غانية الوناس - الجزائر
نصيحة صديق
وقفتُ أمامَ مرآتِي الّتي تعرفُني وأعرفُها جيّدًا، لكنّني وجدتُها اليومَ مختلفةً، أو ربّما أنا منْ كنتُ مختلفةً. كُنتُ أكثرَ قُربًا إلى واقعٍ ما لمستُه قبل هذه اللّحظة. رأيتُ نفسي لأوّل مرةٍ من دُون قناعٍ، بذلك الوضوحِ المُبهر، بذاك الصفاءِ الآسرْ، رأيتُ صورةً ما اعتدتُ رُؤيتها من قبلُ أبدًا.
لمْ أكنْ سابقاً أرى هذا الجّمال المفعمَ بالحياة، فالجّمالُ لمْ يكنْ ليرتسمَ على مجرّد صفحةِ مرآةٍ مكبّلةٍ، مصفّدةٍ إلى حائطٍ ساكنٍ لا يتحركْ، فيما الصّورةُ بداخلها كانتْ تتّقدُ حياةً وتتوهّجُ أملاً، كأنّما هي شمسٌ في عزّ إشراقِها بعد ليلٍ طويلٍ.
رأيتُ عيْنيّ لأوّل مرّةٍ بلونهما البنيّ، كانتَا جميلتينِ بلونهمَا الحقيقيّ، جميلتينِ برغمِ مسحةِ الحزنِ الّتي كانتْ تطفُو على أهدابِهما بين الحينِ والآخر، كانَ حزنًا خفيًّا مُتخفيًّا، ما كان يرضى أبداً أن يظهرَ أمامِي بهذا الجّلاءِ قبلَ اليومْ، كنتُ دائمًا أعرفُ بوجودهِ أو هكذا خُيّل إلي، لكنّه ما كان يقبلُ أن يواجهني بهذا الصّمودِ كما يفعلُ اليومْ.
رأيتُ شَعرِي الّذي ما انتبهتُ يوماً إلى طولهِ الّذي أصبحَ عليه الآنْ، بلونِه الدّاكنِ، بذلك الألقِ الّذي كان يلّفُ خصلاتِه، كسحرٍ خجلٍ ينامُ على خدّ أميرة. كأنّي لم أعرفهُ قبل اليومِ، كأنّما هو شيءٌ جديدٌ يدخلُ حياتي على غفلةٍ منْ أزمنتِي.
رأيتُ ملامحَ وجهي لأوّل مرّةٍ، رأيتُ تلك البراءةَ النقيّةَ المتخفيّة خلفَ شخصيّةِ النّضوجِ المُهترئةِ، وذلك الهُدوءَ المليءَ بالانتظارِ، بكثيرٍ من الانتظار.
كلُّ هذا ليسَ إطراءً لنفسي أبداً، وليسَ تغزّلاً شّخصيّاً بذاتِي، ولا نوعًا من النّرجسيّة الباليةِ أبداً، لكنّني ببساطةٍ رأيتُ نفسِي لأوّلِ مرّةٍ أمام نفسِي ذاتها، وجهًا لوجهٍ من دون وسائطْ، بشكلٍ مغايرٍ لما اعتدتُ عليهِ وتعوّدتُ على فصولِهِ فيما مضى منْ عمري.
رأيتُ كلّ تفصيلةٍ وإنْ صغُرتْ تُحدّقُ بي، وأنا أُحدّقُ بها، كما يفعلُ كلُّ اثنينِ في بدايةِ التعارفِ بينهما. كنتُ أُحدّقُ بها، كأنّها كتابٌ مفتوحٌ أمامِي أُطالعهُ بإمعانٍ وأتفحّصُهُ بدّقةِ البَاحثِ النّشيطِ، وفُضولِ القارئِ الشّرهِ للقراءةِ والمُطالعةِ، كما لوْ كانتْ مخطوطاً قديمًا نادرًا وقع بين يديّ صّدفةً.
شعرتُ بالفّخرِ ربّما، شعورٌ قدْ يكونُ راودنِي، شعرتُ بالغُرورِ ربّما، لكنّهُ شعورٌ أيضاً راودنِي. أهذهِ أنا حقًّا ؟ أمْ أنّني أرى طيفًا يُداعبُ مُخيّلتِي؟ كنتُ أستمرُ بالّنظرِ فيما أفكارِي كانتْ تستمرُ بالتأكدِّ كلّ لحظةٍ من أنّ ما تراهُ ليس سرابًا بل كانَ واقعًا حيّاً.
