأبطال، خلافًا لما ينعاهُ على الجزائريين من الزهد في الكتابة، والركون إلى الأوهام، وتهوين قيمة الرموز.
فنجح في هذا المضمار إلى حدّ بعيد في تخطيط معالم مدرسة تاريخية جزائرية، ذات منهج عصري، ولسان عربي، وروح إسلامي، ومشرب وطني، غدت موئلاً للباحثين عن صورة الجزائر الأصيلة، وملاذًا من عواصف التشكيك في الهوية وتفكيك عناصر الوحدة الاجتماعية الجزائرية؛ فساهم في تعميق وبلورة التوجّه الثقافي الساعي إلى فكّ الارتباط بالموروث الاستعماري والثقافة التقليدية الميّتة (وإن لم يشدّد على مواجهة الأخيرة)، وتثبيت انتماء الجزائر العربي الإسلامي، بكيفية واعية بمقومات ذلك الانتماء، حريصة على حفظها وترقيتها بأصالة وفعالية. ومن المفيد ذكر جانب من ذلك (حتى 1993):
1. في بعث التراث الجزائري، لإبراز مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية وحفز المبادرات الإبداعية لدى أبناء الجيل، من خلال: حكاية العشاق (1983)- رحلة ابن حمادوش (1983)- منشور الهداية، للفكون (1987)- رسالة الغريب إلى الحبيب، للبجائي (1992)- تاريخ العدواني..
2. في نصرة القضايا الوطنية الجزائرية، للحدّ من تأثير وجهة النظر الاستعمارية، وشحذ اعتزاز الأجيال بجهاد الآباء واستلهام دروس التاريخ، كما في: الحركة الوطنية الجزائرية، بأجزائه الثلاثة (1830-1900/ 1900-1930/1930-1945)- أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، بأجزائه الثلاثة (1976، 86، 90) (ثم جزآن آخران: 1996، 2005)، وغيرها.
3. في كتابة التاريخ الثقافي، لتسجيل خلفيات الأحداث الباطنة وعوامل التغيير العميقة، وربط الجزائر بمحيطها الطبيعي العربي الإسلامي، ودرْء تيارات الاستلاب الناسخة والنزعات الانعزالية الهدّامة، خاصة في موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي" بمجلداتها العشرة، التي صدر جزآها الأوّلان عام 1981، ودراساته عن محمد العيد آل خليفة (1961)، والشاذلي القسنطيني (1974)، والمفتي ابن العنابي (77)، وشيخ الإسلام عبد الكريم بن الفكون (86)...
4. في بحث قضايا الساعة في الفكر والمجتمع والسياسة، خاصة: منطلقات (1982)- أفكار جامحة (88)- قضايا شائكة (89)- في الجدل الثقافي (93)- هموم حضارية (93).
ولا ننتهي من هذه القراءة السريعة قبل التعريج على بعض ما قد يتبادر أنها مواضع نقص أو تذبذب.
أصالة تبحث عن كمال
قال ابن قتيبة: "قد يتعثّر في الرأي جِلّةُ أهل النّظر... ولا نعلم أنّ اللهَ أعطى أحدًا موثقًا من الغلَط وأمانًا من الخطأ...بل وصلَ عبادَه بالعجز، وقرنَهم بالحاجة، ووصفهم بالضعف". والدكتور سعد الله نفسه صرّح مرارًا أنه يريد نقدًا لا إطراءً، وإن كان ما يُستدرك أو يُتعقّب عليه غير مذكور أمام ما أحرزه من الصواب.
ولعلّ ارتياد السينما والكازينوزهات المصرية في السبعينيات، والإعجاب بفرقة البولشوي الروسية (4/133)، ومجالسة الأساتذة المشارقة أهلِ الكاس والطّاس في بعض الظروف (3/182، 4/78)، أو التونسيين أمثالهم، والتراخي في دفع بعض الشّبهات (3/147)، وربما استهلاك اللحوم غير المذكّاة (؟) في الغرب (3/50،153، 154..)، وعتب المؤلف على الإمام الإبراهيمي لتجاوزٍ بسيط تحقّقت به مصلحةٌ للأمة وأجرٌ لكاتبنا (3/145)، وربما انخداعه بأمثال صدّام! (5/242،243...) إلخ-لعلّ كل ذلك مما يعتري أي إنسان، وقد يكون انعكاسًا لواقعِ مجتمع بدأ بالكاد يتلمّس طريقه، عقب قرون من الجمود والتدهور الداخلي والتسلط الخارجي.
بينما لا ننتهي من إحصاء شواهد جمّة من مسار قلم على الإخلاص والتواضع والصراحة والمروءة والسماحة والإيمان، يعكسها صبر الكاتب وتوكّله وتغرّبه وثباته واعترافه بفضل الله (3/315..) وانبساط يده وحياؤه وصراحته وعلو همّته.. و"علوّ الهمة من الإيمان". وله مشاهدات "إقبالية" في شعر عرفانيّ يشعّ نورًا قد يكثف هذه المعاني:
قمم "الألب"
من ينشر فوقكِ وجه الرّب (3/84).
