فريد أمعضشو - المغرب
الوافـي: كتابُ تأريخ أدبيّ وتراجِـم ونقـد
إنه لَمِنْ غير المُسْتساغ التصدّي لدراسة الأدب المغربي الحديث دون الوقوف عند أسماء بعَيْنِها، تعدّ منارات علمية وقامات سامقة في هذا الأدب، منها المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، لا التطواني؛ كما يزعم بعضُهم (كالأستاذ الحسن الشاهدي)، الذي كانت له أيادٍ وأفضال كثيرة على التراث المغربي، بل الإسلامي ككل، من حيث التعريفُ به وتحقيقه ودراسته. ورغم ذلك، فإن الكثرة الكاثرة منّا لا تكاد تعرف شيئاً عن هذا الرجل؛ الأمرُ الذي يدْعُونا، ها هنا، إلى التعريف به، ولوْ في نبذة موجَزة.
ابنُ تاويت وُلد في قرية جَبْليّة تسمى "نوينويش"، قرب طنجة، عام 1918. ودرس في بلده على أيدي عدد من مشايخ العلم، ولاسيما في القرويين بفاس، بعد أن حفظ القرآن الكريم، ثم انتقل –في أوائل الأربعينيات– إلى القاهرة التي تخَرَّج –بعد سنوات من التحصيل المعرفي– من جامعتها الشهيرة (جامعة فؤاد الأول سابقاً)، قبل أن يوليَ وجهه شطر تركيا، التي عمِل في جامعاتها أستاذاً، ولاسيما في أنقرة وإستطنبول، ردحاً غير يسير من الزمن، إلى أن وافتْه المنيّة هناك، في 29 دجنبر 1974.
إن هذه المسيرة التدريسية الطويلة، التي قضاها ابن تاويت في تركيا، جعلت مسؤولي كلية علوم الدين بأنقرة يفكّرون في تكريمه، وهو ما ترْجَموه، فعلاً، بتلك الندوة الدَّوْلية التي نظموها، في أواسط أكتوبر 2011، تحت شعار "المخطوطات والتحقيق العلمي"؛ تكريماً للرجل، وعِرْفاناً بعطائه وبمكانته وبإسهامه البارز في تحقيق المخطوط العربي، وفي خدمة الثقافة العربية بصفة عامة.
وشارك في هذا المُلتقى باحثون من تركيا والمغرب والعالمين العربي والإسلامي، أشادوا جميعاً بإنتاج الرجل وبما قدّمه لتراثنا في المغرب والمشرق معاً. وكان من الحاضرين أحمد شوقي بينبين؛ مدير الخزانة الملكية، الذي ذكرَ، في كلمةٍ له بالمناسبة أن ابن تاويت "كان وسيظلّ مَفخرة للمغرب والمغاربة".
لقد خلّف ابن تاويت عدداً وافراً من الكتابات والإنتاجات في المجالات الأدبية واللغوية والتاريخية والشرعية والفكرية. ولكنْ ما هو بين أيدينا، من ذلك، قليل، وأغلب ذلك النَّتاج ما يزال مخطوطاً يَنتظر مَنْ يبادر بنفْض الغبار عنه وإخراجه للناس. كما أن بعض هذا المخطوط معروف، وأكثره في حاجة إلى مَنْ يدلُّ الدارسين عليه أملاً في أنْ يَخُصّوه ببعضٍ من اهتمامهم العلميِّ[1].
وكثيرٌ من الكتابات المذكورة عبارة عن مقالات، نُشرت في صُحف وطنية وعربية؛ بحيث إنها تفوق المائتيْ مقالة، في الأدب وعلوم اللغة والتاريخ والدراسات القرآنية والحَديثية ونحْوها. وبعضُها ترجمات لنصوص من لغات عدة كان يُتقنها الرجل. وكانت له، أيضاً، إبداعات في القصة والشعر. ولا يَخْفى أن عدداً من هذه النصوص المقالية كانت، في الأصل، أحاديثَ قدّمها على أثير الإذاعة الوطنية بالرباط، والإذاعة الجهوية بكل من تطوان وفاس.
ومن الأعمال التي حقّقها ابن تاويت نذكر: "التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً"، و"شفاء السائل لتهذيب المسائل" (وهما معاً لابن خلدون الحضرمي)، و"جذوة المقتبس" للحميدي، علاوة على كتب أخرى للقاضي عياض وأبي حيان التوحيدي والبيروني وآخرِين.
ولكنْ يظل كتابه "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى" أحد أشهر كتبه المطبوعة، وإنْ لم نقل أشهرها على الإطلاق، حاول فيه أن يؤرِّخ للأدب المغربي ويتتبّع تطوره، وما اعتراه من تبدل وتحول، من أقدم عصوره إلى أواسط القرن العشرين. وعليه، فقد عُرف الكتاب، لدى جمهور الدارسين، بأنه كتابُ تأريخ أدبي أساساً، واستقرّت هذه الفكرة في أذهان الطلاب والباحثين، وقلَّ مَنْ يلتفت إلى جوانبَ أخرى فيه، من غير التأريخ المُومَإ إليه. ولهذا السبب، ارتأينا تحريرَ هذه الدراسة في بيان مسألة مهمة تخُصّ "الوافي"، وهي أنه غيرُ مَقصور على التأريخ للأدب المغربي، بل إنه –فضلاً عن ذلك– تأليفٌ يحْفل بالتراجم الأدبية، وينطوي على نظرات نقدية عديدة.
وللتدليل على هذه المسألة، سنكتفي بتناول الجزء الثالث، وهو الأخير، من "الوافي" من الزوايا الثلاث جميعِها، على أساس أن ما سنقوله عنه ينسحبُ على جزأيه الآخَرَيْن تماماً. وقد صدر هذا الجزءُ عن دار الثقافة، بالدار البيضاء، عام 1984، في حوالي 360 صفحة من القِطْع المتوسط. ويقع في بابيْن اثنين، في كلٍّ منهما فصلان مترابطان. تحدث المرحوم محمد بن تاويت الطنجي في أول البابيْن، وهو السادس في الكتاب ككلّ، عن الحركة الأدبية في العصر السعدي الذي كان عصر تجديد شُمولي. يقول:
"يعتبر هذا العصرُ عهدَ تجديدٍ للمغرب في كل شيء .. في الحُكم والسيادة الممتدّة، في الديبلوماسية والعلاقات الدَّولية مع المشرق العربي والإسلامي والغرب المسيحي والإسلامي كذلك، في الشمال الإفريقي والجنوب الشرقي الأوربي، حيث الأتراكُ فيهما معاً، وفي الحضارة وتنظيم الجيش وإحداث دواليب الصناعة، وتسيير أساطيل التجارة، وفي الآداب"[2].
وأوضح المؤلِّف نفسُه أن الأدب المغربي تنفَّسَ في كنَف الدولة السعدية نَفَساً جديداً، وانبعث بقوة بعد سنوات من الضعف والفتور في عصر بني وَطّاس. يقول: "ولأول قيام الدولة في مستهلّ النصف الثاني من القرن العاشر، وكأنها على ميعاد مع الأدب، أو أنها قالت له: انهضْ من جَدَثك فقد طال المُكوث! فقال لها: لبيك لبيك ها أنا ذا قوياً كما تريدين سوياً، كما خلقت الخلقة الأولى"[3]. معنى هذا أنه كان ثمة جمود وتدهور أدبيان، فلما جاء السعديون قاموا بإحياء الأدب المغربي وبعْثه قوياً من جديد.
