عدلي الهواري
كلمة العدد 91: ثلاث سنوات على محاولات التغيير في العالم العربي
كل عام وأنتم بخير بمناسبة بدء العام الميلادي الجديد، 2014.
في مثل هذا الوقت قبل ثلاث سنوات (2010/2011)، كان العالم العربي يعيش حالة جماهيرية نادرة، تمثلت في الخروج إلى الشوارع والميادين للمطالبة برحيل حاكم، أو بإصلاحات جذرية في أساليب الحكم.
النجاح الذي تحقق في تونس ومصر، ممثلا بإزاحة زين العابدين بن علي وحسني مبارك، جعل التفاؤل يصل حد النشوة، فكثر الحديث عن "الثورة"، وأصبحت موضوعا مفضلا لكتابة الكثير من الغث والقليل من السمين.
كان اطلاق صفة "ثورة" على ما جرى نابعا من استسهال إصدار الأحكام على التطورات السياسية والاجتماعية، فلا تزال هناك حاجة إلى عشرين سنة على الأقل لنتمكن من الحكم على ما إذا كانت قد حدثت ثورة حقا، أم هبة جماهيرية أحرزت نتائج لم تعمر طويلا، وسرعان ما أحدثت شروخا عميقة في المجتمع.
ولأن صفة "ثورة" محببة منذ ذلك الحين، صارت تطلق حتى على التحركات الهادفة إلى العودة إلى الماضي، وعلى الأعمال التي تهدف إلى إبطال النجاحات المؤقتة التي أحرزتها تحركات الجماهير العربية.
ولو تعمدت التسرع في إصدار الأحكام لقلت إن ما حدث ليس ثورة. ولكني لست متسرعا، ولذا أعتبر ما جرى ويجري من حالات مد وجزر جزءا من مساعي التغيير في العالم العربي التي لم تستقر على حال بعد. والأمل طبعا أن تنتصر المساعي الهادفة إلى تغيير جذري يمكن وصفه بثقة بعد عشرين سنة بأنه ثورة نقلت العالم العربي من الاستبداد إلى الحرية، ومن التخلف إلى مواكبة العصر، ومن التبعية إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي.
ولكي يكتسب تغيير ما صفة الثورة لا بد من مشاركة جماهيرية، وهذا تحقق في 2010/2011، فعندئذ خرجت الجماهير بعد أن صبرت طويلا. ولكن الحشد الجماهيري لا يعني ثورة. ولذا يجب أن يحصل تغيير جذري في أساليب إدارة الحكم ومؤسساته وآلياته، وهذا لم يحدث بعد إلا بشكل سطحي في أحسن الحالات.
المشكلة في العالم العربي قبل التحركات الجماهيرية وبعدها أن المستقبل الذي يراه الممسكون بالسلطة والساعون إلى التغيير ليس قائما على عقلية تعيش في القرن الحادي والعشرين، فهناك حكام يعتقدون أن الخيار الوحيد هو صيغة الحكم المطلق المعتمد على فرد أو عائلة أو قبيلة أو طبقة ناتجة عن تحالف بين عسكريين ورجال أعمال.
وهناك ساعون إلى التغيير وفق صيغة لا تريد أن تعتبر العالم العربي جزءا لا يتجزأ من البشرية والتراث الإنساني، ويفضلون الصيغ الخاصة والاستثنائية التي لم تعد تصلح للوقت الحاضر أو المستقبل. لقد أثرى العرب والمسلمون التراث الإنساني كغيرهم من الأمم، ولا عيب في مرحلة ما أن تستفيد فئة من غيرها. بالتالي لا يحتاج العالم العربي إلى أشكال استثنائية من الحكم، فالقيم الإنسانية النبيلة تعود بالفائدة على كل البشر، وليس على فئة دون أخرى.
والجانب الآخر من المشكلة أن بعض من لا يمانعون تغييرا وفق صيغ تقدمية يسخرون من الديموقراطية كخيار مناسب، وبالتالي يعتبرون الوضع القائم في بعض الدول أفضل من البدائل التي يريدها بعض الساعين إلى التغيير، وتحديدا من استخدموا العنف.
من نتائج السخرية من الديموقراطية تشويش مفهوم ما هو تقدمي، فيصبح التقدمي هو عكس الإسلامي حتى لو كان ("التقدمي") استبداديا. وطبعا ليس من التقدمية في شيء أن يتمتع جزء من الشعب في بلد ما بالحرية والامتيازات، ويحرم جزء آخر من ذلك.
