عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. محمد علي حيدر - المغرب

المقامات العنكبوتية: مقتطف


أدناه مقتطف من رواية عنوانها "المقامات العنكبوتية" لمحمد علي حيدر. الناشر: توب ايديشن، المغرب (2008). المقتطف بلسان نوال، الساردة الرئيسية في الرواية.

محمد علي حيدرجسدي أيها السلطان؛

جسدي أيها القربان؛

كم أنت شهي، بهي يا جسدي؛

كم أنت ضعيف يا جسدي؛

أنت لا شيء يا جسدي.

مسكين أنت أيها المعتصم، مسكين أنت يا عبد الفتاح، ومسكينة أنا وأمريكا[1] معكم. كلنا يهذي. فعن أية حرية للجسد نحكي؟ هل يملك الجسد حريته حتى تكون المرأة حرة فيه أو الرجل؟ كيف يملك القربان حريته؟ أجيبوني؛ كيف يتحول السلطان إلى قربان والمسافة بينهما قياسية؟ أجيبوني، فأنا حائرة وإن كابرت وكابرتم معي.

أيها المعتصم: هل هناك إرباك أكبر من أن يتحول الجلاد إلى مجلود، أن يتحقق السلطان للجسد في جبروته وانمحائه. صدقني أيها الغريب غربة جسدي أنك نكأت وعبد الفتاح جرحا في جسدي المثخن بالجراحات. فهل أملك أن أكون حرة في جسدي ولا أستطيع تضميد جراحاته؟

لو كان الجسد يملك حريته لحق لي أن أطالب بحريتي فيه، لكنني أعترف في غيبتكما، يا فتاح ويا معتصم، بأن جسدي لا يملك حريته كما لا يملكها جسد كل واحد منكما. هل يملك الجسد الذي يشيخ حريته في أن يمنع عن نفسه الشيخوخة والموت؟ يموت الجسد بعد العنفوان كما تفتر اللذات بعد الإشباع، يفقد الجسد بريقه ويغرق في الظلام بعد ارتعاشات اللذة، يستيقظ لينام، يفتر ليعاود العنفوان، يعيش ليموت. ولولا أنه في قمة العطاء ينسخ نفسه كي يجد امتداده في أجساد أخرى لما استحق نعمة الوجود.

أيها الغريب غربة جسدي، بالأمس وأنا في عنفوان الصبا والشباب، كنت مزهوة بجسدي، كنت مدركة، ولا أزال، بأن لجسدي سلطانا علي وعلى غيري. أدركت ذلك من حصار النظرات الجائعة وحصار الأهل. أدركت أن لجسدي في عنفوانه مطالب تستفزني، تبحث عن إشباع ما. وجدت بعض هذا الإشباع في نظرات الشباب التي زادت تدفق الدم في الشرايين بقدر ما شددت الحصار حولي وجعلتني أدرك خطاب العيون، كم أنت صادق في قولك الذي نقله عنك عبد الفتاح "ما يكتمه اللسان تفضحه العيون." لعلك لا تدري يا معتصم أن هذه الجملة ربطت بيني وبينك جسرا لا أدري منتهاه، أيقظت فيَّ ذكريات الماضي وأوجاع الحاضر، جعلتني أستوعب مطلب أن تكون المرأة حرة في جسدها بشكل لم أفكر فيه من قبل.

أيها المعتصم بصمته والمتمترس خلف نظراته، أقر أنك اخترقتني بفكرتك كما اخترقتني بنظراتك وما تحمله دعوتك للتحرر من الانتماء، فهل أول خطوة في طريق أن تكون المرأة حرة في جسدها هو التحرر من الانتماء؟ من يدري!.