وقد تكررت هذه الحالُ مع أدب عصر النهضة؛ إذ يكاد يتفق النقاد والدارسون على أن الأدب العربي قد دخل مرحلةً من الركود والتصنع خلال ما أسْمَوْه "عصر الانحطاط"، وبمجيء الأدباء النهضويين، أمثال البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، حاولوا إحياء صورة الأدب العربي القديم وبعثها والنَّظْم على هَدْي شعراء بني العبّاس الفطاحل. وهنا، يمكننا أن نطرح سؤالين مهمّيْن، كالآتي:
= هل كان ثمة، فعلاً، ركود أدبي خلال الحقبة الوطّاسية؟
= وهل الزّعْم القائل بتدهور الأدب العربي وجموده خلال ما اصطلح على تسميته بـ"عصر الانحطاط" صحيح؟
وكيفما كان الحال، فالأدب المغربي قد ازدهر في العصر السعدي، وانتعش بصورة لافتة للانتباه، لاسيما خلال فترة حُكم أحمد المنصور الذي كان واسطة العقد بالنسبة إلى السلاطين السعديين. يقول ابنُ تاويت: "مهما يكن، فإن عصر المنصور الذهبي كان في أدبه ذهبياً بحقّ، وكان المنصور نفسُه على حظّ كبير في الأدب، كما كان من أولئك العلماء المُشاركين والأدباء الماهرين. ومسائله العلمية وأشعاره مما يتحلى به ملوكنا الأماثل"[4]. وقد سبق أن قال صاحب "النبوغ المغربي"، رحمه الله تعالى، في هذا المَساق: "بالفعل، فما جاءت أيام المنصور الذهبي حتى عاد لدولة الأدب سالفُ مجْدها وسابق عِزّها، فصِرْنا نرى أفواج الشعراء تمُوج في بلاط ذلك السلطان وبلغاء الكتاب يُغَصُّ بهم ديوانُه"[5]. ويمكن أن نُجمل العوامل التي كانت وراء ازدهار الأدب السعدي في أمريْن اثنين، هما:
= تشجيع السلاطين والأمراء والوزراء وغيرهم من كبار رجالات الدولة السعدية للأدب والأدباء؛ إذ كانوا يغدقون النِّعم، ويجْزلون العطايا للشعراء والكتاب، ويقرّبونهم إليهم إيماناً منهم بقوة الكلمة وخطورتها التي تفوق، أحياناً، قوة السيف. بل إن كثيراً من رجالات الدولة كانوا شعراء وأدباء؛ من مثل السلطان أحمد المنصور الذهبي، وعبد العزيز الفشتالي الذي كان، بالإضافة إلى كونه شاعراً، وزيراً للقلم، والأمير زيدان بن المنصور.
= أثر الزاوية الدّلائية في الحياة الأدبية. فمن المعلوم أن هذه الزاوية، التي تَخَرَّج منها عددٌ من العلماء؛ كاليوسي (ت1102هـ)، قد أسهمت إسهاماً كبيراً في نشْر الثقافة العربية والفكر الإسلامي، وإذاعة الأدب المغربي. وكانت لها أيضاً خطورتها على الصعيد السياسي، مما جعل الأشراف السعديين يقفون في وجهها مراراً دون أن يتمكّنوا من القضاء عليها بصفة نهائية. وقد ألف د. محمد حجي (ت2003) كتاباً قيّماً في هذا الصدد، أسْماه "الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي"[6]، حاول فيه أن يلقيَ الأضواء على هذه الزاوية العريقة ونشأتها وتطورها وآثارها في نشْر الثقافة الدينية، وتنشيط الحركة العلمية والأدبية، وكذا الخطر السياسي الذي مثلته في ذلك الإبّان. وقد ظلت هذه الزاوية تمارس نشاطها، وتُخرّج العلماء والأدباء إلى أن قضى عليها المولى الرشيد.
أوْمَأنا سابقاً إلى أن ابن تاويت قسّم الباب الخاص بالعصر السعدي إلى فصلين مترابطين. تحدث في الأول عن الحركة الأدبية في المغرب منذ قيام الدولة السعدية إلى حدود وفاة أبي العباس أحمد المنصور سنة 1012هـ، على حين واصل في الفصل الثاني الحديث عن هذه الحركة، وذلك منذ وفاة المنصور واصطراع بَنيه الثلاثة على كرسي الحكم إلى غاية سقوط دولة السعديين سنة 1069هـ.
لقد أفرد الأستاذ ابن تاويت رحمه الله الباب الثاني من الجزء الثالث، وهو السابع/الأخير في الوافي كلِّه، للحديث عن الأدب المغربي منذ قيام الدولة العَلَوية إلى حدود استقلال المغرب. وقد قسّمه إلى فصلين متكاملين؛ تتبَّع في أولهما الحركة الأدبية في المغرب مُذْ قيام الحُكم العلوي إلى غاية فرض الحماية سنة 1912، على حين تناول في ثانيهما الأدب المغربي خلال عهد الحماية (1912–1956م). والمُلاحَظ، بصفة عامة، أن الأدب المغربي خلال العصر العلوي كان يَنُوسُ بين الازدهار والانحدار، أو بين القوة والضعف. فمع قيام الدولة العلوية، "كانت الحركة الفكرية والأدبية على أشُدِّها"[7].
وقد اشتهر المولى الرشيد بتشجيعه للعلماء والشعراء، والإحسان إليهم. كما اشتهر المولى إسماعيل، أيضاً، بحُبه للعلم والفقه، واهتمامه بالشعر والفن. ولكن بعد وفاته، عرف المغرب فِتناً ونكسات عدة انعكست سَلباً على الحياة الأدبية. يقول ابن تاويت: "وهكذا كان عصر إسماعيل عصر انبعاث عام في العلوم والفنون، ولو أنه لا يصل إلى عصر المنصور كما تقدم. وكان المنتَظَر منه أن يزداد ازدهاراً واطّراداً فيما بعدُ. لكن –للأسف– حصل بعد وفاة إسماعيل ما حصل بعد وفاة المنصور من نُشوب الحروب وقيام الفتن بين أولاده؛ مما عوّق الحركة الأدبية، وكاد الأمر يفضي إلى الهاوية. فلم نجد فيما بعدَ وفاته من أدبائنا إلا بعض الفقهاء المُشاركين في الثقافة الدينية وكان منها الأدب تبعاً لها"[8].
وقد استمر الأدب على هذه الصورة إلى أنْ جاء السلطان سيدي محمد بن عبد الله، فبدأنا نلمس نهضة على مستوى الأدب والشعر، إلى آخره. وعندما نلقي نظرةً على الأدب المغربي في فترة الحماية، فإننا نُلفيه متّسماً ببعض السمات؛ فخلال هذه الفترة ازدهر الأدب ازدهاراً واضحاً، وكثر عدد الأدباء، واصطبغ الشعر المغربي بالصبغة الوطنية؛ إذ صار خَديماً للقضية الوطنية، مدافعاً عن الوطن، محتجّاً على المستعمِر الغاشم. وهذا ما نقرأه مثلاً في الكثير من أشعار محمد علال الفاسي ومحمد المكّي الناصري وعبد الملك البلغيثي ونحوهم.
وللدكتور إبراهيم السولامي دراسة قيّمة في هذا الاتجاه عنوانُها "الشعر الوطني المغربي على عهد الحماية". ثم إن شعراء عهد الحماية كانوا كثيري الدعوة إلى الإصلاح والتجديد، وكان معظمهم يجمع بين الثقافة العربية والثقافة الغربية (مثل جعفر الناصري وأخيه محمد). ولم يغفل هؤلاء الشعراء، أيضاً، عنْ طرْق القضايا القومية التي تهمّ الأمة العربية والإسلامية ككلّ.
وختم ابن تاويت وافيه بخلاصة جامعة مكثفة، استعرض فيها، بإيجاز، مسيرة الأدب العربي في المغرب منذ تحقق الفتح الإسلامي له إلى غاية منتصف القرن المنصرم. وأكد فيها أن للأدب المغربي جذوراً تضرب في عُمق التاريخ المغربي الإسلامي، وأن الأدب لم ينقطع في يوم من الأيام، وإنْ تعاقبت عليه فترات من القوة والضعف.
والتزاماً من الأستاذ ابن تاويت بأعراف البحث العلمي الرصين، وضع في آخر كتابه فهرساً لمحتوياته. ولا شك في أن "الفهرس" (catalogue)، في الدرس الحديث، يعد واحداً من النصوص المُوازية (paratextes) المهمة؛ لأنه يُعْطيك صورة عن متن الكتاب كله، ويَجْعلك عارفاً به وأنت لمْ تقرأه. والملاحظ أن ثمة بعض الأخطاء في فهرس الجزء الثالث من الوافي خاصة، بحيث لم يذكر ابن تاويت –ضمن محتويات فهرسه– أديبيْن؛ هما أحمد دادوش[9]، والطيب بن إبراهيم بسير الأندلسي المكناسي[10].
كما أنه أورد في هذا الفهرس أديباً اسمُه "أحمد بن المواز"، وذكر بجانبه الصفحة التي يتحدث فيها عنه في متن الكتاب، وعندما عُدْنا إلى المتن والصفحة المُشار إليها في الفهرس، لم نجد حديثاً عن أديب اسمه المواز إطلاقاً. وربما يعزى السبب في ذلك إلى النسيان أو إلى ظروف الطبع!
تلكم، إذاً، قراءة سريعة لمحتويات الجزء الأخير من الوافي، وقد ركّزتْ على الجانب الأدبي دون الجوانب الأخراة. ولا بأس من أن نذكِّر –في كلمة مقتضَبَة– بالمنهاج المُتّبَع في الوافي.