الخاتمة
وبعد، فـ"مسار قلم" مرآةُ حياةِ مثقفٍ أصيل، مترفع عن منصب، متنزِّه عن تحزّب، رافض لتهجين، لم تُبْطِرْه مادة، ولم تغرّه شهرة؛ أدّى دورًا ظاهرا في بلورة وإنعاش ورسم توجّهات الثقافة الجزائرية، خاصة في قضايا تأصيل التاريخ والتعريب وتهذيب الأخلاق. مع حرصٍ على صرامة المنهج، واعتدالٍ وحذرٍ في المواقف العامة، وميلٍ إلى التآلف والتوافق، يذكّرنا بموقف الإمام ابن الجوْزي حينما تنازع السنّة والشيعة على عهده في المفاضلة بين أبي بكر وعلي، ورضوا فيما بينهم بحُكمه، فسُئل عن ذلك في أحد مجالسه، فقال على الفور: "أفضلهما من كانت ابنته تحته"، ونزل في الحال حتى لا يُراجَع. فقالت السنّيّة: هو أبو بكر، لأنّ عائشة تحت رسول الله، وقالت الشيعة: هو عليٌّ، لأن فاطمة بنت رسول الله r تحته.
ولا عجب؛ فالاستقطاب الثقافي القائم في الجزائر قد استحكم اليوم أكثر من أي وقت مضى، فيما يفتقد التيارُ المعبّر عن الأغلبية الأدواتِ المعرفية والمنهجية والكفاءات البشرية الكفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها في ظلّ ذهول المجتمع، واختلال الموازين الحضارية الحادّ بين عالم الإسلام والغرب. وإذا كانت الثورات المعاصرة الرئيسة (كالصينية، والإيرانية) قد اضطرت إلى مراجعات ثقافية شاملة، وخوض معارك ثقافية هائلة لتحييد التيارات "الطفيلية"، سُخّرت لها إمكانات فكرية وبشرية هائلة، في سبيل توحيد الرّؤى والاتجاهات الاجتماعية وضمان انطلاقة حقيقية رشيدة على طريقتها؛ فما الذي يلزَم الجزائر لتستعيد الهوية، وتقف في بداية الطريق الصحيح، وقد نخرَها استِلابان: استلابٌ تراثي "يتعبّد" أخطاء الماضي، واستلاب فرونكوفوني مصمّم على انتزاع ضميرِها؟ حتى انطبق عليها ما: (ضرب اللهُ مثلاً رجلاً فيه شُركاءُ متشاكسون) الزُّمر: 29، وغدتْ عاجزة عن إنتاج الحدّ الأدنى من الوعي الذاتي الجماعي والحراك الفاعل الاجتماعي. وهذه إشكالية أعتقد أنها دوّخت الدكتور سعد الله (كما حيّرت بالأمس مالكًا بن نبي والبشير الإبراهيمي وغيرهما)، حتى ذهب في إحدى لحظات اليأس من إمكانية نجاح الحلّ الإصلاحي إلى حدّ طرح خيار التغيير بالثورة رغم محاذيره (5/358)!
و"مسار قلم" خلاصةُ تجربةِ عالِم نذر نفسه للحقيقة كما بلّغه تخصُّصه واجتهاده، رغم أعاصير ومناورات من غرّهُم بهرج دنيا، ولُهاث وراء سراب جاهٍ وسلطان قد يتوسّل كيْدًا، واستقواءً بالأجانب، فعُجِّل لهم شيءٌ من ذلك، بينما ذهب هو بالباقيات، مع إقبال الدنيا كذلك. فحقّق المعاناة الواعية، التي تتجاوز الأسى واجترار الأحزان وتجريم الآخرين، إلى المصابرة المتطلعة إلى المستقبل، فيتحول معها الحزن والخوف والألم إلى إنجازات ومكاسب.
وهو أيضا ذاكرةُ جيلٍ حلُم بالنهضة، لكنّ الذي تراءى له كذلك كان حركةَ وعيٍ وتعبئةٍ ودفاع عن الذات أمام تحديات الانحلال الداخلي والهيمنة الخارجية، أكثر منه نهضةً متكاملة تدرك الحاجات، وتتوفر لها الخبرات والقدرات. ويبدو أنّ النهضة المنشودة مَنوطة ابتداءً باستكمال الوعي التاريخي (المحقِّق لإدراك مقوّمات الوجود التاريخي والتمسّك بها) لدى نخبة المجتمع والأمة وجماهيرهما على حدّ سواء، لتفعيل طاقاتها وحفزها إلى البناء والتجديد كما أسلفنا، ولطالما نبّه إلى ذلك الدكتور سعد الله وكافح من أجله، وإن لم ينظّر له بشكل مستقل. فهل تتضافر الجهود في هذه السبيل؟
= = = = =
الهوامش
[2] الطيّب برغوث، مقدمة في الأزمة الحضارية والثقافية السّننيّة (دار قرطبة، الجزائر، 1425/2004)، ص 18.
