زهرة زيراوي المغرب
حوار: الحسن الغشتول
الحسن الغشتول: "نريد أن تشرف على نشر الإبداع لجان مؤسساتية نزيهة"
تقديم:
د. الحسن الغشتول: دكتوراه في الآداب. أستاذ وباحث متخصص في النقد والأدب. مهتم بخطاب الرحلة وعضو مؤسس للجمعية المغربية للبحث في الرحلة. أسندت إليه عدة مهام في مجال الإشراف التربوي وتأطير التداريب العملية، في نيابات وزارة التربية الوطنية، والمدرسة العليا للأساتذة. عضو الهيئة الأكاديمية في جامعة لاهاي العالمية للصحافة والإعلام. من مؤلفاته: الأدب بين الإمتاع والالتزام ؛ رحلة في آفاق المشرق والمغرب؛ بين الفكر والنقد؛ الرحلة العربية الإسلامية وآفاق الحوار الحضاري؛ كتاب خاص عن الشاعر أحمد بلحاج آية وارهام، بمشاركة بعض الباحثين والأدباء؛ رواية عن مدينة تطوان؛ رحلة مكية.
زهرة زيراوي: شاعرة وفنانة تشكيلية مغربية.
الحوار
س ـ عرفتك شاعرا و قاصا ثم تفتح الآن باب المقاربات النقدية، لماذا النقد؟
ج قد أفردت جانبا مهما لهذا الأمر في مؤلف لي عن الفكر والنقد، حيث انطلقت من مشروعية الوقوف عند منعطفات جمالية يلتقي فيها الكاتب والقارئ. كنت مقتنعا بأن لكل منهما عالمه المستقل وشخصيته الفكرية والجمالية المتفردة. ولقد ثبت لي أن اللقاء بينهما يظل متجددا ومتوهجا، لأن الأثر الأدبي ـ من حيث هو شكل فني. يبقى متميزا عن صاحبه. وأبعد من ذلك، يخضع للقراءات التي يضيف فيها القراء من مخزونهم ومن عطائهم ما يوسع المعاني، تختمر الفكرة العظيمة في ميزان النقاد الذين يتسع صدرهم لجمال اللغة وسحر الاستعارة ، فيميطون اللثام عن أسئلة يطرحها العصر تناولها الأديب
س ـ ماذا عن أدب الرحلة لماذا تم هذا الاختيار؟
ج ـ يرجع سر اهتمامي بالبحث في أدب الرحلة إلى سنوات مضت، وتحديدا عندما كنت أحضر أطروحتي في موضوع تنوع البنيات الثقافية وتحاور الحضارات في خطاب الرحلة العربية قبل عام 1997م. وكنت أومن أشد ما يكون الإيمان، بأن البحث في أمهات المصادر اللغوية العربية القديمة، يفيد في ملامسة حقيقة مفهوم الرحلة، فكلما أحطنا بما تتضمنه هذه المصادر، زاد اقتناعنا بأن تلازما فعليا يحصل بين الرحلة والحركة؛ فلا تُفهم الرحلة بمقتضى هذا التلازم، إلا بوصفها تحولا أو تعاقبا ينشأ عن اختيار لمسار معين. وانسجاما مع هذا، فإن الرحلة إلى بيت الله تحول منظم وفريد بقدر ما تجسده حركة ظاهرة في مجال جغرافي وظرف زمني معينين، يتعين أن تستصحبه إرادة باطنة للتغيير الجذري في السريرة، أليستِ الرحلة في شعيرة الحج ـ كما عاشها المسلمون وما فتئوا يعيشونها ـ تفكيكا زمنيا داخليا، أو زلزالا باطنا، يرجح وتيرة الحركة المطمئنة للنفس.