لقد جاء الخطاب المقدماتي للوافي غنياً في معلوماته وعناصره. بحيث تطرق فيه ابن تاويت إلى عدد من المسائل، ولعل أبرزها مسألة المنهج. فقد أشار الباحثُ، في جانبٍ من ذلك الخطاب، إلى أنه سيتبع المنهج التاريخي في دراسة الأدب المغربي[11]، نظراً إلى فعّاليته وعلميته. يقول:
"إن المنهج التاريخي، في جلّ الدراسات، خصوصاً النظرية منها، سليمٌ قويم، دعا إليه جمْهَرَة من الفلاسفة في الحديث والقديم، واستعملوه في دراساتهم الفلسفية، فأتى بالنتيجة المطلوبة الصحيحة التي لا تحتمل الجدال والتشكك فيها؛ لأنها مبنية على مقدمات"[12].
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المنهج[13] قد ظهر، في بادئ الأمر، في الديار الغربية، وبلغ أوْجَه على أيدي رواده هناك، أمثال هيبوليت تين وسانت بوﭫ. ثم أخذه فيما بعد العربُ، فطبَّقوه في العديد من الدراسات والأبحاث؛ كما عند جورجي زيدان وطه حسين.
وممّن طبّقوا هذا المنهج في المغرب نجد العلامة عبد الله گنون (ت1989م) في "النبوغ"، ومحمد بن تاويت في "الوافي". والواقع أن الإقبال على توظيف هذا المنهج في دراسة الأدب كان واضحاً، لدى المغاربة والمشارقة على السواء، طوالَ عقود من القرن المنصرم؛ لإيمانهم بنجاعته في فهْم الظاهرة المدروسة، ومعالجتها، وتعقب تطورها. وقد أشار إلى ذلك مصطفى الشليح قائلاً:
"ليس من دراسةٍ أنجزت حول الأدب العربي عموماً، والمغربي منه خصوصاً، إلا وتمثلت المنهج التاريخي، ووظفته –إنْ رهواً أو اشتداداً– متوسِّلةً بمعطياته لفهم الأدب، ودراسة طبيعته ومكوّناته. وتلك الدراساتُ توزّعت بين ما كان المنهج التاريخي هو المعوّل عليه، وما كان ذلك المنهج طرفاً من منهج تكاملي اسْتُعين به لتحقيق نظرة عامة ودراسة شُمولية. وما دام كتاب "الوافي" يدرس "الأدب العربي في المغرب الأقصى"، وما دام تاريخ المغرب قد شهد فجوات أجْمَعَ معظم دارسيه على أنها أثّرت في أدبه، فإن المنهج الألْيَق لدراسته وتناوله –حسب دَعْواهم– هو المنهج التاريخي"[14].
إذاً، فالمنهجُ الذي صرّح ابن تاويت بتبنّيه في وافيه هو المنهج التاريخي .. وقد قام، فعلاً، بتقسيم الأدب المغربي إلى عصور أدبية متتالية تَبَعاً للكِيانات السياسية التي تعاقبت على حُكم المغرب. وهذا ليس معناه أن هذه العصور مستقلة بعضها عن بعض، وأنّ بينها حدوداً فاصلة حاسمة، بل إنها عصورٌ مترابطة ومتداخلة. يقول ابن تاويت في خاتمة "الوافي": "إن تلك العصور والأبواب لم تكن بينها فواصل حاتمة، بل إن كثيراً من الرجال تعدّى صفة الأديب، كما أن كثيراً من الظواهر كان بعضها يتداخل في الآخر أو يغيم فيه. ولهذا كانت تلك الفواصل تقريبية"[15].
والحق أن ثمة تعدداً منهجاً في "الوافي". فإذا كان ابن تاويت قد صرّح بمنهجٍ محددٍ، فإن الذي يقرأ "الوافي" كلَّه يجد أنه قد استثمر مناهج أخرى، لاسيما أثناء إيراد النصوص الشعرية والنثرية وتحليلها. ويمكن أن نُبرز هذه المناهج في الآتي:
= المنهج الانتقائي: وهو كثير الحضور في "الوافي" بأجزائه الثلاثة، ويتجلى في قيام ابن تاويت باختيار نصوص شعرية ونثرية بعيْنِها، والوقوف عند أدباء معيّنين.
= المنهج الوصفي: وقد وظفه ابن تاويت في وصف عدد من النصوص والمقتطفات الأدبية، وشرْحها شرحاً يقتصر على تحويل معانيها إلى فِقرات نثرية.
= المنهج التحليلي النقدي: وهو منهج مهمّ جدا اتكأ عليه ابن تاويت في تحليل عدد كبير من المختارات الأدبية وتفسيرها ونقدها إنْ على مستوى المعنى أو المبنى.
بعد هذه الإيماءة إلى قضية المنهج الموظَّف، نعود إلى متْن الكتاب موضوعِ القراءة، فنقول إنه كتابُ تأريخ وتراجم أدبية ونقد. وهذه الحقيقةُ يمكن أن يلمَسَها كلُّ مَنْ قرأ هذا الكتاب قراءة فاحصة ومتأنية. ولتوضيح الحقيقة المذكورة، ارتأيْنا أن نجزّئها إلى وَحْداتها الرئيسة، ثم نتناول كلَّ واحدة منها على حدة بالدرس والتحليل مدعِّمين ذلك بالشاهد والدليل. وهكذا قرّرْنا تخصيصَ مبحث مستقل لكل وحدة على النحْو الآتي:
المبحث الأول: الوافي بوصفه كتابَ تأريخ.
يرمي "الوافي"، بصفة عامة، إلى تقديم صورة وافية عن الحياة الأدبية في المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي للمنطقة إلى مشارف الستينيات من القرن المنصرم، وهو بذلك يُسْهِمُ في التأريخ للأدب العربي المغربي الذي شهِدَ انطلاقته الأولى –حسب ابن تاويت– مع أواخر القرن الثاني للهجرة أو أوائل القرن الهجري الثالث. والواقع أن هذا التحديدَ الذي ارتآه ابن تاويت –ومعه آخرون– في حاجة إلى بيان ونظر. ذلك بأن الأدب المغربي قد عرف بدايته الحقيقية –في نظرنا– مع خطبة طارق بن زياد التي ألقاها في أجْناده عقب اجتيازهم المضيقَ إلى العدْوَة الأندلسية فاتحين عامَ 92 هـ.
لقد أثيرت شكوكٌ كثيرة في القديم والحديث حول نسبة هذه الخطبة إلى طارق. بحيث يَنفي أحدُ الباحثين نسبة هذه الخطبة إلى القائد البربري طارق بن زياد، زاعماً أن "نفح الطيب" للمَقَّري هو أول مصدر يذكر هذه الخطبة، وأبو العباس أحمد المقري التلمساني –كما هو معلوم– عاش في زمن متأخر، تفصله قرون عدة عن زمن إلقاء تلك الخطبة، ويرى أنه لو كانت هذه الخطبة صحيحة النسبة إلى طارق لَمَا توانت مظانُّ تلك الفترة في تسجيلها وحفظها.
نَرُدُّ على هذا الباحث بالدليل القاطع والبرهان الناصع، فنقول إن هذه الخطبة ذكِرَت في مصادر سبقت "النفح" بردح غير يسير من الزمن؛ إذ وردت، مثلاً، في كتاب "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، و"سراج المُلوك" للطُّرْطُوشي (ت520هـ)، و"وفيات الأعيان" لابن خِلِّكان (ت681هـ). وهي كتبٌ سبقت "نفح" المقري بفترات متباينة كما هو بادٍ للعيان.
وذهب د. أحمد هيكل، في كتابه "الأدب الأندلسي"، إلى أن الشكّ في نسبة الخطبة إلى طارق مردُّه إلى أمازيغية صاحبها، مع تنبيهه إلى أن ظاهرة السجع لم تظهر إلا مع إطلالة القرن الهجري الثاني. تفرض علينا الموضوعية والمناقشة العلمية الردّ على هذا الزعم بالقول إن الأمازيغية، أو غيرها من اللغات الأجنبية الأخرى، لا تَحُولُ دون تأليف كلام عربي فصيح! ولنا في التراث الإسلامي نموذجاتٌ عدة من الأشخاص غير العرب الذين تضلّعوا من العربية، وامتلكوا ناصية البيان. ومثالنا على ذلك بلال الحَبَشي، وصُهيْب الرومي، وسَلمان الفارسي، الذي قضى شطراً من حياته في بلاد العَجَم، ولمّا أسْلم تفتق لسانُه بالعربية المُبِينة، وصار يبزّ في الفصاحة فطاحل العرب وأبْيِناءَهم.
