عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم قاسم يوسف - لبنان

قتلتْ أحلامَها يا حرامْ


أنـا هـَلـَّق شحـَّـاد، لـَكـِنْ بـِحـْلـَم. بـِحـْلـَمْ صير غـَني. بـِحـْلـَمْ صير مـُدير. بَسِّ المـَلـِكْ، ما إلـُو مِسـْـتـَـقــْـبـَـــــــلْ. واقـِف عَ البــاب الأخـِيــرْ، عَ البـاب الـِمـْسـَكـَّــرْ. ما بـْيـِقـْـدَرْ يـِحـْـلـَمْ أكتـرْ. لأنـُّو مـَلـِكْ، شـُو بَعـِدْ بـْيـِقــْدُر يـْصيـرْ؟

جزء من حوار من مسرحية "هالة والملك" للأخوين رحباني. (شاهد المقطع في نهاية النص).

كانتْ مشاكِسَة؛ لا تتورعُ في الدِّفاعِ عن حقوقٍ باطلة، تساعدُها قسوةٌ ملحوظة، وخلفيةٌ مبهمة لا تخلو من الرصانة أو الباطنيَّة في طبعِها. تتمتعُ بقريحةٍ حادَّةٍ في اللجوءِ إلى الغشِّ والتضليل كلما ضاقتْ بها السُبل. تتعاركُ مع الجنسين صبيانا وبنات، يترددُ أهلها في تركِها وحيدة؛ أو بلا مراقبة.

لم تتعرَّضْ يوماً للقسوةِ أو التعنيف، تهوى المقالب فتدبرُها بدهاءٍ لا يخلو من الأذى أو الإيلام. كانتْ طفلة نجيبة لكنها مُحَيِّرة تثيرُ التساؤل. ربما لأن أمَّها تزوجتْ وحملتْ بها، يوم كانت في مرحلتِها الجامعية الأخيرة تدرسُ مادةً علمية، وحين تشكَّل الجنينُ في أحشائِها كان يقاسمُها الغذاء؛ ويشاركُها الجهدَ في التفكير.

عندما كانتْ صغيرة السن، كلَّفَها أهلُها إبَّانَ الاضطرابات؛ وأزماتِ التموين والحربِ الأهلية، أن تشتريَ حصَّةَ خبزٍ لا تكفي العائلةَ ليومٍ واحد. انتظرتْ خارجَ المَخْبَز في صفٍ طويل، وأخوها الأصغر يرافقُها. حينما وصلَ دورُها، طلبتْ حصَّتين، وعاملُ المخبز رفضَ طلبَها؛ فحقها لا ينبغي أن يتجاوزَ ربطةَ خبزٍ واحدة.

لكنّها أصرتْ على طلبها في الحصول على ربطتين، إحداهما للجيران كما ادَّعتْ، وهذا ابنُهم يقفُ في الصفِّ إلى جانبِها. وأخوها احمرَّتْ أذناه لأنّها كانتْ لا تقولُ الحقيقة. حينما كادَ ينطقُ ليقولَ شيئاً، قرصَتْه في ساعدِه وآلمته، فسكت.

وعاملُ المخبز لاحظَ الشبهَ بينهما وارتباكَ الطفلِ واحمرارَ وجهه وأذنيه. لكنَّها أصرَّتْ أنّه ابنُ الجيران، ولا ينبغي لمن كان في عمرِه؛ أن يحملَ هويتَه معه للتعريف عن نفسِه. وحصلتْ على ربطتينِ بشطارتها.

لاحقاً وبعدَ وقتٍ طويل؛ لم يكنْ عمرُها قد تعدَّى النصفَ الأول من العقدِ الثاني، وأخوها إياه يصغرها بسنتين أو أكثر قليلاً، حينما أتى زميلُه في المدرسة وصديقُه يزورهما في غيابِ أبويهما. فتحتْ له الباب ورحَّبَتْ به؛ فبشَّتْ له ولاطفتْه وقادتْه إلى قاعةِ الجلوس. ثم وجدتْ نفسها مسؤولة عن واجبِ الضيافة، فأعدَّتْ لهما عصيراً وأحضرتْ مع العصير قطعاً من الحلوى.. فأكلا وشربا وشكراها على معروفِها وحسنِ ضيافتِها.

