عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سعاد العنزي - الكويت

مـنـفـيـــون


سعاد العنزي
ماذا يعني أن يكون الإنسان منفيا عن الحياة، وعن أسباب الحياة الحقيقية الكاملة بمعطياتها كافة؟ أن تكون منفيا هو ألا تكون إنسانا كاملا بالمعنى المادي والمعنوي، من حيث صيرورة وحال الجسد كبنية متكاملة تساعده على سلوك جميع مظاهر الحياة، وأن لا تكون الروح المعنوية والظروف النفسية والاجتماعية كذلك مستقرة وبناءة وخلاقة لأن يكون إنسانا مستقرا ومانحا في المجتمع، فإن لم تتحقق لك شرطا من الشروط الجسدية والنفسية، فأنت تكون منفيا عن الحياة.

أن ترى نفسك غريبا وضائعا ومتلاشيا وبعيدا جدا عن تحقق الظروف الطبيعية لعيش أي إنسان فأنت تكون منفيا عن مفاهيم الحياة الكاملة والمستقرة، وأقصد بهذه الشروط الخاصة بالحياة الكاملة هي صحة البدن والجسد، والسلامة العقلية والذهنية، والمناخ الأسرى المفعم بالحب والعاطفة والتكافل، ووجود المحيط العلمي والعملي والاجتماعي الخلاق، في وطن يقدر وجودك كمواطن له حقوق مثل بقية المواطنين، وعليه واجبات يؤديها كالآخرين، فإن لم تتحقق واحدة من هذه الظروف المساندة للعيش فهذه الأمور بتفاصيلها العريضة اللاحقة تتيح لي حيزا للكتابة عنهم وعن آلامهم: آلام جميع من أدعوهم هنا رمزيا بالمنفيين، الذين أراهم حرموا الكثير من الحياة، وعليهم أن يتجلدوا بالصبر وأن يقاوموا تيار الانهيار الداخلي النفسي الذي يعايشونه يوميا في دواخلهم، مع إشراقة كل صباح يبدأ معهم سؤال حرمانهم بالتواتر والتيقظ لكل أمر عارض وطارئ لو كان إنسانا غير محروم لاحتمله بكل بساطة وسهولة. ويزيدهم اختناقا في المساء، انعدام أي بارقة رحمة إنسانية لهم، أو انسداد أفق الأمل . كما يقول السياب: أتعلمين أي حزن يبعثه المساء!

أن تكون مريضا بمرض مزمن ليس منه شفاء، فأنت منفي عن الحياة، لأنك باختصار لا تستطيع أن تعيشها كما عاشها غيرك، أخ لك أو صديق، فتخيل أن تكون مهددا بالموت بأي لحظة، أو يضيع نصف يومك بين محاولات التداوي، ومقاومة الألم و ونصفه الآخر بمحاولة التأقلم مع ما ابتليت.

تصور على سبيل المثال أن تكون مقعدا ولا تستطيع أن تتحرك الحركة الطبيعية والبديهية، التي تتحركها أبسط المخلوقات، أو حرمت البصر فتختفي منك منظومة العالم البصري، وتستنجد بما تسعفك حواسك الأخرى بها، فما بالك لمن يفقد حاستي السمع والبصر كلتيهما.

أن تكون منفيا هو أن تكون يتيما محروما من أحد والديك، أو كليهما لتظهر إليك البشر بكافة أشكال وحشيتها وأنيابها ومخالبها، يزيدون في محاولاتهم الإقصائية لك، وطمس ملامح شخصيتك، ووجودك بينهم، فتكون موجودا لا مرئيا بالنسبة إليهم، ومن يناهضهم. هنا يكون اليتيم منفيا عن الجماعة الإنسانية التي نسب إليها بنسب الاسم، وليس بنسب الانتماء الحقيقي لهم بشروطه الموضوعية المتكاملة.