وفي العصر الحديث، ألْفَيْنا المرحوم محمد المختار السوسي (ت1963م)، رغم أمازيغيته، يؤلّف كلاما عربيا جيّداً، وينطق بعربية فصيحة. ثم إن القول بظهور السجع في القرن 2 هـ لا أساس له من الصحة، فالذي يرجع، مثلاً، إلى كتاب "نهج البلاغة" الذي يضم عدداً من وصايا الإمام علي كرم الله وجهه (ت40هـ) وخُطبه وحِكَمه يقف على تسجيع غزير، بل إن السجع عُرف عند العرب في أعْصُر موغلة في القدم (سجع الكهان في الجاهلية مثلاً).
لقد أثَرْنا هذه القضية، وحاولنا أن نُثبت نسبة الخطبة إلى طارق من خلال مناقشة بعض الآراء الشّاكّة في هذا النص البليغ. وكان الدافع الرئيسُ إلى ذلك قول ابن تاويت في مقدمة "وافيـ"ـه: "أما الخطبة المنسوبة لطارق فنكاد نَجْزم بكونها غيرَ صادرة عنه"[16]. إن الأمر –في نظرنا– ليس كذلك بالمرّة! فالخطبة نداءٌ صدر من بربري عاش في حجْر العُروبة، وتشبَّع بقيم الإسلام ومُثله، وقد استجابت العساكر لهذا النداء، فاندفعت إلى حومة الوَغى، وتهافتت على الموت بإيمان وحماس كما يقول گنون الحسني. ولا يجب أن ننظر إلى أمازيغية طارق بوصفها حائلاً يحول دون إنشائه كلاماً بليغاً فصيحاً؛ كذلك الذي تنطق به خطبته الشهيرة.
بعد أن حدّد ابن تاويت انطلاقة الأدب المغربي، راح يَسْترسل في تتبُّع المُنْجَز الأدبي المغربي عبر عصور المغرب السياسية. وقد اختار أن يدرس هذا الأدب من خلال الوقوف عند الأدباء البارزين المُمَثلين لكل عصر أدبي، ذاكراً بعضَ أشعارهم وإبداعاتهم وتواليفهم. وبذلك تسنّى له تقديمَ صورة بانورامية مكثفة عن الأدب المغربي عبر مسيرته الطويلة.
المبحث الثاني: الوافي بوصفه كتابَ تراجم أدبية.
اِهتم ابن تاويت، في وافيه، بالترجمة؛ بحيث عرّفَنا بعدد مهم جدا من الأدباء، ولاسيما في جزئه الثالث. وقد بلغ مجموع المترْجَم لهم في الكتاب المدروس، هنا، أزيد من أربعين ومائتيْ (240) أديبٍ، موزعين توزيعاً غير متكافئ بين أجزائه الثلاثة. إذ ترجم، في الجزء الأول، لحوالي 20 أديباً، وفي الجزء الثاني لحوالي 60 أديباً، وفي الجزء الأخير لأزيد من 160 من أدباء المغرب الأقصى (47 في الباب السادس – 115 في الباب السابع).
نلاحظ، انطلاقاً من هذه البيانات الإحْصائية، أن عدد الأدباء يتكاثر كلما تقدم الزمن. وعليه، يتطور الأدب المغربي كمّا وكيفاً كلما انتقلنا من عصر إلى آخر. ونلاحظ، أيضاً، أن الجزء الثالث هو أكثر الأجزاء احتفالاً بالتراجم؛ إذ يشمل وَحْدَه ضِعْف ما اشتمل عليه الجُزآن الأوّلان. ولا يجب أن نفهم من هذا الإحصاء المقدَّم أن ابن تاويت قد أتى على جميع أدباء المغرب استقصاءً. فالواقعُ أن الرجل ذكر بعض الأدباء والأسماء بوصفها نماذجَ لكل مرحلة زمنية، ولم يقف عند أدباء المغرب كلِّهم[17].
إن أغلب تراجم الجزء الثالث تتسم بطابع القِصَر، بل إن منها ما يقتصر على ذكر عام الميلاد[18]، أو سنة الوفاة فقط[19]. ومنها ما يذكر، إلى جانب تاريخيِ الميلاد والوفاة، مهنة الأديب وبعض تآليفه وأخباره. وثمة تراجم قليلة جدا كان ابن تاويت رحمه الله يُسْهب فيها ويُطيل؛ مثل ترجمته لأبي علي الحسن اليُوسي، ومحمد بن علي الهوزالي، وعبد الرحمن بن زيدان، وعبد العزيز الفشتالي، وأحمد بن القاضي المكناسي. ثم إن من الأدباء من خصّص له ابن تاويت صفحات عديدة؛ كمحمد بن الطيب العلمي الفاسي مثلاً، ومنهم مَنْ تناوله في بعض صفحة؛ كما فعل مع الأديب أحمد امحالو الذي تحدّث عنه في فِقرة قصير جدا، وكما فعل مع العربي بن علي الشرقاوي الذي تحدث عنه في أقل من سطرين فقط.
ويلاحظ قارئ الجزء الأخير من "الوافي" أن أكثر الأدباء المتحَدَّث عنههم مغمورون، لا نعرف عنهم أي شيء! فمَنْ مِنّا يعرف، مثلاً، داود الدغوغي، أو محمد الوَجْدي الغماد، أو أحمد عمور، أو عبد الله بن يوسف الوادنوني السوسي؟ إن هذه الحال تدعو الباحث المغربي الغَيُور إلى بذل مزيدٍ من المجهود من أجل تحقيق تراثه، وإخراج كنوزه إلى الناس، والقيام بدراسات وأبحاث تروم التعريف بأدباء بلده القدامى والمُحْدَثين.
وهناك حالاتٌ لم يترجمْ فيها ابن تاويت للأديب المتحَدَّث عنه، بل كان ينتقل مباشرة إلى إيراد نُتَفٍ من أشعاره. وربما يُعزى السبب في ذلك إلى أن المؤلف لم يكن متوفراً على معلومات تُعِينُه على الوقوف على تاريخ الولادة أو الوفاة أو بعض تصانيفه، إلى آخره.
ونلاحظُ أن كثيراً من الأدباء الذين تحدث عنهم ابن تاويت في الجزء الثالث كانوا فقهاء؛ بمعنى أنهم جمعوا إلى الأدب الفقه والعلم. وهذه الظاهرة لافتة للانتباه في تاريخ أدب المغرب، ولاسيما في العصر المرابطي الذي اتهم بسيادة الطابع الديني والتيار الفقهي. يقول د. عباس الجِراري: "وقد بدأت هذه الحملة على المرابطين منذ عهد خُصومهم الموحِّدين، وعلى يد مؤرخٍ مُوالٍ لهم هو عبد الواحد المراكشي. ثم انتقلت إلى بعض الأندلسيين أمثال الشقندي، واستمرت كذلك إلى أنْ تلقفها المستشرقون[20] فيما بعد لهوىً صادفته في نفوسهم، وغلّفوها بمظهر من الموضوعية العلمية والبحث النزيه، حتى حمَل عنهم عبْء شنّها بعضُ الدارسين العرب، سواء منهم المشارقة أو المغاربة، عن اقتناع حيناً وعن تقليد في غالب الأحيان"[21].
وكيفما كان الحال، فقد أورد ابن تاويت، في الجزء الثالث، عدداً من الأدباء الفقهاء؛ مثل أحمد الزموري، وأحمد المنجور، وعمر بن عبد العزيز الزرهوني الفاسي، وعلي بن عبد الرحمن السلاسي، وأبي العباس أحمد التاستاوتي، وابن زكرَى الولتي، وأحمد الجشتمي السوسي. وقد كثر الأدباءُ الفقهاءُ في عهد المولى الحسن الأول العلوي. يقول ابن تاويت: "الأدباء الذين كانوا على عهد مولاي الحسن كلهم أو جُلهم كانوا من رجال العلم والفقه بصفة خاصة"[22]. ونذكر منهم، في هذا المقام، على سبيل التمثيل، الطاهر بن العناية، والتهامي بن المهدي المزوري، وأبا زيد عبد الرحمن الشرفي الأندلسي، وأحمد بن الحاج، ومولاي أحمد الرباطي.
