د. عمر الملاحي - المغرب
الشاعر الإسلامي واحترام المقدسات
من تجليات وعي الشاعر الإسلامي: احترام المقدسات الدينية
لازم الأدب العقيدة ملازمة الظل لصاحبه، وكان من شأن هذا الترابط الذي لا مناص منه، أن يدفع نقاد الأدب ومنظريه إلى الإقرار بحقيقة لا يكاد يختلف حولها اثنان، مفادها: أن أي إنتاج أدبي لا بد أن يصدر عن عقيدة صاحبه وفلسفته في الوجود، وسواء في ذلك أكانت هذه العقيدة ذات مصدر سماوي أم كانت ذات مصدر وضعي.
ويأتي الإنتاج الأدبي في كل الأحوال تعبيرا عن عقيدة صاحبه وتصوره للوجود: "منذ قديم صاحب الدين الإنسان فسلم به أحيانا، ورفض أحيانا أخرى أن يكون عنده مفتاحا لفهم الحياة. ومن بين أولاء وهؤلاء ظهر أدباء برزت عندهم مشكلة المعتقد، ولكنهم كلهم- بلا استثناء -لم يستطيعوا أن يقرروا أنهم انتهوا إلى الراحة المنشودة. وصدروا عن نتاج تردد بين سماحة الإيمان وحمأة الإلحاد، فلم يجد الناس عندهم ما يجعلهم ينكرون المتعة الفنية"[1].
ويأتي الإنتاج الأدبي مرة معبرا عن حال الاطمئنان والإيمان بالله عزو جل، ويأتي مرة أخرى معبرا عن حال الإلحاد النابع من حيرة صاحبه وتردده في هذا الوجود، ولا تبدو هذه الحيرة قاسما مشتركا بين كل الأدباء، على النحو الذي أومأ إليه الدكتور أحمد كمال زكي في حكمه سالف الذكر، ذلك أن من المسلم به في الدين الإسلامي عامة، أن المسلمين يجدون راحتهم النفسية والروحية في المعتقد الديني، فكيف لا ينشد الأديب المسلم هذه الراحة في دينه؟
إذا كان المعتقد على هذا القدر الكبير من الأهمية، فلا غرو، أن يميز الأديب المسلم عن بقية الأدباء احتكاما إلى أسس دينه، وقيمه الحضارية ومنطلقاته الثابتة في التصور والعقيدة، ولذلك كان الأديب المسلم الحق هو الأديب الذي: "يعرف كيف ينظر إلى العالم، وهو يكتوي بحر التجربة الملتهبة، فلا ينصهر ويخرج من دائرة الالتزام. يعرف كيف ينظر من نافذة العقيدة التي انتمى إليها"[2].
وفي وقتنا الحاضر بات واجبا على الأديب المسلم أن يبدأ بتصحيح النظرة إلى مقدساته الدينية، وأن يعيد الرباط الوثيق بين الإبداع وبين هذه المقدسات، وتلك من الأمور التي احتفل بها الشعراء الإسلاميون في القصيدة المعاصرة بعد أن تطاول الكثير من الشعراء في أدبنا العربي الحديث على المقدسات الدينية؛ ففي فضاء القصيدة الإسلامية المعاصرة لون من الندى تتهاوى قطراته الروحية، لتكتسي القصيدة حلة صوفية ترقى إلى أفق تراثنا الشعري في ثوبه الروحي الأخاذ، يتغنى الشاعر الإسلامي بالشوق إلى معانقة النور الأزلي الذي لا تنطفئ جذوته، يقترب من الحضرة الإلهية بقلب مفعم بالإيمان:
أتيتُكَ أعلنُ ذلّي وفقري - - أتيتُ أناجيكَ أسلو وجودي
أتيتكَ أنتَ حبيبي وربي - - جمالك أي جمالٍ عجيبٍ
جـلالُك، أيّ جلالٍ مهيبٍ - - إلهي، إذا ضاعَ عمري وروحي
أطيرُ إليكَ هزارَ هُيامٍ - - أطيرُ إليكَ سفينةَ شوق
وأركضُ نحوكَ راهب ليلٍ - - فكن لي حمايَ، وكن لي هُدايَ