وهذا ينطبق كذلك على من حرم من العيش مع أحد والديه، فهو سيعاني قسوة الحياة بنصف أبويه، فتكون مصادر أمنه النفسي والاجتماعية غير كاملة، حتى و إن كان محظيا بمحبة أحدهم فهو بالتأكيد سيختزل في لاوعيه هذا النقص، وسيظهر في مواقفه وسلوكه بطريقة لا إرادية.

انتزاع المرء من وطنه وزجه في بلاد أخرى: هذه واحدة من أهم أشكال النفي والاغتراب، التي تنزع كيانا من جسد اجتماعي وسياسي وديني وتزرعه في كيان قد لا يمت له بصلة، فيكون مثل الشجرة التي غرست في غير أصولها. ولك أن تتخيل الموت البطيء الذي تعيشه هذه الشجرة وصولا إلى النهاية.

في هذا المقال وددت التقديم والتمهيد لزاوية جديدة لي في "عود الند" عنوانها "منفيوون" تعتني بشؤون المنفيين، الذين سردت باختصار لبعض حالات النفي محاولة تنظير وتحليل البنى الاجتماعية والنفسية والتكونية التي أخرجت لنا فئات عديدة في المجتمع، منفية ومقهورة ومقموعة في نسق اجتماعي متعال لا يفتح المجال إلا لمن يخترقه بقوة المؤسسة التي تدعمه وتناصره.

كما أردت أن أسلط الضوء على العديد من حالات الحرمان الفردية لبعض من حرمتهم الحياة من الشروط الطبيعية المتكاملة لنشأة إنسانية عادلة، فالنفي الذي قد يكون سياسيا: مثل المنافي الناشئة عن الحروب والصراعات السياسية، من مثل الفلسطينيين المنفيين في الداخل والخارج الفلسطيني، و يكون نفيا اجتماعيا خاضعا للظروف المادية و لأسباب عنصرية وأرستقراطية نخبوية، والغنى والفقر، والقوة والضعف التي يحظون بها أفراد المجتمع.

ويكون النفي أيضا نفيا مؤسساتيا تقوم به إحدى المؤسسات السياسية أو المدنية بتغليب طرف على طرف، وعزل الآخر عن حقوقه المادية والإنسانية، فتحول دون إحساس المرء بكرامته الإنسانية على أقل تقدير.

وقد يكون النفي واقعا على حالة فردية افتقرت لواحدة من شروط الحياة المتكاملة. مثل هذه الفئات تحتاج لمن ينطق باسمها ويتكلم عن حقوقها، لأن الكلام هنا ليس من أجل العرض فقط، بل يرمي إلى كشف طريقة معينة من التعاطي مع هذه الفئات، تؤثر عليهم في ألا يكونوا أفرادا فاعليين في المجتمع، ولا توافق وانسجام بينهم وبين أفراد المجتمع، ومن شأنه أن يكون فجوة بين أشخاص المجتمع الواحد، فتتشكل ثنائيات مثل: (ظالم/مظلوم، قامع/مقموع، حارم/محروم).

مثل هذه الثنائيات من شأنها خلق صراع بين أبناء المجتمع، فتكون هذه المقاربات بمثابة جرس للضمير الإنساني في البعد عن تجاوزاته السافرة ضد أخيه الإنسان، كما أنها محاولة التحدث وإعطاء صوت لمن لا صوت له، ولمن ليس له القدرة على الدفاع عن حقوقه. وهذه واحدة من أهم وأسمى وظائف الكتابة بالنسبة إلي، وهي الدفاع عن قيم الحق والعدالة الإنسانية.

ميشيل فوكومن حيث المنهجية التي سأحاول جاهدة تطبيقها في هذه المقاربة الإنسانية: هو توظيف كل ما توافر لدي من نصوص إبداعية متعددة المجالات والحقول، جميعها تصب في الدفاع وتبني القضية والموضوع الإنساني مدار نقاش المقاربة. سأربط بين الحقول الفنية المتعددة بمقاربات وصفية وتحليلية ونقدية تصبو إلى الحفر في العمق قدر المستطاع، لكي تعطي مقاربة إنسانية متكاملة لحال الإنسان المعاصر عبر وسائل الفن المتعددة التي أتبنى هنا، كما تبنى الكثيرون غيري، فكرة تآزر الفنون الإنسانية كافة في خدمة قضايا الحياة والوجود، فليس الأدب وحده معني بالقضايا الإنسانية، بل كافة الفنون تبنت قضايا الإنسان ودافعت عنه بمقارباتها الخاصة والمختلفة.