ومن الملاحظات الأخرى التي يمكن أن نسجّلها، ها هنا، ما يأتي:
= إن أكثر الأدباء المتحدَّث عنهم، في الجزء الثالث، من فاس وسوس (أو الجنوب). ولهذا الأمر علاقة بالجانب السياسي؛ إذ من المعروف أن دولتي السعديين والعلويين قد انطلقتا من الجنوب، واتخذتا منه عاصمة لهما. فكان لا مناص من أن يكثر الشعراء والأدباء في هذه المنطقة، سواء أكانوا أصلاء منتمين إلى الجنوب المغربي وأرْباضه أم كانوا وافدين على بلاطات السلاطين والأمراء من مناطق مغربية أخرى أو من خارج المغرب.
= يتحدث ابن تاويت في هذا الجزء –وفي "الوافي" ككل– فقط عن الشعراء الذين كانوا من رجالات الدولة أو كانت لهم صلة بالدولة أو برجالاتها. لذا، وجدْنا أن أكثر الشعر المُثْبَت في الجزء الأخير خاصةً يذهب في غرض المديح.
= يلمس القارئُ؛ قارئُ الكتاب –من كثبٍ– أن أغلبَ الذين يتحدث عنهم ابن تاويت –وإنْ لم نقل جميعهم– شعراء، وأن الشعر قد أخذ حصة الأسد من الكتاب (ج. 3 بخاصة).
= نلحظ، في عددٍ كبير من التراجم، أن ابن تاويت كان يعمِدُ إلى تحْلية المترْجَم لهم، ووصْفهم بأوصاف معينة لا تخلو من رائحة النقد. وهكذا نجده، مثلاً، يقرّظ الهوزالي وينعته بـ"الشاعر النابغة"، ويصف الحسن اليوسي بالنباهة والموسوعية في قوله: "يحق أن نعدّ من نبهاء الزاوية الدلائية الأديب العالم المُشارك أبا علي الحسن بن مسعود اليوسي، المولود سنة أربعين وألف، والمتوفى سنة اثنتين ومائة وألف"[23]. ويقول عن مولاي أحمد بن المامون البلغيثي الفاسي (ت1348هـ) إنه "عالم مُشارِك، وأديب متفنِّن"[24].
المبحث الثالث: الوافي بوصفه كتابَ نقد أدبي.
يجدر بنا أن نشير، في مفتتَح هذا المبحث، إلى أن للوافي قيمةً نقدية لا يمكن إغفالها أو تجاهلها بأي شكل من الأشكال. وقد تأكد لنا بعد قراءة الجزء الثالث من الكتاب المذكور، قراءة تدبُّر وتأنٍّ، أنه يشمُل نصوصاً نقدية من الوفرة بمكان، وتعليقاتٍ عدة تنوس بين العمق والسطحية. وعموماً، نستطيع تقسيم النقد الوارد في هذا الجزء إلى قسمين كبيرين، هما: النقد الداخلي، والنقد الخارجي.
أولاً: النقد الداخلي.
وهو نقدٌ ينصبُّ على النص الأدبي في حد ذاته، فينظر في مبناه ومعناه. وتَبَعاً لذلك، يمكننا أن نقسم هذا الضرب من النقد إلى فرعين اثنين، هما: نقد المبنى، ونقد المعنى. وسنوضح فيما يأتي المقصودَ بكلٍّ منهما، معزِّزين كلامَنا بشواهدَ وأمثلةٍ مُسْتقاة من الجزء الأخير من "الوافي".
1- نقد المبنى: ونريد به النقد الذي يتناول بناء النص وشكله ولغته. وقد رأيْنا، بعد استخراج النصوص النقدية والتعليقات الواردة في الكتاب المدروس، والتي تهُمّ بالأساس جانب المبنى، أن بالإمكان تقسيم هذا النوع من النقد إلى أنواع ثلاثة، هي:
1.1- النقد اللغوي والتركيبي: وينصبّ على لغة النص وتراكيبه؛ فيحاول أن يقوِّم أساليبه، ويصحح أغاليطه اللغوية. ولتوضيح هذا الأمر، ارتأيْنا أن نأتيَ ببعض النماذج والشواهد، وهي كثيرة في الكتاب المَعْني بالقراءة هنا.
أورد المرحوم ابن تاويت أبياتاً من قصيدة مَوْلِدية نونية قالها أبو الحسن علي الملزوزي في مدْح المأمون السعدي، مطلعُها: (الكامل التام)
كُفَّ المَلاَمَ عَنِ الشَّجَى الْحَيْرَانِ - - - فَاللَّوْمُ يُوثِـرُ كَامِنَ ﭐلأَشْـجَانِ
وعلّق عليها بقوله: "إلى آخر المولدية التي تتسم بالتقليد المطلق، وبضعف الإحكام فيها وفي أسلوبها، زادها ضعفا ما بها من تدوير مُشمئزّ. ولا شك أن الشاعر كان لذلك العهد، لَمّا تستكمل شروطه الشعرية. بل كان يتسرب إليه الخطأ حتى في الاستعمال اللغوي، إذ نجد في البيت الأول أنه استعمل فعل "يوثر" وهو يريد "يُثير"..."[25]. المُلاحَظُ أن الناقد ابن تاويت قد حكم على القصيدة كلها بالافتقار إلى الإتقان، وضعف الصياغة التركيبية، وراح يعلل حُكمه ويضرب الأمثلة. فالشاعر – في نظره – كان في بداياته الإبداعية؛ لذا وقع في أغلاط لغوية فادحة. و"البداية مزلّة" كما قال أبو هلال العسكري (ت395هـ) في "كتاب الصناعتين".
وجاء محمد بن تاويت ببيتٍ لليوسي (ت1102هـ) يقول فيه: (الكامل التام)
وَصَبَابَةٍ مِنْ مَاءِ وَجْهِكَ أَنْـ - - - ـفَسُ مِنْ رَحِيقٍ سَلْسَـلٍ غَمْرِ
ثم علق عليه قائلاً: "إن هذا البيت تتبرّأ كلماته بعضها من بعض، على حد تعبير الجاحظ. فالرحيقُ كان مناسباً له "ألذ"، ولكن هذا لا يناسب "صبابة من ماء الوجه". فإنْ تركنا التعبير على حدة، فإن الفتور يتسرّب إلى "أنفس من هذا الرحيق السلسل الغمر"..."[26]. فهذا نقد لغويّ وجمالي، ركز على صياغة البيت المنقود المُفتقِدة إلى الانسجام والتناسب بين مفرداته. وقد استعار الناقد في كلامه تعبيراً مشهوراً لأبي عثمان الجاحظ (ت255هـ).
وأتى ابن تاويت، في حديثه عن أدباء العصر العلوي، ببيتيْن للمرحوم محمد المهدي الحَجْوي، هما: (من الطويل)
وَإنَّ حَيَاةَ الشَّعْبِ حُسْنُ خَلاَقِهِ - - - بِهِ يَرْتَقِي لاَ بِالنَّبَاهَةِ وَالْحِذْقِ
وَلاَ يَنْفَـعُ الْعِلْمُ الَّذِي لاَ تُقِيمُــهُ - - - دَعَائِمُ أَخْلاَقٍ تَقِيهِ مِنَ الْمَحْقِ
ثم قال على إثْرهِما: "هذا المعنى كثيراً ما ردّده شوقي، ويلاحَظ أنه استعمل كلمة "الخلاق" بمعنى "الخُلق". وهو كثيراً ما يقع في خطئه الناس، مع أنه "الحظ" كما في الآية "لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ"؛ أي لا حظَّ لهم في نعيمها"[27]. فالناقدُ، هنا، قد أخذ على الحجوي استعماله كلمة "الخلاق" استعمالاً خاطئاً، وأشار إلى أن هذا الخطأ شائع، يُكْثِر الناس منه. وبيّن، بعد ذلك، المعنى الصحيح لكلمة "الخلاق" مَشفوعاً بالدليل من كتاب الله عز وجلّ.
وأورد ابن تاويت، في موضع آخر، هذين البيتين اللذين قالهما علي بن أحمد مصباح الزرويلي (ت1150هـ) في وصف إحدى قصائده: (الطويل)
فَـلَـمْ تَـكُ إلاَّ رَوْضَـةً وَحُـــرُوفُهَا - - - كَمَـائِمَ شَفَّـتْ عَنْ أَزَاهِــرِ مَعْـــــــنَاهَا
وَإلاَّ كَخُــوذٍ وَاصَـلَتْ بَعْـدَ فَــتْرَةٍ - - - مِنَ الْوَصْلِ كَانَ الْقَلْبُ وَالْجِسْمُ يَهْوَاهَا
وعلق عليهما بقوله: "وهو شعرٌ لا يصدر إلا عن المطبوعين النَّهِلين من مَعين الأدب ومعارفه، وإنْ كان الجسم الوارد في آخر البيت نفضّل أن يحل محلّه الروح، ليتم تهذيبها"[28]. فبعد أن أقرّ الناقد بطبْع الشاعر علي مصباح وسَعَة معرفته الأدبية، نراه يسجل ملاحظة لغوية عن إحدى كلمات المِصْراع الأخير التي استثقلها حسُّه النقدي، واقترح بدلها كلمة أخرى رآها أنسبَ وأكثر انسجاماً مع السياق.