وأسفحُ فوقَ رياضك زهري - - وأنشرُ كالفجر سري وجهري
وأنت محيّر قلبي وفكري - - تذوبُ فيه مهجتي أي سحرِ
يباركُ خيري، ويطردُ شري - - تغـرد باسمكَ، ما ضاعَ عمري
وأحملُ صوتي الخجولَ وطهري - - يدافعها الموجُ في كل بحرِ
وأجري، وحولي العواصفُ تجري - - وكن لي قوايَ وزادي وذخري[3]
وفي ليل الحيارى يوقد الشاعر الإسلامي شمعة يبدد نورها كل ركن لم يشمله الحب الإلهي، ويأخذ على الذين يعيبون التفاني في حب الله ويعدونه إبحارا إلى الوراء. يناجي الشاعر ربه ويقول:
على الحب فيك
أقمت الليالي
ثناء وشكرا
على الحب فيك أطلت التحامي
بمن يختفي بك
سرا، وجهرا
وأوقدت شمعي، بليل الحيارى،
تشظيت في الحب، نثرا وشعرا
وأعلم أنك فوق حدود المحبة،
فوق حدود الهوى في زماني[4]
وتشغل الهجرة إلى الله تعالى مساحة واسعة في فضاء القصيدة الإسلامية المعاصرة، وقد أفردت دواوين لهذا الشأن، جاءت حبلى بالمناجاة والدنو من ملكوت الله، فهذا الشاعر المغربي حسن الأمراني، يكشف الستار عن لحظة الانتصار، لحظة العودة إلى الله جل جلاله. فيقول:
يباغتني طائر الشوق
أرنو وحيدا على بابة الخلد
أنعي احتضاري
وأعلن في الناس بدء انتصاري
وما كان حبي اختيارا
وهل تملك الشمس أي اختيار
لتسبح في غير هذا المدار؟ [5]
ثم يرنو الشاعر إلى المقامات العلا، غير آبه بالجرح وآلامه، ولا بالسيف ومضائه:
سأخلع نعلي
إذا جن ليلي
وأطلق نحو السماوات
نبض افتقاري وذلي
سأرسل دمعا
تضيئ مصابيحه طرقاتي
سأعقد حلفا مع الريح
إن هي ألقت ضفائرها المشتهاة على شرفاتي
وإن حركت في الهزيع الأخير ستائر روحي
لتنهض ورقاء من بين أطلالها
تضمد لمستها من جروحي.[6]
ومن أرض الشام يصدح صوت شجي لشاعر تلمس الأصحاب فلم يجد غير الحليم بلطفه، فراح يرتشف من كأس الشوق:
يا صاحبي
أترى أصارع كالغريق
وأضيع، لا ألقى الصديق
أترى يقربني الحليم
بعفوه
فهو الشفيق فأسابق الأقدار
أجتذب الرحيق
أصحو
فيأخذني النعيم، وسعدنا
أبدا طليق
في فيء روض الله
أنعم خاليا
من كل ضيق
ويلفني
ذاك الحبور برائق
الفيض الدفيق
رحماك ربي تائبا
تعسا جهولا
لا يطيق
قد كان يوما ضائعا
والآن
قد عرف الطريق
والآن، قد عرف الطريق[7]
ومن مظاهر استقامة الشعراء ذوي الاتجاه الإسلامي أيضا، إضافة إلى احترامهم لقدسية الله تعالى، حسن تأدبهم تجاه الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة والسلام وبقية الصحابة والأصفياء ممن حمل مشعل الإيمان وراح يدك حصون الشرك.
إن قارئ متن الشعر الإسلامي المعاصر لا يفوته أن يتبين المساحة العامة التي تشغلها شخصية الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، وليس الأمر بدعا، إذ يشكل شعر المديح النبوي في شعرنا العربي غرضا قائما بذاته يتربع على كرسي الريادة في الشعر الديني الذي أسس دعائمه شعراء الدعوة الإسلامية من رعيل الصحابة أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة.