والتعامل مع الديموقراطية كمسرحية دمى يوقفها الممسكون بالخيوط في أي وقت يؤدي إلى كفر الشعب بها كفكرة وممارسة، وبالتالي الاستسلام للواقع الاستبدادي، أو محاولة تغييره بالقوة، أو إفساد القيم، فتتفشى ظواهر من قبيل النصب والاحتيال والجريمة المنظمة، وهذا بموازاة احتكار الحكم والكثير من المشاريع التي تدر دخلا كبيرا.
بعد مرور ثلاث سنوات على محاولات التغيير، وأربع عشرة سنة من القرن الحادي والعشرين، لا يزال الكثيرون من مختلف الميول الفكرية في العالم العربي ينظرون إلى الأمور وكأن العالم لا يزال في منتصف القرن العشرين. ولا يزال الخطاب الإعلامي في مختلف وسائله يلجأ إلى تمجيد من يحب والتحريض على من يملك رأيا آخر.
البداية الصحيحة للتغيير في العالم العربي هي العيش في القرن الحادي وعشرين بعقليته، والقبول بالمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وإذا ظهرت نماذج حكم تأتي بمعايير أرقى فعلى الرحب والسعة.
وأود قبل أن أختتم هذه الكلمة الإشارة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تبنت قرارا لاعتماد العام الجديد، 2014، عاما للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وأشير إليه لوجود علاقة له بموضوع هذه الكلمة، مع أنه يستحق كلمة خاصة به.
لوحظ أثناء محاولات التغيير غياب الاهتمام بالقضية الفلسطينية (إلا في حالات قليلة)، أو استعداد لتليين المواقف المؤيدة للقضية الفلسطينية. الأسوأ من ذلك الحاق الأذى الفعلي بالشعب الفلسطيني، إما على أساس مزاعم أو على أساس مواقف خاطئة لأطراف فلسطينية. وبما أننا الآن في عام التضامن مع الشعب الفلسطيني، بقرار دولي لمن يحتاج إلى قرارات مما يسمى أحيانا الشرعية الدولية، فهذه فرصة للعودة إلى المواقف المبدئية تجاه فلسطين وشعبها.
مع أطيب التحيات
عدلي الهواري
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]
المفاتيح
- ◄ شؤون ساعة
- ◄ قضايا عامة
8 مشاركة منتدى
كلمة العدد 91, مهند فوده-مصر | 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 19:50 1
كل عام وانت بخير استاذ عدلي..ومبارك العدد الاول للمجلة في العام الجديد .اتمنى ان يحرز هذا العام تقدما في القضية الفلسطينية ..ويفضي في النهاية لاعلان الدولة الفلسطينية ...اتمنى كذلك كل الخير لجميع الدول العربية..كل الحرية والتقدم والاستقرار...خالص تحياتي لك وامنياتي.
كلمة العدد 91, د. سوسن أمين ..مصر | 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 23:55 2
أستاذي الفاضل دكتور عدلي الهواري
كل عام وحضرتك ومجلتكم الموقرة بخير حال وعام جديد وسعيد إن شاء الله تحققون فيه كل النجاحات وجميع الطموحات .تهنئتي بالعدد الجديد من مجلتكم الراقية وتمنياتي بالعديد والعديد من الأعداد القادمة الناجحة والقيمة كما عودتنا . أتمنى أن تأتي رياح العام الجديد بما تشتهيه بلداننا العربية من أستقرار ورخاء وحرية وسعادة لكل البشرية كما أتمنى حلا سريعا وعادلا للقضية الفلسطينية التي هي قضية كل عربي مخلص وقيام الدولة الفلسطينية القوية والفتية بفضل الله تعالى ثم بصحوة من الضمير الدولي والأنساني بعد سنين الصبر والكفاح الطويل للشعب الفلسطيني الذي قدم الكثير من أيات الصبر والمثابرة..خالص تحياتي وأمنياتي
كلمة العدد 91, هدى أبو غنيمة عمان الأردن | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 22:20 3
الدكتور عدلي الهواري تحية طيبة وكل عام وأنتم بخير أتفق مع ماورد في مقالتك و أقول أن ما يحدث في عالمنا العربي لايرقى إلى مفهوم الثورة كما تفضلت وذكرت في مقالتك لكنه قلق الحرية وهو رغم الفوضى غير الخلاقة دليل على أن الشعوب العربية لم تنطفئ كما أريد لها عبر عقود من الاستلاب والتغريب والتجويع والقمع.أما فلسطين فهي الجذوة لكل حركة تحررية ولن يستقر عالمنا العربي مابقيت فلسطين محتلة ,ولعلنا أحوج مانكون إلى التحرر من أسر زمننا النفسي الذي يعيش في الماضي أكثر مما يعيش في الحاضر كم نحن بحاجة إلى المشاركة في عالم المعرفة والتأثير في الثقافة الإنسانية .