أيها الغريب غربة جسدي، لعلك تدرك أن جسدي سجني وسجاني، تهمتي وبراءتي. جسدي، لفترة، رفض القيود، مارس حريته في العنفوان، لم يكترث لفزعي وحيرتي حين أعلن نضجه وأفرز دما، حين شق الصدر بالامتلاء. فكيف أتخلص من انتمائي لهذا الجسد؟ كيف أعقد صلحا معه؟ هل أستطيع أن أهرب منه ومن سلطان غوايته؟ أو أُسْكِت نداءاته وأمنعه من ممارسة طقوس الانتشاء والكينونة؟ جميلة ومغرية، دافئة وفاجرة هي لغة الجسد.

جسدي يتكلم وأنا ممنوعة من التكلم عنه. تلك هي مأساة المرأة والجسد، ولا يدرك هذه المأساة إلا المرأة. لذلك فلا عجب أن يصر عبد الفتاح على توضيح المقصود من "المرأة حرة في جسدها"، فهل أقول له أيها المعتصم إن الحرية المقصودة ليست مجرد ممارسة لطقوس النشوة واللذات. وأن معاني الحرية حمَّالة أوجه. أدرك أن "الرجل"، أنت أو عبد الفتاح أو غيركما، لا يستسيغ مثل هذا الخطاب، وأدرك في نفس الوقت أن جسد المرأة نصفٌ لا يكتمل إلا بالنصف الآخر، والعكس صحيح، فكيف تحتملان أن تكون المرأة حرة في جسدها وأنتما تعتقدان بأنه ملك لكما قبل أن يكون ملكا لها؛ بل أدرك حجم مأساة أن تمنع المرأة جسدها عن الرجل إدراكي حجم مأساة أن يمنع عنها جسده وإن كان لا يستطيع ذلك؛ أدرك ألا يستسيغ الرجل حرية المرأة في جسدها حين تمنحه لغير رجل واحد، وأدرك حجم مأساة ذلك بالنسبة للمجتمع برمته؛ بل أدرك أن مجتمعنا بقيمه الحضارية يمنح الانتماء إليه من خلال ذوبان الفرد فيه، وأن لا مكان لهوية الفرد في مجتمعنا في استقلال عن الجماعة. وإذن ما موقع الجسد وحريته في منظومة هذا واقعها؟ منظومة ترفض أن تمنح عضوها بعضا من استقلاليته، فأحرى حريته! فهل أصبحت الأحزاب والجمعيات قبائل جديدة؟

أيها المعتصم، ومعك عبد الفتاح، أسألكما: لماذا تجيد المرأة الرقص وَتَـرْكَبُ الهيستيريا جَسَدَها في "الجذبة" و"التحييرة"[2] ولا تركب نفس الهيستيريا جسد الرجل؟، لعلكما لم تفكرا في الموضوع أصلا! لكن دعني يا معتصم أَقُلْ لك بأن "الجذبة" طقس يسعى جسد المرأة من خلاله إلى التحرر والانفلات من قيوده، فكيف لا تطالب المرأة بحرية جسدها الذي يحتضن الحياة في رحمه، ويغذي عبر حلمتيه الرضع والبالغين. صدر المرأة مدرار، والمرأة حين تهب جسدها تقرر مصيرها. فلتكونوا رحماء بهذا الجسد الذي احتضنكم ولا غنى لكم عنه، ولا طاقة لكم بإغرائه بعد أن أخرجكم من الجنة وأضحى جنتكم. اعترفوا.

= = = = =

[1] إشارة إلى الحوار الذي دار في الفصل الأول، وجاء فيه على لسان شخصية فتاح وهو يستفز نوال التي جاء هذا الفصل بلسانها. قال فتاح في هذا الحوار موجها خطابه إلى نوال: "لا تقلقي، فقد دخلت أمريكا في الخط، ولن تترككن إلا وأنتن متحررات ممتعات بما تنتجه الويلات المتحدة من أبهى أشكال العطور والماكياج، والقائمة طويلة. لاسيما وأن تجارة السلاح لم تعد كافية لخوفها من انتقال التكنولوجيا إلى المعاقل الإرهابية، فهنيئا لكُنَّ مسبقا بالفتح القريب، فعما قليل ستصُلْنَ وتَجُلْنَ، وتُشهِرْنَ أسلحة الجسد، وقد قلتِها بنفسك: من يستطيع مقاومة استفزاز امرأة؟ ها، ها، ها".

