محمد صالح البحر - مصر
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت
تفتح وعينا، ومارسنا فعل الكتابة في ظل إعلان سياسي رسمي بانتهاء مرحلة الكفاح الوطني ضد المستعمر المباشر، لكننا مع الوقت اكتشفنا أن الواقع ـ والوقائع أيضاًـ تؤكد عكس ذلك تماماً، بما يعني قدرة فكرة الاستعمار نفسها علي التخفي من خلال الانتقال من المباشر إلي غير المباشر، وبما يؤكد تمركزها في فكرة السُلطة التي تناصب أحلامنا العداء، لذا يظل الاستعمار قائماً طالما أن الأعداء ما زالوا يمارسون عداءهم ضدنا.
هكذا كُتب علينا أن نولد، وأن يولد مشروعنا الإبداعي، في ظل غياب أي مشروع سياسي أو أيديولوجي، فالمشروع الرسمي سقط حينما فشل أولاً في تحقيق الديمقراطية وحلم القومية العربية ثم هزيمته التامة في النكسة التي أرجعتنا مرة أخرى للنقطة صفر، وفشل ثانياً في تحقيق وعوده بالسلام والرخاء أو حتى المستوي الاقتصادي المعقول، بل أغرقنا في الفقر والجهل والمرض، فيما استأثر هو بالثروة والسلطة مشهراً في وجوهنا سيف العداء وإرادة التوريث غير الشرعية، حتى سقط علي فراغ حقيقي ما زلنا نتخبط في متاهاته المتشابكة.
أما المشروع الأيديولوجي المعارض فغير موجود حيث لا تأثير له، وإن وجد فهو في شقه الأول اليساري هش وممزق وأكثر فشلاً من المشروع السياسي الرسمي، إما لسقوط نظريته الفكرية في مسقط رأسها وانتهاء خطابها الزاعق، وإما بتبعيته للنظام الرسمي عندما طال عليه الأمد، وأخيراً بسبب تقوقعه علي ذاته الفكرية المتعالية، وعدم قدرة كوادره علي تقديم النموذج المقبول اجتماعيا، وبالتالي انفصاله عن الجمهور، أما الشق الثاني فيعتمد خطاباً سلفياً عاجزاً عن الإقناع، حياته الحقيقية ليست الآن بل تأتي بعد الموت، وممارساته الواقعية تتعارض تماماً مع كل ما هو مدني وإنساني، تتعارض مع روح العصر التي نطمح في اللحاق بركب حضارتها الآنية التي تؤهلنا لمعرفة اللحظة التاريخية التي نعيشها، ونطمح إلي تحقيق ذواتنا من خلالها.
هذا قدرنا إذن، وقدر مشروعنا الإبداعي، لذلك نتخذ منه وسيلة لمعرفة ذواتنا واكتشاف العالم. لقد أتاح لنا سقوط المشروعات الكبرى والأيديولوجيات المكتملة الفرصة كي تستطيع نصوصنا الإبداعية أن تحاول الكشف عن أيديولوجية الواقع والذات في تناقضهما وتشتتهما دونما تزويق أو تجميل، ودونما إدانة أو ميل، لذا تأتي نصوصنا دائماً فضحاً للواقع وللذات معاً، في محاولة حثيثة للتعرف عليهما بشكل حقيقي ودقيق ومحايد داخل حياة فنية متخيلة ومتجاوزة للواقع، طالما أن الواقع قد فرض علينا حياة لا نملك فيها الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم، لذلك نحن نكتب حياتنا كما نود أن نعيشها، لا كما نعيشها فعلاً كما فعل السابقون، نكتب لنغوص في أسطورة الواقع في انتظار أن نصنع أسطورتنا الخاصة.
نحن لا نكتب لكي نصبح كُتاباً مشهورين، فالفراشات الغبية فقط هي التي تلهث باتجاه الضوء، ونحن أيضاً لا نكتب لكي نصبح كُتاباً كباراً أو عظماء، فليس من المنطقي أن يوجد كبير أو عظيم في لحظة زمنية اعتلاها الصغار، وتصدر شاشتها الدميم والقبيح والألدغ. وأخيراً نحن لا نكتب للتاريخ لأن الأزمنة الرديئة تسقط دائماً من ذاكرته، ولأن مَنْ يسجله الآن هم مَنْ اعتلوا الزمن، وتصدروا شاشته، إنما نكتب في سبيل انتظار معرفتنا لذواتنا وللعالم الذي نوجد فيه الآن.