س. وماذا عن الرحلة البحرية؟
ج ـ لا ننسى الرحلة البحرية وأسرارها الجمالية؛ فطبيعي أن يكون لهذه الرحلة الأثر البالغ في ميدان الفنون الأدبية، لا سيما وأن الأسطورة تمثل سندا قويا للأدب في كل عصر. فما معنى أن يبلغ فنا الملحمة الشعرية والساجة ذروتهما مع المهاجرين البحريين الهلينيين، والسكندنافيين الأنجلوسكسونيين؟ مما لا ريب فيه إذن، أن تمجيد بعض الأعمال الأدبية كالساجة، أو الإدّة الكبرى، أو البيولف، كان استجابة لطبيعة الرحلات البحرية التي عمقت الإحساس لدى أصحابها بحاجتهم الذاتية إلى تحقيق كيان قوي.. إن إشارة علماء الحضارة مفيدة جدا؛ لأنها تكشف عن وجه الحقائق الحضارية التي لا تُعرف إلا بواسطة الرحلة بحرا، وهذه الإشارة يصلح تعميمها واختبارها، في النظر إلى حضارات عديدة، ومنها الحضارة العربية الإسلامية التي أخذ فيها ركوب البحر بعدا سحريا وجماليا خاصا.
س. في إحدى المحاضرات تحدثتم عن علاقة الفلسفة بالأدب وأشرتم إلى مجموعة من الأعمال : توفيق الحكيم، التوحيدي، العروي، وغير ذلك من الأعمال التي تثير السؤال الفلسفي. لماذا يغيب تسليط الضوء في مؤسساتنا على هذه الأعمال و يتم إغفالها في برامجنا التعليمية وإذا تمت الإشارة إليها فقد تكون عابرة؟
ج ـ في إطار أنشطة الجمعية الفلسفية التطوانية قدمت هذه المحاضرة ، وكانت مناسبة لأنظر في بعض اللمعات الأدبية لدى فلاسفة ومفكرين قدماء وآخرين محدثين. تصبح الاستعارة هنا وطنا خارقا وجزيرة سرمدية تتناسل فيها المعاني موصولة موشوجة بأصولها وعللها. فالظاهر أن خللا لا يصيب كل نزعة عقلانية، وإنما يصيب منها تلك التي تنزاح عن منبعها الأصيل متمثلا في الدهشة التي اعترتها. أسأل أليس من شأن العقل أن يكون قويا لو كان مدهشا بنزوعه الروحي الذي لا تقوى لغة التشيئ على وصفه ونقله؟ ويكفي أن أسوق أيضا في سياق سؤالكم أنموذجا للشاعر الناقد عبد الله بن أحمد الفيفي الذي تعرض في كتابه ألقاب الشعراء إلى قضايا فكرية يسهو عنها الكثيرون. فلقد تنبه في مختلف أبواب مؤلفه إلى عملية التوازن بين لحظة انبثاق الأثر الشعري، واللحظة النقدية عند الشاعر، ونظر إلى هذه العملية كما رصدها القارئ العربي ووصفها باختزالية رمزية من خلال استعمال صيغة اللقب الدال على روح نقدية مشاركة في بناء المعنى... فالكتابة وجدان، واختيار فكري تعضده سلطة ذوقية وفكرية للمجتمع القادر على احتضان الرسالة الجمالية وتأمين رحلة العبور الدلالي للمعنى وبالنسبة إلى د. العروي أستحضر ما ذكرته عن سيرته الذهنية، أو تحديدا عن غربة إدريس وسط مجتمع فيه هوة بين المدينة والبادية ، وبين الثقافة والمجتمع. لقد كبر على الكثيرين أن ينظروا إلى إدريس مؤمنا ، ومعتزا بأرومته ، لكنه بقي حريصا على الوفاء لبذرة الحياة التي زرعها الله في الأرض. وحسبه في ذلك أنه ذات متعقلة تؤمن بالتنوع في ظل الوحدة وتقر بالاختلاف وتحيا حياة التحول التي تشبه حياة الشجرة العارية في الشتاء ، المكسوة في الصيف.