[2] الجذبة والتحييرة عبارة عن رقصات عنيفة شبيهة برقصات "الزار" في المشرق العربي، وتكون مصحوبة بإيقاعات قوية للطبل وآلة تسمى "الغيطة" تحدث صوتا حادا عند النفخ فيها، كما تكون مصحوبة بأناشيد وتراتيل متنوعة. وتعتقد بعض النسوة أنهن بهذه الرقصات يتخلصن مثلا من مس الجن، إلى آخره.


المقتطف من رواية "المقامات العنكبوتية". الفصل الثاني: من مقام التعارف (ص 15 -17)


غلاف كتاب
D 25 شباط (فبراير) 2013     A محمد علي حيدر     C 7 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • المقامات العنكبوتية

    ما يؤرقني أيها "الغريب غربة الجسد" أين سيحط بنا الترحال..؟ أيحرر الاستنساخ أجسادنا، ويمنع عنها الشيخوخة والموت، لتجد الأراوح امتدادها في أوعية أخرى..؟ أم هي الهُوى العميقة لا قرار لها في مملكة "هاديس" الكالح، ومتاهة المتاهات..؟


    • سعيد بسؤالك الإشكالي ذي الطبيعة الميتافيزيقية الذي ينضاف إلى ما طرحتْهُ نوال في الرواية من أسئلة إشكالية مقلقة ومستفزة لا يحيط بها جواب واحد، وذلك هدف من أهداف الرواية الحديثة التي تسعى إلى إشراك القارئ في التفكير، ولا تسعى إلى إملاء قناعات جاهزة عليه. ومع ذلك كان سؤالها "هل يملك الجسد الذي يشيخ حريته في أن يمنع عن نفسه الشيخوخة والموت؟" سؤالا إنكاريا لا تنتظر إجابة عنه، بل انتقلت منه إلى إثارة جدلية الموت والحياة، العنفوان والشيخوخة "يعيش ليموت"، وأن ما يخفف من عبثية وجوده كونه يستنسخ نفسه "كي يجد امتداده في أجساد أخرى"، وإلا ما استحق نعمة الوجود في نظرها، أما ما بعد ذلك فالتفكير فيه متروك لكل قارئ. سيدي؛ إن مفهوم الجسد في المقامات العنكبوتية لم يبق محصورا في الجسد البشري الفيزيقي، بل تعداه ليشمل جسد الأمة بأسرها وما تعرفه من شروخ واستنساخات أكثرها مشوه، وليشمل مؤسساتها من أحزاب ونقابات... وكانت جميع هذه الصور بيوتا ذات خيوط عنكبوتية تأسر من يقع في فخاخها، وذلك جزء من معنى عنوان الرواية. فخور بقراءتك العميقة، وبمرورك الكريم.

  • الأخ محمد تحية طيبة - نصك اشتغل عن أكبر المواضيع المسكوت عنها في ثقافتنا العربيّة وهي تيمة الجسد ببعض أبعاده ،وعلى الرّغم الكتابات الجريئة في تاريخنا عن مسالة الجسد الا أنّ لاوعينا ومنطوقنا مازال يحيط الجسد بالكتمان والخجل والخوف والكراهية بينما وجودنا لايتحقق الا به ولغتنا لاتكون حاضرة الا بوجوده وتواصلنا مع ذواتنا ومع الآخرين يشترط حضورا جسدياّ ،وفي مستوى أعمق جسدنا مشدود مفارقة الى أبعاد كثيرة تسكنه : الحواس،الرغبة،الفعل،الحركةوفي المقابل الألم والعجز والمرض والشيخوخة وذلك هو منطق الكائن الانساني الذي لايستطيع أن يكون "أخفّ من الملائكة" ولا يمكن أن يكون وجودا حيوانيّا خالصا فبينهما تحدّد وجودنا بين القليل من الفكر وبعض الجسد ننفتح على الأمل وعلى الألم وعلى العالم ومنه على المستقبل باتجاه العدم . شكرا على هذا النص العميق مع محبتي