الكتابة بالنسبة لنا هي البديل الحقيقي عن الحياة التي لا نملك أن نعيشها بشكل حقيقي، وهي في ذات الوقت البديل الحقيقي عن الموت والتطرف، اللذين إن تخلينا عن فعل كتابتنا فإننا واقعون فيهما لا محالة، ولسوف يجثمان علي صدورنا مثل جبل لا حدود لارتفاعه ولا لمنتهاه، ويمتدان إلي رقابنا مثل حبل مشنقة يستلذ بإحكام قبضته حتى سقوط الرأس عن الجسد، وسقوط الجسد في الحُفرة المعتمة.
◄ محمد صالح البحر
▼ موضوعاتي
6 مشاركة منتدى
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, أمين عبدالمنعم | 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 07:23 1
رائع ... ولكني أريد المحلة الورقية... أم أنها الكترونيه فقط.
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, الكاتب / محمود عبدالستار عطية - مصر | 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 08:47 2
يتناول الكاتب صالح البحر دراسة مسألة السقوط الأيدولوجى للنظم السياسية للغرب المستعمر أو للإتحاد السوفيتى بشيوعيته ومن ثم السقوط التبعى لليسار المصرى داخل التكوين السياسي للمجتمع المصرى وضعف دوره فى مقاومة النظام التابع الذى تمكنت منه ترسانة الإستعمار الغير مباشر بمنتهى السهولة لتموت القومية العربية والإستقلال الحقيقى وتظهر أفكار كالتوريث وما شابه مما تنتظره مزبلة التاريخ ..التاريخ الذى قطعاً لا يعتد بالنهج السلفى فى تناول معطيات الحياة ؛التى هى لإقامة الحياة وليس لجلب مكاسب الآخرة فقط .
وسط كل هذه الغوغائية والعبثية وعدم الوضوح لا مفر سوى الكتابة ،لكن عن ماذا ..هذه هى فرضية المقال ،ما الحقيقى الذى يمكن أن نمسك بلحظته ونحاول اعادة صياغته أو تناوله كفن ..حيث اللا لحظة ؛علينا أن نعترف المجتمع ميت ..المجتمع بعناصره وأيدولوجياته تمكن المستعمر الغير مباشر بإستخدام النظم المتتالية من التأكيد على أنه ميت ..الحقيقة التى يجب استخلاصها من هذا المقال- من وجهةنظرى - أن شهداء ثورة يناير المصرية هم شخصيات روائية صعدت لعقل مبدعها ليعيد صياغة أدوارها أو ليعيد الرسم التكنيكى للمجتمع المفترض واقعيته.
1. عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 10:36, ::::: محمد صالح البحر ـــــ مصر
تحليل رائع يا صديقي المبدع الجميل/ محمود عبد الستار، ويرتقي لأن يكون نصاً موازياً ومستقلاً بذاته المتفردة، مودتي الخالصة
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, مادونا عسكر/ لبنان | 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 08:59 3
أحسنت أستاذ محمد وأبدعت،
مقالتك مؤثّرة وتلمس القلب، ولكن لا تنسَ أستاذي أنّ للكلمة نفوذ قويّ، ولكنّ قوّته ناعمة وتتسرّب الى النّفس بهدوء لتحقّق مآربها.
فلنستمرّ في الكتابة لنغيّر معالم الكون ولنتشل الحياة من أعماق الموت
محبّتي واحترامي
1. عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 10:29, ::::: محمد صالح البحر ـــــ مصر
شكرا أستاذة. مادونا عسكر علي إعجابك وكلماتك، وبالتأكيد نحن مستمرون في فعل الكتابة إيمانا بقدرتها علي التأثير والتغيير وانتشال الحياة، محبتي وتقديري لكِ
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, محمد صالح البحر ـــــ مصر | 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 11:51 4
شكرا أ. أمين عبد المنعم، سعيد بأن المقال نال إعجابك
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, فراس حج محمد/ فلسطين | 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 05:37 5
أخي محمد صالح البحر، كل عام وأنت بألف خير، وألق الكتابة بألف توهج.
لقد وصفت وحللت وعاينت واقعا وأحلاما مقتولة، وتشبثت بإصرار على أن نقاوم كل العبث الناجز الناخر في حياتنا، وحقا جميل قولك وصادق: "إنما نكتب في سبيل انتظار معرفتنا لذواتنا وللعالم الذي نوجد فيه الآن".
عندما تكون الكتابة بديلا عن الموت, محمد صالح البحر ـــــ مصر | 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 14:12 6
أخي العزيز فراس حج محمد، ممتن لكلماتك ومشاعرك الصادقة، ولعل انتظارنا للمعرفة لا يطول كثيرا، مودتي