أود أن أنوه هنا أن هذه المقاربة تولدت من تتبع حفريات المعرفة للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي التفت بعمق إلى المسكوت عنه في المجتمع، وإلى الفئات المهمشة في الجماعات الإنسانية، مسلطا الضوء على الظلم الذي وقع عليها من أشخاص توافرت لديهم كامل الشروط الإنسانية لتحقق حياة آمنة ومستقرة، ولكنها بنفس الوقت تكشف عن تلازم الثنائيات والتناقضات المعاشة في تلك المجتمعات، كتلازم فكرة الجنون بالعقل واللاعقل، وظلم وتعذيب المساجين بالمؤسسة السياسية الظالمة لهم.

ادوارد سعيدكما تأثرت كثيرا بإدوارد سعيد وبشعراء المنفى وأبرزهم محمود درويش، فإذا كان الأول قدم المنفى نظريا وفلسفيا في العديد من المساهمات النقدية: "تأملات في المنفى"، و" ما بعد السماء الأخيرة"، ومن ناحية أوتوبيوغرافية في سيرته "خارج المكان"، فإن الشاعر محمود درويش ترجم حياة المنفى في تجربته الشعرية والشخصية مفجرا أجمل ما في المنفى وأسوأه.

ومن هنا تولدت لدي فكرة تعميم فكرة المنفى وأخذها من الحقل الدلالي المباشر لأطبقها على العديد من الحالات الإنسانية التي أقول عنها مجازا إنها منفية.

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012     A سعاد العنزي     C 9 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • "يمانيـون فـي المنـفـى.. ومنفيـون فـي اليـمـن...".
    هكذا يعبِّر الشاعر اليمني الراحل عبدالله البَرَدُّوني عن المنفى الخارجي والمنفَى الوطني، في قصيدته "الغزو من الداخل". والمنفى الوطني، هو أنكى وأَمَرّ من المنفَى الخارجي.
    وحالات النفي، أو الانتفاء، متعدِّدة، ومنها المنفى الاختياري، الذي يتَّخذه المرء لذاته وبذاته، إحباطًا وقنوطًا. وأكثر فرائس هذا الضرب من المنفى الشُّعراء؛ ربما لمثاليتهم المفرطة، التي كثيرًا ما تتصادم مع سُنن الواقع، الطبيعية أو المصطنعة.
    أُحَيِّي الباحثة الأكاديميَّة الأستاذة سعاد العنزي على هذا التتبع المثري في استقراء تجربة العربي في هذا الشأن، وتعبيره عنها.
    كما أهنئها بزاويتها الجديدة، وأهنئ القائمين على "عود الندّ"؛ فالأستاذة مكسب لمنبرٍ جميلٍ كهذا.


    • الأخ العزيز الدكتور القدير والمتمكن عبدالله الفيفي حفظك الله

      كل عام وأنت السرور والبهجة والروح الإنسانية المشرقة

      أنا من سعدت بهذا الكلام، الذي هو شهادة أعتز بها، ووسام من الكلمات النادرة في زمن نادر واستثنائي أن نلتقى بحاملي المشاعل الحقيقية..

      يسرني ويسعدني هذا الكلام، ويدفعني إلى إنجاز المزيد، والمزيد،،

      لك مني خالص الشكر والامتنان..

      سعاد العنزي

  • (أن تكون منفيا هو ألا تكون إنسانا كاملا بالمعنى المادي والمعنوي، من حيث صيرورة وحال الجسد كبنية متكاملة تساعده على سلوك جميع مظاهر الحياة، وأن لا تكون الروح المعنوية والظروف النفسية والاجتماعية كذلك مستقرة وبناءة وخلاقة لأن يكون إنسانا مستقرا ومانحا في المجتمع، فإن لم تتحقق لك شرطا من الشروط الجسدية والنفسية، فأنت تكون منفيا عن الحياة.)