وفي إطار حديثه عن علي الملزوزي، اختار ابن تاويت أبياتاً له في مخاطبة المأمون بن أحمد المنصور والشكوى إليه، ثم علق عليها قائلاً: "وهي أبيات مُسِفَّة مُتَضَعْضِعَة، والغالبُ أنه قالها بعدما مضى عليه حِينٌ من الدهر كاتباً للمأمون الذي يذكره بهذه البساطة المتعارفة"[29]. وهكذا، نرى في هذا التعليق المركَّز انصبابه على جانب اللغة والصياغة؛ بحيث يَسمُ أبيات الملزوزي بالإسْفاف والابتذال والتضعضع... هذه بعضٌ من النماذج النقدية اللغوية، وهناك نماذج أخرى كثيرة يمكن أن يقف عليها قارئ الكتاب.
2.1- النقد البلاغي: وهو الذي يرتبط بالبلاغة بفروعها الثلاثة المعروفة (البيان والمعاني والبديع)، ويتناول النص الأدبي من الزاوية البلاغية ليكشف إلى أيِّ حدٍّ كان موفقاً أو غير موفق في توظيف المحسِّنات البديعية أو الأوجُه البيانية وغيرها. وفيما يأتي سنأتي بمجموعة من النماذج المندرجة في هذا الإطار.
بعد أن أورد ابن تاويت رحمه الله بائيةً من سبعة وعشرين بيتاً نظمها أبو عثمان سعيد الحامدي الجزولي في رثاء الأمير محمد الحران ابن محمد الشيخ، وتعْزية أبيه، علّق عليها تعليقاً طويلاً بعضَ الشيء ممّا جاء فيه قوله: "هذه القصيدة نلاحظ عليها أن ماء الشعر يجْري فيها، بالرّغم من تلك الحواجز البديعية التي كثيراً ما تعترض سبيله... على كلٍّ، فهذا شعرٌ فيه كثير من الصنعة البديعية، خصوصاً ما يتصل منها بالألفاظ؛ مثل: تفنى المغاني وسود الليالي أساود، ونعْي أتاني والنعْي محمّد والقنابل والقنا. وفي قصيدته نجد اقتباساً من المنطق. وإذا نظرْنا إليها فإننا نجدها، بادئ ذي بدْء، ناظرة إلى قصيدةٍ لابن خفاجة في رثاء الوزير أبي محمد ابن ربيعة.
والغالبُ، أيضاً، أنه نَظَر إلى بائيةِ ابن زيدون في مدْح محمد بن جهور... والقصيدة – كما قلنا – بادرة من بوادر النهوض لشعرنا بعد تلك الوَكْسة التي أصابته طيلة قرن من الزمان وأزيد، ثم إن موضوع الرثاء في شعرنا قليلٌ جدّاً."[30] فهو يقرّ، بَدَاءَةً، بانطواء النص المنقود على مقوّمات الشعر، وسمات "الشعرية" بتعبير المعاصرين، مستعمِلاً أحدَ اصطلاحات نقادنا الأقدمين (كالجاحظ)؛ وهو مصطلح "ماء الشعر". ثم يسجل أن هذا النص يُكثر من استخدام الحذلقات اللفظية والمحسِّنات البديعية، ويستدل على ذلك بأمثلة مقبوسة من لغة القصيدة. ويُميط اللثام أيضاً عن بعض مواضع الاقتباس أو التناصّ بين نص الحامدي ونصوص أخرى سبقتْه.
ويُستفاد من هذا النص النقدي أن الأدب المغربي قد أصيب بوكسة وجمود وانحطاط على عهد بني الوطّاس، مثلما حدث لاحقاً للشعر العربي بالمشرق بعد سقوط الدولة العباسية وخضوع معظم رُبوع الأمة العربية للنفوذ التركي، وأن بائية الحامدي المُعَلَّق عليها واحدة من بواكير قصائد العصر السعدي التي حاولت النهوض بالشعر العربي بالمغرب وبعْثه من جديد للعودة به إلى سالف مجْده.
ويختم الناقدُ نصه بتأكيد فكرة نَدْرة ثيمة الرثاء في أدبنا. والواقعُ أن هذه الموضوعة قليلة في أشعار قدماء المغاربة، وأن أبا الربيع سليمان المُوحِّد يعد أول الشعراء الرّاثين بالمغرب؛ كما أكد ابن تاويت في الجزء الأول من "وافيـ"ـه. ولكن هذا الغرض نما واتسع نطاقه، مع توالي الأيام، إلى أن صار وافراً وقويَّ الحضور في الشعر المغربي على عهد العلويّين بخاصة.
وأتى ابن تاويت بنصٍّ للشاعر والنحوي الحسن بن يوسف الزياتي يقول في بدايته: (من البسيط التام)
رِفْقاً على القلبِ إذ في القلْب سُكْناكا - - - وارْعَ ذِمـــامي فــإنّ اللهَ يَرْعــاكا
وارْفَـــقْ بطَرْفٍ كئيبٍ أنتَ ناظِــرُهُ - - - قدْ طالما شــاهَدَتْ عَيْنَــيْه عَيْـناكا
وعامِــلِ الجِسْـــمَ بالإحْسان يا أمَـلي - - - إذ هوَ مَــأوىً لقلــبٍ هُو مَــــأواكا
واعْـكِسْ ظُـنونَ أناسٍ طالما زَعَموا - - - قُطِعَـتْ عَنّي وذاكَ الظَّــنُّ حاشاكا
وارْدُدْ كُــيودَ العِـدا في نَحْــرهمْ أبداً - - - أنهـــاكَ أنْ تـــأمَنَ الأعْـداءَ أنْهاكا
وما يَضــرُّكَ لوْ واصَــلْتَ يا أمَـــلي - - - صَــبّاً كئــيباً بطُولِ الدَّهْر يَهْـواكا
ثم أرْدفه بالتعليق والنقد الآتييْن: "في هذا من التَّكرار نحو "أنت ناظره" و"شهدت عيناك" و"في القلب سكناك" و"لقلب هو يهْواكا"، والنداء بقوله "يا أملي"، والوصف بكلمة "الكئيب"، مما يدل على محصول فقير من اللغة كان يُنفِـق منه. وسنرى في أبياتٍ أخرى هذا النداء كأنه لم يجد غير هذا المُنادَى، فلو استبدل به الكلمة الرائجة لأحْسَن؛ لأن المعلول للناس هو المُستجدّ، أما المُعتاد كالأرض والسماء والبحر والصحراء فلا يملّ كل ذلك. ولهذا لو كان أملي "يا حبيبي" مثلاً لَما تطرق إليه نقدٌ بالتكرار".[31] فهذا النص انْصَبَّ على نقد تلك الأبيات من ناحية التكرار اللفظي والمعنوي، معللا ذلك بفقر المخزون اللغوي للشاعر، ومقدِّماً بعضَ البدائل التي يراها أحسن وأكثر تساوقاً مع جوّ الأبيات العامّ.