لعلّي لم أعرف قبلَ اليومِ كيفَ يستطيعُ المرءُ أن يرى نفسهُ جميلاً، ليسَ شكلاً فحسبْ، فالشّكلُ يتغيّرُ إن نحنُ غيّرنا فيهِ بأيدينا كما نُريدُ ونرغبْ.
لكنّهُ الدّاخلُ بكلّ معناه؛ إنّها الرُّوحُ الّتي ترَى جمالها يفوقُ بكثيرٍ الشّكلَ الظاهر والوجه البارزَ أمام العين. أنا كنتُ أرى شيئًا جديدًا، كنتُ أرى بريقًا يجذِبنِي، يسحبنِي ويُغرينِي للاستمرار في النّظرِ دون مللْ، أنا لم أكنْ أحلمْ ولم أكنْ أهذِي أبدًا، إنّها أنا أجلْ، هذهِ أنا بكلّ ما أحملهُ بدّاخلِي، إنّها أنا حقاً. ما كنتُ أراهُ لم يكنْ صورةً فقطْ، بلْ روحاً كانتْ تتحرّكُ بالدّاخل، ذاتاً تتوَارَى خلفَ وجهِ مرآةْ.
لم يكنْ شيئاً صعبًا إدراكُ ذلكْ، لكنّنا في خضّمِ الحياةِ السّريعةِ الّتي بِتنَا نحياهَا وباتتْ تستوطنُ فينَا بمبادئِها السّخيفةِ تلكْ، صّرنا ننسَى أن نُحدّق جيّدًا في أنفسنا، صّرنا ننسَى حتّى لونَ أعيننَا، وبِتنَا نجهلُ تفاصيل كثيرةً ومهمّةً من وُجوهنَا وملاَمحنَا.
لقد كانتْ بحقّ تجربةً جميلةً ومثيرةً إلى حدٍّ كبيرْ، أن أكتشفَ نفسِي أمامَ نفسي دونَ الحاجة إلى جلسةِ طبيبٍ نفسي، أو تعويذةِ منجّمٍ أو قارئةِ فنجانٍ أو أيّ شيءِ أخرْ، فقطْ من خلالِ صورتِي في مرآة، وهي أيضاً كانتْ أفضلَ نّصيحةٍ تلقيتُها في حياتِي، كانتْ نّصيحةً من صّديقٍ، أو دّعونِي أسمّيها هديّةً من صديقْ.
وإن كنتُ في هذهِ اللّحظاتِ بالذّات بحاجةٍ إلى شيءٍ ما فهو الحاجةُ إلى شكرِ هذا الصّديقِ. شكراً جزيلاً على هديّته تلكْ، وامتناناً أكبر له على نّصيحتهِ الموفّقةِ تلكْ. فهلاّ أخذتمْ أنتمْ أيضاً بنّصيحةِ صّديقِي؟ وهلاّ حاولتمْ القيّام بتجربتي ؟ من يدري؟ لعلّكم تحظونَ بفرصةِ اكتشافِ أنفسكمْ كمَا فعلتُ أنا، ولعلّي أقرأُ ذات يومٍ لأحدكمْ شيئًا ما من قبيل ما كتبتُ هُنا.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
نصيحة صديق, هدى الدهان | 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 23:27 1
غالبا مانرى وجوهنا باعينهم هم وعندما يرحلون ،نحدق في وجوهنا بالمراة ونراها لاول مرة على هذا الصفاء والجمال ونتساءل،عجيب ...لماذا رحلوا عنا.نكتشف الاخر في ذاتنا في المراة والقلم ...فقط حين ترحل اليد التي تخنقنا
1. نصيحة صديق, 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012, 10:30, ::::: غانية الوناس.الجزائر
لذلك تحديداً علينا أن نجرب ولو لمرة أن نرى أنفسنا بأعيننا نحنْ، دون الحاجة لأحدْ، فقطْ نحنُ وأنفسنا ومرآةٌ شاهدةٌ على تلك المواجهة...شيءٌ مختلفٌ ولا شكّ.
