عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد الحفيظ بن جلولي - الجزائر

قراءة في قصّتين


قراءة في قصّتي "سفر" و"بين رعبين" لأمان السيد (*)

عبد الحفيظ بن جلولييمنح القصّ أكبر فرصة لتأمّل عناصر الإشكال في الحكاية، كون القصّة بما تتميّز به من تكثيف تختصر زمن التلقي لتفجّر زمن الصّدى الحكائي أو استمرار الخطاب.

يتجلى الصّدى الحكائي في ترديد عوالم القص من حيث التّوالد المستمرّ لأنوية العناصر القصصية المختصرة.

متعة القراءة في القصّة القصيرة، تنحصر في كونها تجرّ دائما القارئ إلى عوالمها المخفية، وذلك لتوفيرها هامشا من الحرّية في إنهاء التداعيات الحكائية إنهاء تعيينيا والاستمرار فيه تعيينا تخييليا بما يتوافق والكشف عن ماورائيات النص.

ترتبط قصّتا "سفر" و"بين رعبين" لأمان السيد بنظام سردي ينتهي إلى تبئير موضوعة الجسد كانصرام دلالي من بؤرة تعيينية تتعلق بموضوعتي الرّعب واللذة.

مدارات الجسد حين يكتشف أنّه جسد، يمارس لعبة الحياة بين وتيرتين متمايزتين، الألفة والتّنافر، لحظة يجيش في عمق الجسد إحساس بالغربة داخل أنساق الوجود، لكنّه لا يكتشف ذاته إلا من خلال التّجربة الجسدانية المتوحّدة في استدعاءات متماثلة، الجسد مرآة للجسد، كينونة المعرفة حين لا يُترك للجسد بصيص أمل في معرفة طبيعته، لذلك يقترب من آخر ليعترف بوجوديته المنكرة.

تقترب أمان السيد من هذه التوهّجات في الدّلالة الكامنة خلف شكلانية الجسد، لتزيح قشرة الطلوع في العضل وتغرق الجسد في جوانيته البهيجة:

"حكاياتٌ تتوهج ُ في المرايا المنثورة في المعبر."

المرايا تدير عملية الفرح في دواخل الكيانات الصّائرة إلى منظوراتها، ترتّب تناسقها على ضوء الشّعاع الكوني، وتسير حيث آخَرِها ينبلج في عمق اللاّمنظور، هو الجسد يبني معبرا إلى توهّجاته التي تدمّرها الأشكال البرّانية للمآلات القصوى في الظاهر، وهو منحى أشدّ صوفية في ترتيب فرح الجسد الذي تغيّبه اللذة المتعدّدة في وجودية ثابتة، لكن شطح الصّوفي يرسم مسار الحركة كي يفيض الجسد كلما اشتدّ الوجد، ففي حركة الجسد إثبات لما هو غياب، لما هو صيرورة إلى اللامبالاة، "لهذا كانت حال الشّطح تمتاز بالاضطراب، والحركة، والانفعال الجامح"، كما يقول عبد الرحمن بدوي.

الجسد مُكنة العالم الذي يمنح الأشياء معنى، ومن ثم فهو علامة على إشهار وجوديته لترتيب انضمامه إلى فضاء الموجودات الفاعلة.

يشتغل نص سفر على إدخال الجسد بؤرة الفعل الكامن في انبثاقات الأشياء التي تؤمِّن للحركة تناغمها المتوائم وحركة الحياة في مجملها:

"الموئلُ. سرداب أُعدّ لاستقبال الأجساد حين تتأرجح بين المشقة، والعناء. يحمل شكل زاوية يترصّدها باب خفيّ يستوعب مرور طيفين بلا حدود، أو تشكيل. ثلاثية ُ الخدر، سكينة تغلف مكانا، وعتمة توشوش، وصوت قيثارة تشدو بخفوت لحن يتباهت نغمة إثر نغمة."

"النص حقل منفتح يشارك في تكاثر إنتاج العلامة"، والمقطع السّردي يبني انبثاق الجسدانية انطلاقا من علامة "السّرداب"، التي تفتح بنية الجسد على المخفي، ومن ثم فهي تعكس ثقافة خاصة للجسد، والسّرداب كعالم يحيل على الأسرار، فهو يماثل الجسد في جغرافيته ومساراته المجهولة.