وفي سياق كلام ابن تاويت عن محمد بن الطيب العلمي الفاسي، عرَضَ له أبياتاً قالها في مدح المولى إسماعيل كالآتي: (من الطويل)
نُصِرْتَ أميرَ المؤمنينَ يا مطلَعَ النّصْر[32] - - - فــجاء الرّدى للطَّــيِّ والدينُ للنّــــشْر
وواصلْــتَ حبْــلَ الدين بعدَ انْصِـرامهِ - - - بصـارمِكَ الهِـــنْدِيّ والبِــيضِ والسُّمْر
مَليــكٌ يُــــرى في الحَرْب بين كُــماتِه - - - كبَــدْرٍ وهــذي النَّجْــمُ تحْنو على البَذْر
يُـــريكَ طُـــغاةً تحتَ حافِـــرِ طــــرْفِه - - - وما هيَ إلاّ الطّيْــر في مِخْـلَب الصَّقــر
عُقــولُ العِــدا طارتْ إلى وَكْر سِلْــمِه - - - كما طارَ شَـــوْقاً ذو فِــراخٍ إلى الوَكْـــر
ثم قال عقبها مُنتقداً: "هذه أوصافٌ وإنْ حاول أن يتأنّق فيها ببعض الحلْية، كالطباق، فإنها مفكّكة وينقصها السّبْك المُحْكَم؛ كما نجد في قوله: "بصارمك الهندي والبيض والسمر"، وقوله: "كبدر وهذي النجم تحنو على البدر". وعلى حين يجعل الطغاة تحت حافر طرفه، يقول فيها: "وما هي إلا الطير في مخلب الصقر". وشتان بين الصورتيْن، وإنِ اتَّحَدَتا في الغاية منهما. ولكنْ هذا لا يكفي، فلا بد من الانسجام بين الصور ووضْع بعضها إزاء بعض، وأخيراً يأتي هذا التشبيه لِلَّذي لا لزوم له وهو: "كما طار شوقاً ذو فراخ إلى وكر"، بل إنه أبْرَدُ ممّا جاء قبله وهو: "عقول العدا طارت إلى وكر سلمه". فما كان أغنى هذا المِصْراع الأول عن الأخير. ومن التعابير العلمية فيها وُرودُ الطي والنشر؛ شقيقِ اللف والنشر".[33] ففي هذا النص يلمَس القارئ نقداً بلاغياً، ركّز فيه الناقد على جانب البيان؛ بحيث رأى أن الأوصاف الشعرية والصور الفنية الواردة في الأبيات مُفتقرة إلى الانسجام، وجوْدة الرَّصْف والسَّبْك، ضارباً لذلك الأمثلة المُستخْرَجَة من الأبيات عَيْنِها، إلى آخره.
لقد تبدّى لنا من خلال قراءة "الوافي" كلِّه أن ثمة أمرين بارزين يظهران، بقوة، في نصوص النقد البلاغي. فأما الأمرُ الأول فهو أن ابن تاويت كان كثيرَ التركيز على تبيان مواضع التناصّ والاقتباس في النصوص التي يُوردُها كنماذج أدبية لكل أديب، وفي هذه الاقتباسات تتوضّح العلاقات بين نص لاحق وآخر سابق، وفيها أيضاً يتجلى البُعْد الثقافي للأديب.
وأما الأمرُ الثاني فيظهر من خلال تركيز ابن تاويت، في كثير من نُقوده البلاغية، على مبحث البديع ومحسِّناته؛ بحيث نُلفيه في مرات عديدة يَنقد الأبيات الشعرية أو المقاطع النثرية من زاوية التصنُّع والإكثار من التنْميق الأسلوبي والحَذلقات اللفظية والمعنوية. ويَبرز هذا الأمر، بصورةٍ أجْلى، في الأدب المريني والوطّاسي والسعدي.
وإذا كان جمهور الدارسين يرون أن الأدب العربي في هذه الفترة كان يتخبّط في التصنع والتمحُّل، وكان يعيش في مرحلة من الانحطاط والتخلف، فهل هذا معناه أن هذا التصنع أو التكلف قد امتدّ إلى أدب المغرب الذي طالما أكد النقاد المغاربة المُحْدَثون ازدهارَه في هذه الفترة؟
3.1- النقد الإيقاعي: وهو النقد الذي يتتبّع ثغرات النص الشعري ومزالقه الموسيقية، سواء تعلقت بعَروضه أو بقوافيه أو بجانبه الصوتي. ولتبيين ذلك، ارتضيْنا الإتيان ببعض الأمثلة من الجزء الثالث من "الوفي" خاصة.
أورد ابن تاويت شعراً لأحمد بن خالد الناصري السلاوي (ت1315هـ)، وعلق عليه بقوله: "يلاحَظ في القصيدة عَيْبان؛ أحدهما في القوافي، وهو الإيطاء بإعادة كلمة الروي[34] "المحاق"، والثاني استعمال "لا زال" في غير الدعاء أو التَّكْرار مرتين في هذه الأبيات. والعربية لا تُسيغ إدخال "لا" على الماضي إلا إذا كرّر النفي أو خرج عن زمنه أو خبره كقول ذي الرُّمَّة: (الطويل)
ألاَ يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى البِلاَ - - - وَلاَ زَالَ مَنْهَـلاً بِجَـرْعَائِكِ الْقَطْـرُ
فهذا ادِّعاء، وأديبنا الكبير يرتكب هذا اللحْنَ في عدة صفحات من كتابه العظيم، ولا يستغرب هذا منه. فلكل جواد كبوة أو كبوات"[35]. فهذا النقد مزدوج، ذلك بأنه مَسَّ إيقاعَ القصيدة المنقودة، فلاحظ أن صاحبها قد وقع في أحد عيوب القافية وهو الإيطاء؛ هذا من جهة. ومن جهة أخْرَاةٍ، أخذ ابن تاويت على القصيدة استعمالها تعبير "لا زال" في غير موضعه، مدعِّماً نقده بالبرهان والشاهد.
ومن الأمثلة التي تندرج في هذا النطاق، كذلك، قول ابن تاويت إثرَ إيراده بعضاً من شينيةٍ مُشْبَعة الروي قالها عبد الواحد بن عاشر يمدح المجاهد أبا عبد الله العياشي: "فهذا شعر صاخبٌ بهذه الدمدمة الصوتية، وهذا الإيقاع المُجَلجل، كأنه عَمَد فيه إلى الإنشاد الشعبي الذي تصْحبه المزاهر[36] والطبول، وزادت القافية الشينية شنشنة الموضوع غرابةً، وإنْ كان المتصوفة، وفيهم ابن عاشر هذا، يعْجبهم ذلك"[37].
بعد أن تحدثنا عن نقد المبنى بصوره الثلاث، ندلفُ الآن إلى الحديث عن قسيمه الآخر في إطار النقد الداخلي، وهو ما أسْمَيْناه "نقد المعْنى".
2- نقد المعنى: ويراد به ذلك النقد الذي يتوجّه صوْب مدلول النص ومضمونه. ومن أمثله ذلك في الجزء الثالث من "الوافي" ما يأتي:
أورد ابن تاويت بيتين في الغَزَل لعلي الملزوزي، هما: (الطويل)
أَلاَ هَلْ إلَى صُبْحِ الْوِصَالِ سَبِيلُ - - - وَهَلْ لِي عَنْ لَيْلِ الصُّدُودِ مَحِيلُ
فَيَكْـشِفَ غَيْمُ الْهَجْرِ عَنِّي قِنَاعَهُ - - - وَأَلْثُـمُ ثَغْـراً رِيقُـهُ سَلْسَبِــــــــيلُ
وقال على إثرهما: "فهذا غزل بارد فاتر على بساطته"[38]. إذاً، فابنُ تاويت يتناول بالنقد غرض البيتين؛ وهو الغزل، ويسجل أنه يمتاز بالبُرودة والفُتور.
وأورد الناقد نفسُه قصيدة كاملة قالها داود الدغوغي بمناسبة الظفر/الانتصار العظيم الذي حققه المغاربة في موقعة وادي المخازن، ثم علق عليها قائلاً: "فهذه قصيدة على كل حال نادرة تعد من الوثائق الأمينة، ومن المسجّلات الدقيقة لموضوعها. فهي ليست بتلك الصلصة الصاخبة التي نعرفها في مثل هذه المناسبات؛ كما نجد في رائية الهوزالي. وليست بتلك التي تهمل تصوير الحدث، وتتوجّه بكلّيتها إلى الأشخاص الذين يهيمنون على الموقف، ويُكتب لهم الظفر فيه؛ كما عندنا في قصائد الجراوي عامة"[39].
إن هذا النقد المضمونيَّ نقدٌ بالإيجاب لا بالسلب، خلافاً لما رأيناه في النماذج السالفة التي كانت تتتبَّع هفوات النص لغةً وبلاغةً وإيقاعاً ومعنىً. فالناقد، ها هنا، مُعْجَبٌ أيَّما إعجاب بقصيدة داود الدغوغي، فوسَمَها بجملة من الأوصاف الجيّدة، وحكم عليها بواقعيتها؛ أي بتصويرها الدقيق والصادق لحادثة وداي المخازن الشهيرة. وليُثبت الناقد تفوّق هذه القصيدة وفَرادتها في بابها، راح يقارنها بقصائد أخرى معاصرة أو سابقة لها.
ثانياً: النقد الخارجي.
