رامي حسين - الأردن
فاطمة: وها قد حل الشتاء
عدت الشاي الساخن وجلست تراقب الأرض المبلولة بحذر عبر نافذتها الضيقة. لم تكن ترى حينها الأرض أبدا، فقد كان ذهنها قد وصل إلى أفق ابعد بكثير من محيط غرفتها، تفكر في تفاصيل الماضي كأنها ما زالت فيه، وترى أمام عينيها المستقبل كأنه بالفعل قد أتى. وصلت لأحداث تحيكها خيوط من الماضي والحاضر، لتوضح إليها الصور الخافتة داخل عالمها المحدود في ذاكرتها المرهقة.
رعش قلبها حين دوى صوت الرعد ليوقظها كأنها كانت ترى حلم في غفوة قصيرة، فنظرت حولها واستشعرت كأس الشاي الذي أصبح باردا كبرودة غرفتها الصغيرة.
تجلس في غرفتها تداعبها نسمات من أحلامها التي بنتها وحلمت بأن تتحقق يوماً، وهي الآن تدرك حقا بأنها صعبة المنال بعض الشيء.
نسمات أمل تداعبها، ورياح اليأس تعصف أحيانا كثيرة، لكنها ما زالت متشبثة بتلك النسمات الجميلة.
تجلس تحتضن يداها صدرها الدافئ، وأنفاسها المتلاحقة تعبر عما يعتريها من خوف من القادم.
هي رقيقة كرقة نسمة هواء دافئة في ليلة من ليال الشتاء البارد، لطالما كرهت الشتاء لما فيه من برد وقسوة.
تراقب من نافذتها أوراق الخريف المتساقطة التي تسلم الأرض للشتاء القادم من الشمال الذي يحتل ببروده أجزاء الحي شيئا فشيئا، تراه يتقدم بخطى ثابتة نحو نافذتها، كلما زاد اقترابه زادت انكماشا تبحث عن الدفء.
تسلل البرد من نافذتها، محتلاً أركان الغرفة الصغيرة تسرب إلى قدميها ضمت قدميها لعل الدفء يسعفها، فركت كفاها وازدادت تشبثا بكأس الشاي، أنه البرد يحتلها، قشعريرة تسري في جسدها معلنة بأن أخر نفحة دفء بدأت تخرج من جسدها أمسكت بالقلم الممدد على طاولتها الصغيرة لعلها تبعد تفكيرها عن هذا البرد القارص.
تزاد برودة غرفتها ومعه جسدها، وكأنه سلم أشرعته لرياح البرد، أصبح البرد لا يطاق وقد تسلل إلى أصابع يدها، لم يعد بمقدورها صرفه عن فكرها فهي لم تعد تستطيع التحكم بالقلم.
كانت على ثقة بأنه سيأتي، تراقب الحي من بعيد، الناس تركض مسرعة إلى بيوتها لتحصل على الدفء، وسؤال يجول في مخيلتها، أين هو لقد تأخر؟
أطل خياله من بعيد. إنه هو. تعرفه من مشيته المتأنية، فرحت كثيرا. لكنها قالت في نفسها لن أكلمه لقد تأخر علي كثيراً.
صوت طرقات الباب تنساب إلى أذنها. لملمت نفسها ونهضت. فتحت الباب واستدارت دون إن تنظر إليه واتجهت لغرفتها، لحق بها وأحتضنها وهمس في أذنها:
"أعلم أني تأخرت، لكنه العمل".
أشاحت بوجهها بعيداً لتريه كم هي غاضبة منه، همس في أذنها: "حبيبتي أنا أحبك جداً".
"بردت كثيراً"، (قالت بعتاب).
"أعدك، لن أتأخر ثانية".
"دائما تقول لي هذا، ومع ذلك تتأخر".
ضمها إلى صدره، ووضع كفاها الصغيرين بين راحتين يديه وقال: "أعدك لن أبتعد عنك".
"أحقاً؟"
"طبعا، وهل أستطيع ذلك؟"
ارتسمت ابتسامة على شفتيها واحتضنته، دائما ما تكون يديه دافئتين وأنفاسه حارة قالت مازحة: "ألا تبرد ابدأ؟"
"كيف لي أن أبرد وأنا أشتاق أليك دائماً؟"
أمسكت يده وأخذت تمرر أصابعها متتبعة خطوط كفه، وقالت له بدلال: "هل قابلت نساء اليوم؟"
"نعم قابلت بعض النساء".
نهضت من حضنه، وجلست على الكرسي: "لماذا كلمتهن؟"
"حبيبتي هذا هو عملي، ماذا افعل، لكنك أجمل منهن بكثير".
قالت، وابتسامة نصر تعلو شفتيها: "وماذا أيضا؟"
ضحك من كل قلبه، اه، اه كم يهواها، ويهوى ذاك الدلال وتلك الأنوثة الرقيقة.
"أجبني لماذا تضحك؟"
أقترب أليها، وحملها بين يديه، وجلس على الكرسي مداعباً خصلات شعرها وهمس في أذنها: "أحبك".
نظرت للأعلى نحو عينيه وساد الصمت بينهما طويلا، أشاحت بنظرها خجلا وقالت: "وأنا أحبك أيضاً".
ضمت يديه إلى صدرها، وغفت وهو يتأمل ذاك الملاك الذي ينام بين ذراعيه.
صحت على صوت أمها تناديها: "أفيقي لقد تأخرت في النوم، يجب أن ننظف البيت قبل أن يأتي أبوكِ".
نظرت إلى نافذتها. الشوارع مبتلة والشتاء ما زال يخيم على سماء الحي، وكوب الشاي على الطاولة من الأمس، وهو لم يأت بعد. هل سيأتي ذاك اليوم حقاً الذي تعاتبه فيه وتحتضنه؟
1 مشاركة منتدى
فاطمة: وها قد حل الشتاء, أشواق مليباري | 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 14:50 1
لا أدري يا فاطمة إن كان سيأتي
لا أدري إن كان سيسمع عتابك
ولا أدري إن كان سيضحك ويحتضنك
حين تكبرين ستجدين أن "الأحلام التي لم تتحقق ليست مستحيلة!
إنها أقرب الآن
وقد صارت أقل أهمية
مما كانت عليه بالأمس!
(قليل من الشمس تكفي - ياسمينة صالح)"
شكرا أستاذ رامي
كل عام وأنت وأهلنا في الأردن بخير