شكراً لمروركِ الجميلْ عزيزتِي هدى، سعيدة جداً بذلك..
نصيحة صديق, أشواق مليباري\ السعودية | 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 04:58 2
وجوهنا كتب مهملة تنتظرنا لنقرأها، تنتظر طويلا في بعض الأحيان..
نص رائع، ونفس صادقة شفافة.
كل عام وأنت وأهلنا في الجزائر بخير
1. نصيحة صديق, 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012, 10:26, ::::: غانية الوناس.الجزائر
نعتقدُ دائماً أنه على أحد ما أن يخبرنا بأننا جميلونْ،لكنّنا ننسى أن هناك في داخلنا أشياءَ أجملْ، نحتاج فقط أن نمتلك الفوة والرعبة لاكتشافها بأنفسنا،
أنا أحببتُ أن أجرّب الأمرْ،فأحببتُ كثيراً التجربة..
شكراً لمروكِ الرقيقْ أشواق العزيزة..
وأنتِ بألف خيرْ يا ربّ..
نصيحة صديق, مهند النابلسي | 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 05:27 3
فكرة المقال رائعة وخاصة مع اللوحة الساحرة للفنان الفرنسي ، ولكن الكاتبة سعت بسذاجة ومباشرة للتغزل بالذات وبنرجسية واضحة وأن كان نفيهالذلك غير مقنع الا لهاشخصيا ! كان يمكن ان تستغل موضوع اللوحة فتخرج بنص مجازي حافل بالسحر والغموض وكذلك بالمواجهة والمكاشفة بدلا من هذا الانشاء المدرسي الصريح والجميل !
1. نصيحة صديق, 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012, 09:03, ::::: عدلي الهواري
توضيح من هيئة التحرير: نص "نصيحة صديق" لم يكتب من وحي الصورة المرفقة معه. اللوحة أضافتها هيئة التحرير عند تجهيز النص للنشر. نضيف صورا إلى النصوص أحيانا عندما نشعر أن فعل ذلك يتماشى مع النص.
2. نصيحة صديق, 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012, 10:15, ::::: غانية الوناس.الجزائر
أستاذ مهند،
ليست سذاجةً أن أحاول اكتشافَ داخِلي من خلالِ نصٍّ أكتبه،أو من خلالِ مواجهةٍ أمام مرآة،
حتّى وإن كان إنشاءً مدرسياً،فقد أحببتُ تلك التجربة ،وأحببتُ أن أعبّر عنها بطريقتِي وبأسلوبِي.وليستْ غروراً لأن الغرورَ لا يأتِي بعفوية مطلقاً.
وكما تفضل الاستاذ عدلي بالتوضيحْ، اللوحة كانت إضافة من طرفهم،وقد أحببتُ تلك الإضافة..
سعيدةٌ جداً لأنّ إنشائِي المدرسي قد وصلَتْ فكرتهُ ولو للقليلِ من الناسْ..
شكراً لمرورك وأستفيد كلّ مرة من نقدكْ..شكراً أستاذْ.
3. نصيحة صديق, 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012, 10:19, ::::: غانية الوناس.الجزائر
شكراً على التوضيح أستاذي الكريم،
وشكراً أيضاً على الصورة،فقد كانت فكرة جميلة،أضافت شيئاً من الجمالِ إلى النّص.
شكراً..تحياتِي.
نصيحة صديق, زهرة-ي/الجزائر | 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 15:58 4
غانية الوناس
هو الحزن.. حين يغزو النفس البشرية و يتغلغل في دواخلها يُزهد صاحبها في الحياة، و يجعله يعزف حتى عن النظر الى نفسه في مرآة، فيغفو و يغفل عن نفسه، و يعطيه احساس بأنه كبر و نضج أكثر من سنه بكثير.
حين يتبدد الحزن بعامل الزمن، يصحو الانسان لنفسه و يبدأ في اكتشافها من جديد.
نص جميل و موفق في وصف الحالة بكل تفاصيلها الملموسة و المحسوسة.
من جهة أخرى.. جريت على المرآة أنظر الى وجهي و أتأمل..لكأنني أرى نفسي لأول مرة..
شكرا لك عزيزتي غانية ولصديقك على الهدية، تحياتي و أمنياتي و مودتي.