إلا أن القاصة تحمل السّرداب على معناه المتوافق وبنيته الهادئة، والكاشفة لأعماق التفاعل الإنساني مع عوالمه، فهي تشتق من جوهر بنيتها الإبداعية مفاصلا للعلاقة الرّوحية مع المكان، فترتب معنى الخدر، وتلحقه بلواحقه الدّلالية: "السّكينة، العتمة واللحن"، وهي البنيات التّوافقية التي تنفقد في امتدادات العلاقة بين الكائن الإنساني وجسده، حيث السّكينة والعتمة يتأسّسان كدرجتين في سُلّم اللحن الذي مصدره نصيا "القيثارة".

وتتأسّس "القيثارة" كنموذج منتج للسّكينة والعتمة، كون النّغم يفصل الذّات عن محيطها ويغرقها في النّشوة والخيال، ولهذا عندما يحيلنا الفيلسوف الفرنسي جان بودريار إلى سؤال العالم الواقعي الذي ليس بقدر عدد العوالم المتخيّلة، فهو يحيل ضمنا إلى أهمية الخيال بالنّسبة لتشكيل الواقع، بحيث محدودية عالم الواقع في مقابل تعدّد العوالم المتخيّلة تساهم طوعيا في دفع الذات إلى السّفر عبر جسدها في عوالم منتجة بالضّرورة لمكانية وزمانية قادرتين على الاندراج والانزياح من عالم المتخيّل إلى عالم الواقع، فولوج الجسد فضائية السّرداب يمنح الوجودية توهّجها المفقود في مرآوية الخيال. وبالتّالي يكون الجسد في نص "سفر" إحالة على الخيال الذي يرتّب فتنة الوجود الجمالية الكامنة في معرفية الجسد، وهي إحالة فنّية تغامر داخل النّسق التشكيلي.

غومبروفيتش يرى أنّ العلاقة بالفن علاقة تواضعية، بمعنى أنّ الدوال الفنّية تنتج كياناتها داخل الوعي المتابع لحركتها والمنبهر بمنجزها، وكذلك هو الجسد كونه بنية دالة تجذب على الدّوام متلقيها، كسردابية تنغلق على السّكينة والهدوء واللّحن.

لتقي نص "سفر" مع نص "بين رعبين" عند موضوعة العتمة، فإذا كانت في النص الأوّل سبب سرور جسدي، فهي في النص الثاني مثار ارتباكه.

الرّعب حالة نفسية تنعكس على الجسد، فتحيله إلى كتلة هشّة مرتبكة ومرتعشة، وبالتّالي يصبح الجسد عنصرا من عناصر المشاركة في الإفصاح عن الرّعب كحالة تنشأ من بعدٍ غير جسدي:

"وحيدة في الظّلمة وجدت نفسها، ظلمة لم تعتدها في هذا الشارع. بحثت عن تاكسي. لا أثر لشيء".

الظلمة سبب الخوف، والخوف منشأ نفسي تتمظهر تجلياته على مساحة الجسد، والجسد في المقطع السّردي يؤسّس علاميته الخائفة في فضاء الشّارع، الذي يأكله الفراغ، والجملة السّردية: "بحثت عن تاكسي. لا أثر لشيء". تحيل على الضّرورة الحوارية التي يؤجّلها الجسد لإنتاج فرديته المنتجة للحدث، ففي غياب الـ "تاكسي"، يتبأّر الجسد ويشحن من وجوديّته الملفتة للانتباه سرديا، حيث يقف أفق انتظار القارئ عند تماسات الجسد التّفاعلية مع عناصر المحيط، ويزداد الرّعب عندما ينمو الحدث ويؤثث فضاء الحكي بمكوّنات موضوعية منتجة للرّعب:

"رعبان يتنازعانها. القصاصة، والمسدس."

كل من العنصرين المذكورين يتّجهان بفعلهما التّدميري نحو الجسد، حيث تنبثق حركة دفاعية جسدية تحاول توفير عنصر الحماية، وهو ما يرتّب الفعل الجسدي داخل منظومة حوارية، تبرهن على وجودية منفصلة للجسد تؤكد على حضوره في العالم واستمراره فيه ككينونة منتجة لأثرها، وذلك ما ينتصر له السّرد حين ينقل أداة التّدمير بحركة مجهولة إلى الشّخصية الرّئيسة:

"لم تعرف كيف صار المسدس في يدها."

