أياد خضير - العراق
النبوءة
جلسَ القرفصاء في مكانه الذي يشعر به بالارتياح والدفء والأمان. أدركَ أنَّ شيئاً ما قد يحدث فيما بعد، شيئاً مغايراً لما هو مألوف. إنّها سيول جارفة تزيل معالم القرية
ظلّ يتردّد بالبوح إلى أهل القرية، خوفاً من عدم تصديقه، كما في المرة السابقة، ففي يوم ما أبلغهم بأن غربانا ناعقة تمخر عباب السماء تنذر بالشؤم.
نعتوه بالمجنون. أشبعوه ضرباً. وعندما جاءت الغربان وعملت ما عملت أخذ الناس يعطفون عليه.
البعض الآخر قـــال عنه إنّه ساحر وإنّ هذه الطيور جاءت بفعل سحره.
وفي يوم من الأيّام قـــال لأهل القرية: "إنّ صاعقة تنزل من السماء وتضرب القرية وتقتل بعض أفرادها".
وعندما صدق في قوله طالبوه بالرحيل لأنّه شخصٌ مشؤوم. كلّ الحوادث التي أتت إلى القرية بسببه.
ترى ما هو مصيره عندما يخبرهم بهذه السيول القادمة؟ ظلّ يخاطب نفسه: هل أنا جادٌ بأنْ أخبرهم؟ وما هو المصير الذي ينتظرني؟ لا بدّ من التفكير قبل أن تقطعَ الفأسُ رأسي، فهناك فرصة للنجاة .
ظلّ يعاني ثلاث ليال. الألم يعصر قلبه وفي داخله شيء متكدّس يحسّ به، يقلقه،
مصير أبناء قريته الذين أحبهم، خشية أن تتقاذفهم المياه وما من أحد ينجيهم.
في الصباح التالي قرّر أن يبوحَ لهم بما يراوده، فالوجع الذي يشعر به امتحان عسير للقلب وتلافيف الذاكرة.
كانت السيول تتضخم في مخيلته، دفعته إلى أن يكره نفسه. يحتقرها أكثر من ذي قبل. توجّه إلى وسط القرية حيث الساحة التي يلتقي فيها أهل القرية في المناسبات الدينية والتجمّعات الخطابية. وطلب من الأهالي التوجّه إلى الساحة أيضا ليقول لهم شيئا مهما لا بدّ لهم من سماعه. الحشد استجاب لندائه وتابع تقدّمه إلى وسط الساحة.
قـــال: "أيّها الناس اسمعوا وانتبهوا. إنّ رجلاً جاءني في منامي، أبلغني بأن أخبركم أن النهر المار في القرية سوف ينفجر بفعل السيول التي تصب فيه، بعد أسبوع أو أكثر بأيام قليلة. وإنني أبلغكم بالخبر بعد أن فكّرتُ كثيراً وحياتي لم تعد تهمني، سواء قتلت أو عشت. الموضوع يهمكم".
قــال هذا الكلام وفي قلبه وجع وأكثر من غصة. كان ضحية بائسة لشعور دخل إليه بقوّة.
القسم الكبير من أهل القرية صدّقوه لأنّه سبق وأن قال كلاماً وصدق.
جاءه رجل عملاق ترتسم في عينيه نظرة ذئبية مفترسة، أرعبته . قـــال له بصوت أجش: "اسمع، إذا لم يحدث الذي قلته سوف أقتلك خنقاً". وراح يغرسُ أصابعه في رقـبته، وبصعوبة أستطاع تحرير رقـبته منه.
قـــال آخر: "وإنني سأجعل منك مسخاً لا مثيل له".
بدأ يفكر بالحدس الذي يراوده متسائلاً: أحقيقة الذي يحدث أم أنا في كمّاشة الوهم؟ هل الحدس صائب كما في المرة السابقة، أم يخونني وسيجعلني فريسة وتنهشني أصابع أهل القرية؟ لا أدري.