وهو نقيضُ النقد الداخلي، يركز، بالأساس، على خارج النص وعلاقاته بغيره من النصوص. ويمكن أن يقف قارئ "الوافي" على نوعين من النقد الخارجي فيه؛ أحدهما يتجه إلى تحقيق نسبة النص إلى صاحبه، والآخر يهتم برصْد الترابطات والعلاقات بين النصوص. ولتكوين صورة واضحة عن هذين النوعين، قرّرْنا أن نخُصَّ كُلاًّ منهما بمطلب مستقل، كالآتي:
1- توثيق نسبة النصوص: ومن الأمثلة الدالة على هذا الأمر قول ابن تاويت: "أما القصيدة الربيعية التي نسبها المُرادي إلى محمد بن الطيب الصميلي الفاسي، والتي مطلعها:
وَرَدَ الرَّبِيعُ فَمَرْحَباً بِوُرُودِهِ - - - وَبِنُورِ بَهْجَــتِهِ وَنُورِ وُرُودِهِ
فجميلةٌ جدا. ولكنها في الواقع ليست له، بل لصفيّ الدين الحلّي، كما في الديوان. وفيها أبياتٌ أخرى لم تذكر بهذه، وكلها تنْبئ عن بطلان نسبتها إلى ابن الطيب الشرقي، وهي مشهورة للحلي، وتعد من جميلات قصائده"[40]. فابن تاويت يرى أن هذه القصيدة من نظْم صفي الدين الحلي (ت750هـ)، وليست من تأليف ابن الطيب الصميلي كما زعم المرادي. وهو –بهذا– قد قوَّم وصحَّح نسبة القصيدة بعَزْوِها إلى كاتبها الحقيقي.
2- الموازنات والمقارَنات: لقد عمد ابن تاويت، في مواضع عدة، إلى عقْد مقارنات بين النصوص، لاعتبارٍ من الاعتبارات. والملاحظ أن هذه المقارنات قد يكون موضوعها الشعر، وقد يكون النثر. كما أنها قد تكون بين أديب وآخر، وقد تكون على مستوى إنتاج أديبٍ بعينه.
أورد ابن تاويت رسالةً للتاستاوتي كان قد ابتعثها إلى أحمد بن عبد الله الدِّلائي، وقال عقبها مقارناً بينها وبين نثرِ مُجايِلِه اليوسي: "وهي رسالة طويلة، لا تبلغ في مَداها ما كان عليه نثر اليوسي الفني، بل هي دون ذلك"[41].
ويقول ابن تاويت في الموازنة بين أبي زيد عبد الرحمن الفاسي وبين اليوسي: "كان أبو زيد ذا مشارَكة في العلوم تفوق مشاركة اليوسي حتى إن أباه عبد القادر الفاسي كان يسميه بسُيوطي زمانه. ولكن في شعره كان لا يصل إلى درجة اليوسي"[42].
ففي كل نموذج من هذين النموذجين مقارنة واضحة بين أديب وآخر في جانب من الجوانب. ونجد الناقد يميل إلى طرف من الطرفين المُقارَن بينهما، ويُثبت التفوق لشخص دون آخر. وقد تكون الموازنة على صعيد إبداع أديب ما، وتنصبّ – بالأساس – على الموازنة بين شعر أديب ونثره. من ذلك قول ابن تاويت: "لابن عيسى شعرٌ يَنزل عن مرْتبة نثره"[43]. ويقول عن ابن زاكور الفاسي: "شخصية أديبنا تتمثل في شعره دون نثره"[44]، إلى آخره.
لقد اتضح لنا مما تقدم كله أن "الوافي"، فعلاً، كتابٌ ذو قيمة نقدية واضحة، وأنه يمثل محطة من محطّات تطور النقد المغربي الحديث. كما أنه كتاب تاريخ، حاول أن يرصد تطور الأدب المغربي مذ أقدم عصوره. ثم إنه كتاب تراجم أدبية بما يتضمّنه من تعريفات مقتَضَبَة، في أغلبها، لرجالٍ مغاربة من مختلف الأعْصُر التاريخية التي قطعها أدبنا عبر مسيرته المديدة.
الهوامش
[2] محمد بن تاويت: الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى، دار الثقافة، البيضاء، ط.1، 1984، 3/653.
[3] نفســه، 3/654.
[4] نفســه، 3/716.
[5] عبد الله گنون: النبوغ المغربي في الأدب العربي، مكتبة المدرس ودار الكتاب اللبناني، بيروت، ط.3، 1975، 1/ 271.
[6] صدر الكتاب عن مطبعة النجاح الجديدة، بالدار البيضاء، في 360 صفحة من الحجم المتوسط. وقد أعيد طبْعُه عام 1988. والكتابُ، في الأصل، رسالة جامعية ناقشها صاحبها بكلية آداب الرباط، ونال بها د.د.ع.
[7] الوافي، 3/775.
[8] نفســـه، 3/846.
[9] نفســـه، 3/834.
[10] نفســـه.
[11] أنجزت دراسات وأبحاث، في هذا الصدد؛ منها "المنهج التاريخي عند المغاربة (محمد بن تاويت نموذجاً – الجزآن 1 و 2 من "الوافي")"، وهو بحثٌ لنيل الإجازة في الأدب العربي، أعدّته إحدى الباحثات بإشراف د. محمد يحيى قاسمي، برسم الموسم الجامعي 90/1991م. وهو مرقون، وكان مسجّلاً بخزانة كلية الآداب/جامعة محمد الأول بوجدة تحت رقم 2444.
[12] الوافي، 1/7.
[13] حدّد بعضهم هذا المنهج، القائم على "التأريخ الأدبي" (Literary history)، بالقول: "إنه تطبيقُ مناهج التاريخ على وصْف الأدب في عصر أو عصور متتالية عند شعب واحد أو شعوب مختلفة. فعلى المؤرِّخ الأدبي إذن أنْ يحدد عصوراً أدبية، ذاكراً أهمَّ اتجاهاتها العامة، وأنْ يحاول الربط بين إنتاج الأديب وغيره من الأدباء. كما يربط أيضاً بين الحدث الأدبي، أينما كان، وبين الأحداث التاريخية العامة سياسية كانت أم اجتماعية، وعليه أيضاً أن يصف الأدب لا كظاهرة ثابتة، وإنما كظاهرة تتغيّر وتتطور، مع مرور الزمن، نتيجةً لردّ فعل أو تأثر أو تفاعُل بين عناصر أدبية مختلفة عبر العصور". (مجدي وهبه وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت، ط.2، 1984، ص84)
[14] مصطفى الشليح: قراءة في كتاب "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى"، مجلة "دعوة الحق"، ع.231، شتنبر–أكتوبر 1983، ص47.
[15] الوافي، 3/1003.
[16] نفســـه، 1/10.
[17] أشار ابنُ تاويت نفسُه إلى هذا الأمر في خاتمة "الوافي"، وقبلها في الصفحة 716.
[18] انظر ترجمة الشاعر محمد بن عمر الشاوي مثلا. (الوافي، 3/679)
[19] انظر ترجمة الشاعر علي بن أحمد الشامي الفاسي مثلا. (الوافي، 3/680)
[20] من أمثال المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (R. Dozy).
[21] عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مكتبة المعارف، الرباط، ط.3، 1986، المجلد 1، ص 83.
[22] الوافي، 3/905.
[23] نفســـه، 3/740.
[24] نفســـه، 3/940، بتصرف.
[25] نفســـه، 3/675.
[26] نفســـه، 3/746.
[27] نفســـه، 3/984. والنص القرآني وارد في سورة آل عمران، الآية 76.
[28] نفســـه، 3/843.
[29] نفســـه، 3/676.
[30] نفســـه، 3/657-658.
[31] نفســـه، 3/697.
[32] لا يستقيم وزن هذا البيت إلا إذا حذفنا من مصراعه الأول سبَبَيْن خفيفيْن (يا مَطْ).
[33] نفســـه، 3/798.
[34] ويقصد بها "القافية" جَرْياً على عادة الكثيرين مِمَّنْ لا يميزون بين القافية والروي. والحق أن بينهما فرقا واضحاً كما هو معلوم.
[35] الوافي، 3/910.
[36] المزاهر جمعٌ، واحدُه "مِزْهَر"، وهو العُود.
[37] الوافي، 3/734.
[38] نفســـه، 3/676.
[39] نفســـه، 3/671.
[40] نفســـه، 3/855، بتصرف.
[41] نفســـه، 3/774.
[42] نفســـه، 3/776.
[43] نفســـه، 3/705.
[44] نفســـه، 3/789.
◄ فريد أمعضشو
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
الوافـي: كتابُ تأريخ أدبيّ وتراجِـم ونقـد, موسى أبو رياش / الأردن | 27 آب (أغسطس) 2012 - 11:15 1
يكفي الأخ فريد فضلاً أن عرفنا بعلم مغربي هو ابن تاويت واعترف أني لم أسمع به من قبل ولا كتابة الوافي.
يا لله كم نجهل أنفسنا!!