حينما عادتْ ترفعُ الآنية لتعيدَها إلى المطبخ، كانتْ قد دبَّرت في نفسِها أمراً، فلا ينبغي للفتى أن يرحلَ دون أن يقعَ في مطبٍّ أعدته له.

اقتربتْ منه وتبسمتْ له، ولاطفتْ شعرَه حتى اطمأنَّ لها، ثم طلبتْ منه أن يفتحَ فمه ويغمضَ عينيه، فاستجابَ بلا اعتراض؛ لما لها من دالةٍ وسلطة وحق عليه، فلطالما كانت تساعده في إنجازِ واجباتِه المدرسية، حينما كان يأتي برفقةِ أخيها للدرس معاً.

هكذا انصاعَ لها الفتى، ففتحَ فمَه وأغمضَ عينيه، حين دَسَّتْ في فمِه حبَّةَ "قضامةٍ من اللحمِ المجفّف" المعدّ طعاماً لهرتِها.

وهرتُها تشبهها كثيراً؛ تغدرُ وتخدشُ؛ تطمئنُّ إلى صاحبتها فقط ولا تطمئنُ إلى أحدٍ سواها. كانَ الغلامُ ما زالَ يقضمُ الحبَّة ويَتَلمَّظُها متلذذاً بطعمِها، ليطلبَ منها حَبَّةً أخرى، ثم يسألها عن سرِّ هذه النكهةِ الشهيّة. وحينما صارحتْه بالحقيقة، كان يكابرُ ويكذب؛ فلم يغضبْ أو يمتعضْ ولم يشعرْ بالتقزز، وأصرَّ أن طعمَها شهيٌّ مميز، وما عليها إلاَّ أن تجربَ لتؤمنَ بصدْقِ ما يشهد.

وحين كان أبوها يدربُها على قيادةِ السياراتِ للمرةِ الأولى، فاجأتْها سيارةٌ مخالفة آتية في اتجاهٍ معاكس. تصرفتْ بردةِ فعلٍ سريعة قبلَ أن يتاحَ لأبيها ما يكفي من الوقت لينبهها؛ فداستْ على الكوابح وتوقفتْ بعيدةً عن السيارة الأخرى مسافةَ قدمٍ أو قدمين، كمن تمرَّسَ على قيادةِ السياراتِ منذ زمنٍ طويل. ثم استأنفتْ سيرَها بلا ارتباكٍ ولا انفعالٍ.

أطرى أبوها سرعةَ خاطرَها وتهذيبَها وردَّةَ فعلِها ووقوفِها في الوقتِ المناسب، وقالَ لها: "أنت تتعاملين مع السيارةَ بكفاءةٍ مذهلة".. ثم استقلَّ سيارةَ أجرة من أطرافِ المدينة وتركَها تعودُ بمفردِها، فبلغتِ المنزلَ بأمان قبلَ أن يصلَ أبوها بوقتٍ طويل. هكذا أيضاً أتقنتِ قيادة السيارات.

وقبلَ أن تنهيَ إجازتها الجامعية في السياسةِ والاقتصاد، كانتْ قد تَدَرّبتْ وتعاقدتْ، ثم توظفتْ حين حصلت على الإجازة في أكثر مصارفِ المدينة شهرة، بلا وساطةٍ أو شفاعة من أحد.

لم يمضِ عليها سنواتٍ قليلة حتى تَرَفَّعَتْ في عملها، وغَدَتْ نجماً في سماء المصرف، تتمتع بشعبية واسعة بين الجميع؛ ينتظرُ مرؤوسوها قدومَها الصباحيِّ ومرورها عليهِم؛ تُحَدِّثُ كلاً بمفرده وتطمئنُّ إلى أحواله.

كانت تحظى بثقة رؤسائها، لطيفة في غير تكلف، تنشر البهجة في النفوس، فيضفي ذلك عليها بهاءً وسحراً. يحبها مرؤوسوها ويحترمونها بحق فيتصرفون معها كأنهم أسرى بين يديها. ثم هالتْها سطوةُ المال، واكتشفتْ "هوايةَ ركوبِ الأمواج".