تراهن هذه الحركة على إثبات وجودية الجسد كعنصر من عناصر المرئي التَّشاركي في فعل الكينونة الإنسانية، حيث فراغ الشّارع في المقطع السّردي السّابق، أهّل الجسد إلى رسم شكلانيته عبر الرّعب، بينما تدمج الوحدة السّردية الأخيرة الجسد في نظام الكينونة الوجودية، وهو ما يقارب الجسد بمنظور ميرلوبونتي الذي أوّل "الجسد بوصفه شيئا معيشا".

كتابة الجسد تشي بحيلة وظيفية في إعلان مشكلة الوجود برمّته، فـ"أن تكتب الجسد، فذاك لا يعني كتابة الجلد، ولا العظام، ولا الأعصاب، إنّما كتابة ما تبقى: كتابة شيء غير مناسب." كما كتب رولان بارث، في كتابه "رولان بارث بقلمه"، هذا الشّيء غير المناسب هو الإحالة على العُجالة الفلسفية التي تمنح الكتابة رؤيا مفتوحة على ما نعيشه داخل ألجسد، وما ترتّبه مرافقته الوجودية، إنّه برؤية سردية ما قد نستشفه من حركة الجسد التواقة للانبثاق وإثبات الوجودية في الحالة الأشد إرباكا للآخر، كما هي الحال بالنّسبة للرّعب، ومن ثم الانتقال على الفرح الجسدي في ترسيم توهّجاته القادرة على رسم مسارات الحالة الكينوناتية والوجودية داخل نسق المعيش، كما هو الحال في "سفر".

= = = = =

(*) قاصة من سورية. اقرأ أدناه قصتها "بين رعبين" المذكورة أعلاه.


بين رعبيـن

أمان السيدلهذا المساء طابعٌ غريبٌ. إنه تهاوى فجأة. حتى أبواب الحوانيت قد أخذت تهبط من تلقاء نفسها، بينما الأقدام الحافية المتسارعة لم تعد تلحظ.

وحيدة في الظلمة وجدت نفسها، ظلمة لم تعتدها في هذا الشارع. بحثت عن تاكسي. لا أثر لشيء.

ليست تدري كيف قادتها قدماها الخائفتان إلى ساحة الرمل الشاسعة تلك، ولماذا وجدت نفسها تنتصب فوق كرسيّ من القشّ القديم. المكان خال. لا مخلوق، حتى القطط. رمل أغبر، ونوافذ بيوت بعيدة شاحبة.

سمعت صوتا ميّزته لرجل يخرج من جب ّبيت، ويجتاز فضاء الرمل إلى صوت امرأة تعتقدها زوجته، يسألها: "هل أعددتِ أقراص التمر للعيد؟" ثم يطلب منها ألا تعدّها.

تتوه في الفراغ كقشة في مدى لا ينتهي.

ما زالت وحدها تنتصب في العراء على ذاك الكرسيّ. رجلاها ضعيفتان ترتجفان، وحسّ مجهول يكثف رعبها. لماذا هي وحدها؟ ولماذا لا تستطيع أن تتحرك؟

رجل انبثق أمامها. يرميها بقصاصة ورق تشعر بها تجلب إليها الدمار. تنتفض. تخشى أن تمسّها القصاصة. تشعر أنها تشتعل، وتريد أن تشعلها. يد الرجل تتشبث بزجاجة صغيرة. سائلـها يلتمع. يصوّبه نحوها. تنتفض. تهرب. لا تريد لأثر أن يلتصق بها.

يشقّ المكان صريخ عجلات لسيارة عسكرية. يترجّل منها رجل بلباس مموّه. نعم. تعرفه. تميّز هذا اللباس أنّى صادفته. مسدسه مسددٌ إليها. رعبان يتنازعانها. القصاصة، والمسدس. ماذا ستفعل؟ رجلاها استمدّتا قوة من حياة مهدورة الآن، وقويتا على الهرب إلى أحد الزواريب القريبة في ساحة البلدية المكتظة بالأسواق المغلقة .

لم تعرف كيف صار المسدس في يدها، ولا لمَ يتزحلق زناده بين أصابعها. تهرب من القتل لكنه يلاحقها. وفي لحظة مقتنصة تنطلق رصاصة ويخرّ المقابل صريعا.

ها هو المموّه يسير ببطء إلى سيارته، وشبح ابتسامة طفيفة يلعق عينيه الذئبتين. لقد أدّى الدور. ها هو الفتيل قد أشعل َ وها هو الوباء قد استشرى.

D 25 كانون الثاني (يناير) 2013     A عبد الحفيظ بن جلولي     C 0 تعليقات