بدأ الناس يجتمعون في المقاهي والبيوت يتداولون الموقف. قسم يرفض والآخر يخطّط ما يتوجب عمله للدفاع عن القرية ومواجهة الخطر القادم.
تجمهر الناس في الساحة وبدأ الشعراء يلقون ما عندهم من الشعر لبثِّ الحماس في مواجهة السيول القادمة. والخطباء يلقون خطبهم في المساجد والأماكن العامة. ورفعت لافتات بيضاء كتب عليها "نعمل سوية لندفع الخطر عن قريتنا".
المصلون يتضرّعون إلى الخالق أن ينجيهم من هذا الخطر. النداءات المتناثرة من أفواه الحشد، القائلة "نعمل متكاتفين لنتجنب وقـوع الكارثة" تداخلت مـع هتافات الصبية وصيحات الباعة المتجوّلين وتحوّلت إلى صرخات مجنونة ولكنها مرتعشة مرتبكة.
هذه الأرواح المتراصّة والهاتفة تدفعها الغيرة على القرية، دفعته أن يهتف معهم بحماس شديد. الخبر تسرّب إلى جميع البيوت، وسمع عويل النسوة، قسم قليل منهن غير مصدقات.
رجل اقترح أن يقوم الأهالي بتغيير مجرى النهر مسافة بعيدة عن القرية . تقدم رجل كبير السن قائلا: "إذا قمنا بتغيير مجرى النهر سوف يتطلّب ذلك فترة زمنية طويلة".
اقترح أحد المحتشدين بناء السدود بوضع التراب في أكياس ورصفها إلى ارتفاع أكثر من ستة أمتار على جانبي النهر.
تساءل آخر مستهزئا: "من أين نأتي بهذه الكمية الهائلة من الأكياس لملئها بالتراب والتي تقدّر بالملايين على الأقل؟"
تكرّر كلّ يوم الحديث عن كيفية التصدي لهذه السيول. بعض يقترح وآخر يندّد، إلى أن أدركهم الوقت. أتتْ المياه وأغرقت البيوت وأهل القرية لم يعملوا شيئا. لا زالوا منشغلين بإلقـاء الخـطب والشعـر.
1 مشاركة منتدى
النبوءة, زهرة يبرم / الجزائر | 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 17:04 1
أرى أن من حق أهل القرية ألا يصدقوا هذا "الدرويش"، فعهد النبوءات قد ولى وانقطع الوحي منذ أمد بعيد. كما يمكنهم أن يعتمدوا على الأرصاد الجوية و الأقمار الصناعيةالتي ترصد هذه الأشياء وتقدم على شكل نشرات جوية عبر وسائل الإعلام. ألا ترى معي أن الموضوع قديم قليلا في زمن العولمة؟
لكن العبرة من الحكاية مهمة جدا، أن الجدال والخلاف وكثرة الآراء دون المبادرة والإسراع في إنجاز الأمور هي مضيعة للوقت الثمين ومفوتة للفرص ومجرة للندم.
1. النبوءة, 11 شباط (فبراير) 2014, 17:11, ::::: الكاتب أياد خضير / العراق
تحية طيبة إنّ شخصية الدرويش هي معادل موضوعي لغربة المثقف الواعي وسط مجتمع متخلف رجعي فكما تعرفين إنّ الأدبَ هو الذي يخلق عالماً متخيلاً يحقق وجوداً موازياً للواقع فنجد إن من الغريب خلق عمل مسرحي يحاكي أسطورة إغريقية أو إنتاج فيلم مقتبس من مسرحية شكسبير (هاملت ) لكن تبقى حقيقة ثابتة أن الفن هو محاكاة لتراكم خبرات سابقة يحمل في ثناياه رسائل إنسانية... فأنا لا أنظر إلى العمل إلا كمعادل موضوعي للحالة التي يمر بها المجتمع العربي وتسلط العقلية الرجعية الجامدة ....