كانتْ في الطريق إلى منصبٍ إداري رفيع، حينما توهجت أحلامُها وتمكنتْ في ساعةٍ من ساعاتِ التخلي، أن تخطِّطَ وتختلسَ مبلغاً كبيراً من المال، بعضُهُ للغلابى الفقراء والأيتام. اختلسته بالتواطىء مع مسؤول إداري مرموق في قطاع المال؛ في عملية شديدة الالتباس أحكمتْها من غير أن يتمكنَ القضاءُ من إدانتِها، دون أن يُوَرِّطَ معها من لا تطاله أحكامُ القضاء.

لم تمثلْ أمامَ التحقيقِ لحظةً واحدة، فالقضاءُ كان أعجزُ من أن "يمدحَ جمالَ الكحلِ في عينيها". لكنَّ إدارةَ المؤسسة المصرفية أوحتْ لها بتقديم استقالتِها، وهذا ما فعلتْه.

انقسمَ الناسُ من حولها بين مُبَرِّرٍ ومتعاطف أو متحامل وناقم، وتردَّدَ اسمُها كثيراً بينَ الناس وفي الأوساطِ المصرفيةِ، فقيلَ عنها بأنَّها جافةُ الشعور وقلبُها صَلْدٌ ومقفل. لم تقمْ بعلاقةٍ عاطفية ولم تسعَ إليها، مع ما تتمتعُ به من جمالٍ ملحوظ وجرأةٍ نادرة، وأن المالَ كان همُّها وهاجسُها.

وقيل عنها: لو تريثتْ قليلاً لبلغتْ أعلى منصبٍ في وزارةِ المال، لكنَّ ما هَمْ؟ فما اختلستْه يكفي ولدَ الولد، ولا فرق أصابتْ أو أخطأتْ.

قيلَ أيضاً: إنَّها تشعرُ بالحسرةِ والمرارةِ والندم على ما اقترفتْ؛ وتواجه إحباطاً واكتئاباً وتبكي، فتلاشتْ أحلامُها وقد استفاقَ الإنسانُ في داخلِها؛ فاضمحلتْ علاقتُها بالجميع، وأضحى المالُ رخيصاً وتافهاً في عينيها.

وقيلَ عنها: إنَّها تحضِّرُ نفسَها للحجِّ إلى بيتِ الله الحرام.

وقيل: إنها تعاني تشنجاً وشللاً جزئياً في أصابعِ اليدِ اليمنى عندما انقبضتْ ثم اندفعتْ وتراجعتْ، وأخيراً خانتْها شجاعتُها أن توقِّعَ على وثيقةٍ بالتنازلِ عن أموالِها لدار العجزة والأيتام.

وقيلَ أيضاً: كانتْ غافلة عن الدنيا وعن السبيل إلى البِرِّ والتقوى.

قيلَ عنها الكثير الكثير، وأصدقُ ما قيلَ عنها: "حصلتْ على ما تبتغي؛ فخسرتْ نفسَها وقتلتْ أحلامَها، يا حرام!"


8 مشاركة منتدى

  • هذه هي الحقيقة بعد مشوار الحياة التي عاشته والمعارك التي خاضتها!!

    قيلَ عنها الكثير الكثير، وأصدقُ ما قيلَ عنها: "حصلتْ على ما تبتغي؛ فخسرتْ نفسَها وقتلتْ أحلامَها، يا حرام!"


  • كثيرون من يهبهم الله الذكاء فيستخدمونه لدرجاته القصوى
    وهذا شيء جميل جدا، وأنا أحترم الذكاء والإنسان الذي يوظف ذكاءه.
    وإن كان مافعلته خطأ..إلا ان عينّي تلتمعان إعجابا بالخطط المتقنة

    أصدق ما قيل في نظري استيقاظ الإنسان داخلها
    فهذا سيحدث ولو بعد حين.