    في اعتقادي أننا جميعا منفيون حسب هذه المقاربة، كل في وطنه/ حلمه/ وهمه/ همه/ عجزه.
    أتوقع أن تكون الحلقات التالية من هذه الزاوية مشوقة ومثيرة في تفكيكها لكثير من أفكارنا.
    تحياتي أيتها الباحثة الصديقة


    • نعم أستاذ نادي يوما بعد يوم يتوطدد إحساس الإنسان بالمنفى والاغتراب .. ونجد نفسنا منفيون عن الحياة الحقيقية لسبب أو آخر.. فوجب علينا المشاركة الجماعية والاقتراب من حقيقة ضعفنا ووهنا أمام معطيات حياتنا التي ليس بيدنا سوى مقاومتها أو التعايش معها على مضض نتركها تسمم حيواتننا وتفتك بنا فتكا عاجل أو آجل المدى..
      تحياتي لك ولمرورك الجميل..
      سعاد

  • تحديد قيمتنا الذّاتيّة، واحترامها والوثوق بها هما دافعان أساسيان لعدم الشّعور بالنّفي عن أنفسنا وهذا الأهمّ. كما انّهما رادع لكلّ ما يصيب الإنسان من مرض أو الم أو غربة...
    حبّ الذات هو العامل الأساس في الإحساس بالإنتماء، ولا نعني به الأنانية، إنّما تقدير الذّات كهبة ووديعة إلهية علينا الاهتمام بها..
    وهذا يتطلب جهداً ومثابرة وثقة بما يمنحنا إياه الله من مواهب وقدرات.
    تقبلي مروري أستاذة سعاد
    خالص محبتي واحترامي


    • الأستاذة الفاضلة : مادونا عسكر
      كل الشكر لك على هذا المرور الذي ترك بصمة وحضورا في النص، بالطبع ما تقولينه صحيح و لكنه هو حالة دفاعية وخطوة إجرائية تجاه النفي يقوم بها المنفي، فكلنا نعيش على طرف من أطراف المنفى ونحاول مقاومة الآثار السلبية لهذا المنفى أو ذاك عبر خطوات اجرائية تتركز في التعرف على الذات بتحولاتها الجديدة، ومن ثم تصحيح الخطأ والخلل، وتقوية الإرادة والمقاومة لتيار النفي القابع في مظاهر حياتنا من خلال مشاعل الأمل التى نحملها بين أجنحتنا لنحلق نحو عالم أكثر تصالحا مع ذواتنا، وتوافقا مع مجتمعنا،،
      المنفى كفكرة لها جذور معرفية وفلسفية عميقة، تحدث الكثير عنها ولا سيما منظرين دراسات الهوية مثل إدوارد سعيد، وغيره..
      لك مني فائق المودة والاحترام
      سعاد العنزي/الكويت

  • قرأت كل ما كتبت. لقد لمست نقاطا عميقة في حياتنا العملية، وقدمت تفسيرا دقيقا لسلوك الناس الذين يواجهون بعض الصعوبات في حياتهم، كمشكلة مالية أو اجتماعية او العيش في المهجر. أحسنت يا سعاد.


  • موضوع يا سعاد أشبه بقصيدة أنصفت من كانت له، وقيثارة مكتملة الأوتار، وطريق دهشة لامست فيه أوجاع الحروف الكامنة في عقول المنفي، في ذاته قبل الأشياء. قمتِ بتحريكها كزلزال في أرض بلا سكنى وجعلتها أرضا صالحة للعيش. همستِ في أذن الغيب ليخبر الحاضر بخطورة هذا إن إمتد. شكرا لك.


في العدد نفسه

كلمة العدد 78: غزة: الضحية تقلب معادلة الصدمة والترويع

عن مبدعة الغلاف

نهى جريج وداعا

القيم الأخلاقية في القصيدة الجاهلية

عبد الله حمادي: التجربة النقدية