كلمة العدد 91, موسى حفاية الجزائر | 27 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 10:48 4
في رأيي الشخصي، قبل قيام أي تورة وهي المرحلة الأخيرة أو إن صح التعبير وضع حبة الكرز في أعلى قالب الحلوى، على شعوب الدول العربية القيام بإصلاحات في جميع المجالات، وكما قلت قبل إصدار حكم متسرع علينا إنتظار عشرين سنة للحكم على هذا الأمر. أما في ما يخص الشعب الفلسطيني الشقيق، فكما قال الرئيس الهواري بومدين "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.
كلمة العدد 91, د.مصطفى عطية جمعة | 27 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 18:47 5
الدكتور العزيز عدلي الهواري
تحياتي إليك
أرى أن ما تمر به الدول العربية وربيعها أمرا طبيعيا ، فهي خارجة من إرث استبدادي وفسادي كبير ، وهؤلاء لهم ذيول بالملايين من المستفيدين ، إنه مخاض ، ولاشك أن الفجر منبلج في النهاية .
أثني على قراءتك المتوازنة للأحداث ، وتقييمك للأطراف ، فنحن في حاجة الآن إلى الموضوعية ، بعدما أنهكتنا الانحيازات .
كلمة العدد 91, هدى الدهان-العراق | 29 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 11:11 6
الاستاذ الفاضل ..ثلاث سنوات في ثورة او حرب تذكرني بمقولة ان الكل خاسر في الحرب وهنا الكل خسر في الثورة(اقصد الشعوب ) والمستفيد الوحيد هو تاجر الحرب والاعلامي الذي يعيش على نشر الفتن والمفتي الذي يؤجج فتن الطائفية بإسم الدين .من المستفيد من الذبح والنحر والقتل لكل الطوائف وللمسيحي والمسلم ؟ من الذي استفاد من تبديل حاكمه لليوم ؟ وإن كان فهل تستحق هذه الفائدة كل ماسفك من اجلها من دماء وما جرى لاهلها من تهجير و تعذيب ؟تبدل الحكام فماذا فعل الحاكم الجديد؟ اما عن فلسطين استاذي الفاضل فلم ينسوها وانما اصبحت بغداد ومصر و تونس ودمشق هم فلسطين القادمة ..وعلى ركبها تسير .
كلمة العدد 91, مريم-القدس | 29 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 13:41 7
أستاذي الفاضل :
شعوبنا التي ملت الظلم والقهر ،متعطشة لأن يكون في كل بلد عربي "نيلسون مانديلا"
متعطشة للحرية وللمساواة والعدل ..وإلى حياة هادئة مستقرة
لا قتل ولادماء فيها ..وإلى أن تتحقق أمنيات شعوبنا
نسأل الله أن ينزل سحائب رحمته على المشردين والمضطهدين المسحوقين من أبناء أمتنا العربية ،وأن يبعد عنا شر الفتن ،ويهدي أثرياء أمتنا للتأمل والإستيقاظ من سبات غفلتهم ،وأن يكون العام المقبل عامآ تتحقق فيه دعوة الشعوب لحكامهم للتفكر واستخلاص العبر،ورؤسة الحق حقآ والباطل باطلآ ،لحقن الدماء وضمان حرية وكرامة الإنسان،وقتها قد تعود فلسطين إلى خارطتها الحقيقية وعلى رأسها القدس الشريف.!
كلمة العدد 91, مليكة علاوي الجزائر | 3 كانون الثاني (يناير) 2014 - 02:05 8
تحيّة طيّبة، كريم هذا العام إن شاء الله على الشّعب الفلسطينيّ الذي بقرار شرعيّ سنتذكره، ويجب، فقد نُصّ ذلك، ولِيسعى الأغنياء منّا الطّامحون إلى الرّتب، والحكّام لحفظ بعض ماء الوجه لدى شعوبهم كي يلجموا بعض غضبها، ويمتصوه بالتبرع ببعض الأشياء الماديّة. واأسفاه على هذه الحال، وأيّ حال؟ سلخنا من هويتنا، ومُسحت ذاكرتنا، وامّحت الرّحمة من قلوبنا بل ماتت. تحياتي.