    أبدعت في تصوير حالة الطفل المحرج الذي احمرت أذناه.
    وأبدعت أيضا في وصف ردة فعل الفتى حين عرف أن ماوضع في فمه هو طعام القطة.
    لو أنا من كتب هذه القصة، لقلت إن الفتى سيبصق ما في فمه ويغضب..لكن هذا فعلا ما يمارسه الصبية ..يكابرون!!

    شكرا لك القصة جميلة
    كل عام وأنتم بخير


  • قيل وقيل وقيل ..وهي لم تقل شيئا وبذكائها تركتهم يقولون و يؤلون ويحزرون وربما يحسدون ..في الحقيقة هي لم تقل شيئا فقد تعودت الصمت الذكي حتى تحقق الحلم وحتى تُبقِي عليه ..اما كونه كابوسا لاخرين ف لايهم او بسبب حلمها هذا يعُز النوم على اخرين ايضاً لايهم ..لاادري لِمَ حسدتها انا؟


  • منال الكندي
    والله زمن يا صديقتي
    شكراً على حضورك الميمون. لا أدري حقاً يا منال إن كانت الدنيا تستحق هذه القطيعة ، وكل هذا الجري واللهاث والعرق، وكل ما يحدث لنا من هذا الشقاء العظيم.


  • أشواق مليباري

    أجل.. الصبية يمارسون فعل المكابرة والنفاق. كمن يلتهم عدة قرون من "قلب الطائر".. الفلفل الأحمر، فيتعرَّق وتدمع عيناه ويسيل أنفه ولعابه. ثم يكذب ويدَّعي أنه في ما زال بخير. الفتيات أكثر صدقا ويقلن بصدق وحياء ما لهن وما عليهن. وأنا لا زلت أؤمن وأراهن على جدِّيَةِ المرأة ولطفها وأمانتها، ودورها الأول في بناء الإنسان والأوطان.


  • هدى الدهان
    شكراً لك يا سيدتي
    يسعدني حقاً ويشرفني ما تقولين
    كل عام وأنتم بخير


  • السيد ابراهيم يوسف المحترم
    شكرا على هذا النص وعلى هذا التسلسل والانسيابية في طرح الفكرة التي ما تلبث أن تقرأ اول جملة في النص حتى تقبض عليك الافكار التالية الى ان ينتهي النص....الكل يقول وقد قيل ما قيل, ولكن يا سيدي نحن امام التباس بين النيّة والفعل!!!
    هل تبرر الغاية الوسيلة, ام الوسيلة تورّط شيطانيّ حتى النخاع لا شفاء منه؟؟؟
    واضح انها قتلت احلامها يا حرام..... ولكن أوليس من نية لديها لحلم جديد يدفع الحياة باتجاه مغفرة ما؟؟؟؟


  • ميسون حمزة - لبنان
    بل الشكر لكِ على عنايتكِ واهتمامكِ يا سيدتي. هي قررتْ ونفّذتْ وهذا ارتباطٌ أكيد بين النية والفعل.. أمّا أن الغاية تبررُ الوسيلة..؟ فإنها مسألة تتوقفُ على ارادةِ (الفاخوري وارتباطه بالجرَّة) يصوغُها وفقَ ما يرغب..؟ لكنني لستُ مع هذا المبدأ.
    أما المغفرة فنراها في أبهى حللها في قول الخيام
    هل ذاق حلو العفو إلاّ الذي
    أذنبَ والله عفا واقتدر
    كما في قول أبي نواس
    يا كبير الذنب..؟ عفو الله من ذنبك أكبر
    المعصية والتوبة أحببتهما كثيراً في الفكر المسيحي
    فلا يخطر في بالي على الإطلاق أن الله يعذب مخلوقا من صنع (يديه).. أو (يثأر) من عباده في عذاب النار.
    شكرا لك يا سيدتي وأهلا بك صديقة كريمة وقارئة نجيبة.


في العدد نفسه

كلمة العدد 86: عن القانون واستقلال القضاء

تهنئة برمضان والعيد

الإيقاع في شعر الحمداني

اتجاهات فكرية في النظرية النسوية

بحث: جماعة الإخوان المسلمين ...