وقد تعددت مقامات توظيف شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم داخل فضاء القصيدة الإسلامية المعاصرة إلا أنها تلتقي جميعها عند خصيصة احترام نبوته عليه الصلاة والسلام. وهذه وقفة مع بعض نماذج من الشعراء الإسلاميين تؤكد كيف يتحقق التلاحم الحميم بين الدين والشعر على الرغم من محاولة خلق الفرقة والخصام بينهما. ينشد شاعر الإنسانية عمر بهاء الدين الأميري قائلا:
يا رسول الله إشراقك - - أنى شحت لاح
وشذى الجنة من - - روضتك الزهراء فاح
وفؤادي يا رسول الله - - في ساحك راح
هائما متقد الأشواق - - خفاق الجناح
زفراتي لاهبات - - الوهج، والقلب جراح
يا رسول الله هل من - - نهلة تروي الطماح
وتفك الفل عن عزمي - - فأمضي في سراح[8]
وجاء النداء ها هنا نفثة مهموم يعاني من ثقل الواقع، ويعيش حالة المد والجزر بين الماديات والروحانيات، فكلما دنا من روضة المصطفى الزهراء باعده قصده. ويتلذذ شاعر إسلامي آخر لحظة الأنس في ظلال ذكرى الرسول الأكرم، على الرغم من أن واقع الأمة ظل يعكر هذا الصفو الذي راح الشاعر يرتوي منه، يقول محمد ضياء الدين الصابوني، وهو يرتل في محراب المصطفى نسمات شعر عذب شفاف:
ما للجمال تهادى يوم ذكراه - - فالكون يرقص والأفراح تغشاه
والطير تصدح والأشجار مائسة - - وللنسيم ترانيم بذكراه
فكل شيء يغني باسمه طربا - - والأرض تزهر إذ يبدو محياه
(محمد) رحمة الرحمن نفحته - - (محمد) كم حلا في اللفظ معناه
(محمد) زينة الدنيا وبهجتها - - فاضت على الناس والدنيا عطاياه
وها هي النفحة المعطاء تغمرنا - - والحسن يرنو قد افترت ثناياه
ثم يلتفت الشاعر إلى قومه وقد تاهوا في وديان الغواية، فآلمه الأمر ومضى يعترف بين يدي المصطفى:
لكن لي يا رسول الله معذرة - - بأني جئت في قوم وقد تاهوا
ضلوا الطريق وهاموا في غوايتهم - - أواه لو ينفع الإرشاد أواه
لا الشعر حرك في أعماقهم وترا - - ولا البيان فهم في الغي أشباه[9]
ويبدو واضحا لمن يتبع هذه الإيحاءات في متن الشعر الإسلامي الحديث، أن الشاعر الإسلامي المعاصر لم يعد يتوقف – كديدن شعراء المديح النبوي عند خصيصة رصد الصفات الحميدة للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب. وإنما اتخذ المناسبات الدينية؛ كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج، مناسبات للالتفات بوعي إلى ما تحفل به اللحظة التاريخية من أحداث ومشاهد ضحيتها كل مرة أبناء هذه الأمة.
ونستطيع في هذا المقام، أن نخرج بنتيجة هامة، اعتمادا على الإنتاج الشعري، مفادها أن الشاعر الإسلامي المعاصر قد استطاع أن يقوي آصرة القرابة بين الدين الإسلامي، من خلال احترام قدسية مقدساته وعلى رأسها الألوهية والنبوة. وبين الأدب كما يتجلى في الشعر الإسلامي المعاصر. وهذه واحدة من الحسنات التي تضاف لسجل الأدب الإسلامي.
= = = = =
[1] د. أحمد كمال زكي- دراسات في النقد الأدبي- دار الأندلس-ط:2/ يونيو 1980م، ص: 188.
[2] د. عماد الدين خليل- مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي- مؤسسة الرسالة. ط: 2/1408هـ. ص: 84.
[3] الشاعر: سليم زنجبير- مجلة الأمة- العدد:26، السنة الثالثة/ صفر 1403هـ.
[4] الشاعر: يس الفيل- قصيدة: وبالحب نحيا- جريدة " المسلمون" – السنة 9/ع:431، ذو القعدة 1413هـ.
[5] الشاعر: حسن الأمراني- ديوان: سآتيك بالسيف والأقحوان- مؤسسة الرسالة. ط1/ 1416هـ، ص: 58-59.
[6] المرجع السابق، ص: 58-59.
[7] الشاعر: رياض صالح جنزلي- قصيدة: هتاف عن الأعماق- مجلة: الأدب الإسلامي. ع: 6/1415هـ، ص: 13.
[8] الشاعر: عمر بهاء الدين الأميري- مجلة المشكاة، ع:9، السنة: 3/1409هـ-1988، ص: 88.
[9] الشاعر: محمد ضياء الدين الصابوني- قصيدة: يا للجمال تهادى- مجلة المشكاة، ع:13، السنة: 4/1410هـ-1989، ص: 113-114.
1 مشاركة منتدى
الشاعر الإسلامي واحترام المقدسات, أشواق مليباري\ السعودية | 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 21:49 1
د.عمر الملاحي
أحييك وأشكرك على هذا البحث المهم جدا.
صدقت للأسف بعض الشعراء لا يعرفون الخط الأحمر حين يكتبون الشعر، فيتطاولون على المقدسات كالأنبياء عليهم السلام، والقدر و الموت، أو يلحدون في أسماء الله الحسنى وأشنع ما يصدر من البعض التطاول على الذات الإلهية والعياذ بالله.
أشكرك وأسأل الله العلي القدير أن يجعل ما كتبت في ميزان حسناتك.
تحيتي