[3] حسين مؤنس، الحضارة، (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1419/ 1998)، ص 66.
[4] الطيب برغوث، مقدمة..، مرجع سابق، ص 14.
[5] عن دار عالم المعرفة، الجزائر، 1430/2009.
[6] البصائر، 13 ربيع الثاني 1355/ 3جويلية 1936، مجلد 1، ص 212.
[7] أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي (دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998)، ج 5، ص 314.
[8] لم تنقطع الشهاب (وكذا البصائر) عن الشكوى من فساد ذِمم كثير من المشتركين والباعة. أنظر مثلاً: مجلد 5، ص ص 142، 197.
[9] الشهاب، ذو الحجة 1348/ ماي 1930، م 6، ص 258.
[10] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997)، ج 1، ص 181.
[11] أنظر: كارل راتنر، "ثلاثة تيارات في علم النفس الثقافي"، الثقافة العالمية، ربيع الثاني 1421/ يوليو 2000، ص ص 149-154.
[12] الرقم الأول للمجلد، والثاني للصفحات من "مسار قلم" طبعًا.
[13] ناصر جابي، مواطنة من دون استئذان (منشورات الشهاب، الجزائر، 2006)، ص 75.
[14] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين (دار الفكر، بيروت، 1406/ 1986)، ص 69.
[15] راجع عبد الحميد النجار، مراجعات في الفكر الإسلامي (دار الغرب الإسلامي، تونس، 2008)، فصل العقيدة: الحقيقة والفاعلية، ص ص13-44.
[16] رواه الترمذي برقم 2228.
[17] هاملتون غب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة هاشم الحسيني (دار مكتبة الحياة، بيروت، 1966)، ص 79.
[18] أنظر: برهان غليون، "بناء المجتمع المدني في الوطن العربي: العوامل الخارجية والداخلية"، نقد، عدد 7، 1994، ص ص 19-24.
[19] راجع على سبيل المثال: مالك بن نبي، مرجع سابق.
[20] برهان غليون، مرجع سابق، ص ص 20-21.
[21] "قراءة في كتاب: جغرافية الفكر"، نجمة إدريس، مجلة العربي، يونيو 2011، ص 110.
[22] الطيب برغوث، حركة تجديد الأمة على خط الفعالية الاجتماعية (دار قرطبة، الجزائر، 1425/2004)، ص ص 149، 150.
[23] أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم (ش.و.ن.ت، الجزائر، 1981)، ج 2، ص 454.
[24] أنظر: Roger Garaudy, Grandeur et décadence de l’Islam (Al fihrist), pp. 65 et suite
[25] رضوان السيد، "التاريخ والاستحالة في التحولات التاريخية وفي الوعي بها"، منبر الحوار، 36 (خريف 1998)، ص 42.
[26] بيتر فارب، بنو الإنسان، ترجمة زهير الكرمي (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1403/1983)، ص 20.
[27] أحمد المعتوق، الحصيلة اللغوية (المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت، 1417/1996)، ص 35.
[28] نفس المرجع، ص 307.
[29] أنظر الطيب برغوث، حركة تجديد الأمة..، مرجع سابق، ص 144.
[30] صلاح سالم "مأزق الوعي التاريخي العربي"، مجلة العربي، ربيع الآخر 1432/ مارس 2011، ص 16.
[31] وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 114.
[32] نفسه، ص ص 55، 56.
[33] مثاله: "الخلاقة بعدي ثلاثون سنة، ثم تعود مُلكًا عَضوضًا"، مسند الأمام أحمد، 5/220، 221.
[34] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005)، مرجع سابق ص 351.
[35] راجع على سبيل المثال: الطيب برغوث، المنهج النبوي في حماية الدعوة ومنجزاتها في مرحلة البناء العقديّ والفكري للمجتمع الإسلامي بمكة (دار قرطبة، الجزائر، 2004).
[36] هاملتون غب، دراسات في تاريخ الإسلام، ترجمة إحسان عباس وآخرين (دار العلم للملايين، بيروت، 1979)، ص 212.
1 مشاركة منتدى
مختارات: مسار قلم أبو القاسم سعد الله, الهام | 2 كانون الثاني (يناير) 2014 - 13:17 1
سيدي الكريم أشكرك على هذه المبادرة الطيبة و التطرق لمقتطفات نيرة من فكر الفقيد الغالي الذي يعد رحيله فجيعة لكل الجزائرين سواء مثقفين ممن يعرفون هذا المفكر و لو من خلال ابداعاته او الاشخاص العاديين الذين يكفيهم فخرا انه حمل لواء العلم من أجل العلم... لم تغريه المكاسب المادية و لا المناصب العالية... هذا هو دأب العلماء...رحم الله أبا القاسم سعد الله و جعل مثواه الجنة مع النبيين و الشهداء و الصديقين. أمين