    • الأخ فتحي العكرمي، تحية تقدير واحترام. أشكرك على قراءتك التفاعلية العميقة التي تشف عن عمق وتمرس بأصول القراءة الإيجابية، والنظرة النقدية المتفحصة، والتفكير الذي يَعْبُـرُ من بنية النص السطحية إلى بنيته العميقة. سيدي، أعتز بقراءتك ومرورك الكريم الذي يبعث في النفس أمل الاستمرار في الكتابة. أجدد لك شكري وتقديري...

  • الدكتور محمد علي حيدر

    لا أدري إلى أي مدى يمكن لمقتطف من روايةأن يعطي للقارئ فكرة عنها ككل. المقتطف يغري القارئ على مغامرة سبر أغوارها والتمتع الفكري بما توحي به من شرارات ملتهبة، وذلك من أجل استشراف آفاقهاالفكرية،ووعيها الناقد للقيم المقترحة والرائجة في المجتمع.

    للأسف لم أعثر على الرواية في المكتبات.
    مع الشكر و التقدير


    • الأخت زهرة يبرم: صحيح أن مقتطفا من رواية لا يمكن أن يقدم فكرة عن موضوعاتها ولا عن تقنياتها السردية، كما أنه لن يمكن القارئ من سبر أغوارها كما قلت، وإنما هو ومضة عابرة قد تغري بالقراءة... والكاتب حين يكتب، لا يكتب لنفسه طبعا، بل لقراء مفترضين، فعبرهم يتنفس إبداعه الأوكسجين الذي يمده بالحياة ويشجعه على مزيد من العطاء. لكن ما حيلته وواقع النشر والتوزيع على ما هو عليه؟ وما ذنبه إن لم يصل عمله إلى المكتبات في وطنه الذي يقيم فيه، فأحرى إلى مكتبات الدول الشقيقة؟
      صدقيني أيتها المغرمة بالقراءة أن الكاتب والقارئ في وطننا العربي قد أصبحا يعانيان غربة مضاعفة، ويعانيان من تداعيات المشهد الثقافي والسياسي العربي، حتى أضحى التنقل بين الدول العربية أشق على المواطن العربي من التنقل عبر باقي دول العالم... وأحد مهام الإبداع السامية رتق ما تمزق في هذا الواقع، والانتصار على كل المعيقات... ذلك أملنا جميعا. من أجله نحيا وإليه نسعى، عسى أن نعبد الطريق أمام الأجيال القادمة التي ستعاني من تركة ثقيلة نتحمل كلنا مسؤوليتها.
      أشكرك على اهتمامك بالبحث عن المقامات، وسأحاول أن أبعث إليك بمقطع آخر. تقبلي تحياتي

    • الدكتور محمد علي حيدر

      أعتبر نفسي محظوظة بين قراء عود الند أن حصلت على مقطع ثاني من المقامات العنكبوتية، وموعودة بمقطع ثالث. مشكور سيدي على هذه المفاجأة التي أسعدتني كثيرا.

      على ندرة الكتب في بلداننا فإن ثمن الكتاب الواحد إن وجد يعادل فاتورة الكهرباء أو الماء.

      تقبل فائق الشكر و الإمتنان

في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 81: الفيلم الصامت والنشر الورقي

تأثر العبرية بالعربية

تعليم الشعر الجاهلي للناشئة

تأثير الشخصيات الكرتونية على الأطفال