س. ماذا عن أعمالك الإبداعية قصة و قصيدة ؟
ج ـ نشرت نصوصا في أزمنة مختلفة، وأكتفي هنا بالإشارة إلى حكايتي مع نصوص بعينها. فقصة الفتى الموريسكي التي نشرتها في جريدة الشمال عام 1998، والتي استلهمت فيها شخصية أفوقاي صاحب ناصر الدين على القوم الكافرين، هي التي لبست لبوسا جديدا في رحلة ذهنية نشرتها في عام 2007 في دار الحضارة بالقاهرة، حيث بدت شخصية الحجري أفوقاي شخصية محورية. فالحجري هو الوجه الآخر لأحمد، في ارتحاله ومواكبته لأزمنة يمتزج فيها الواقع بالأسطورة. لقد تناولت في هذه القصة المكان/ تطوان ببعده الموريسكي، ثم استدعيت صاحب رحلة الشهاب ليكون دليلا رمزيا لشخصية اشتغلت في التدريس بمدينة تطوان، وتحاورت في صمت مع أفوقاي. قلت تحاورت هذه الشخصية مع أفوقاي ثم سخِّرت لتصوغ مقترحا في علم التربية، جسده أنموذج أدبي تخييلي.
س. الملاحظ أن مؤسساتنا الثقافية عامة تروج لأنشطة جنوب جنوب/شمال شمال و حتى عندما يراد تجاوز هذه الجغرفة نرى الأنشطة لا تعم عدا أسماء معينة توجد في هذه المؤسسات و كأن الأمر يغدو عائليا صرفا بين المؤسسات، ألا ترون أن هذا يؤدي لإضعاف الشأن الثقافي و إلى تنكبه ما دام يشوبه ما يشوبه من إبعاد مقصود؟
ج ـ يؤسف عدم القدرة على تسويق الثقافة الأصيلة عندنا على نطاق واسع. وفي غالب الأحيان يتم تغيبب الشفافية ويُتعامل مع المثقف بمنظور حزبي أو إيديولوجي ضيق. وتلك آفة خطيرة، أعطت لنا نمطا تعبيريا يفتقد لكثير من الوضاءة والجمال. نريد أن تشرف على نشر الإبداع لجان مؤسساتية نزيهة، تتأتى عن طريق عمل جمعوي وفردي منسق، يعطي الاعتبار للإبداع الحقيقي . وهذا يقتضي أيضا أن تسهم المدرسة في إعداد القابلية المتوخاة. أما أن تكون اختيارات المناهج التربوية جزءا من منطق الزعامات شبه القبلية والوصايات البعيدة عن نزاهة العلم، فذلك مما يضيع على الأجيال الصاعدة فرص التعلم والتذوق السليمين. ولعلنا نتساءل مرارا لم لا يتواصل كثير من أبنائنا مع النصوص التي اختيرت لهم،
كل القرائن تشير إلى أنه يتم عادة إعداد سرير بروكست لتكون مقاسات المباريات العلمية ملائمة لأشخاص معينين. باختصار، أقول إن هذه اللجان حينما تجور، إنما تقصي نفسها...
س ـ سمعتك مرة تقول : لا يجيد النقد إلا مبدع، كيف؟
ج ـ يذكرني هذا بإضاءات مهمة في محاضرة علمية للأستاذ الفاضل الدكتور محمد بنيس الذي تحدث عن أشكال النقد الذي يختلف باختلاف مصادره. وإني أظن أن نقد الفلاسفة وكذا النقاد لا يبلغ درجة التأثير ولا ينفذ إلى مستغلقات الخطاب إلا عندما يكون مزودا بطاقة إبداعية وجذوة انفعالية. هذه الجذوة هي التي تحبب النقد إلى القارئ، بل تجعل منه نصا جديدا موازيا. فالنقد ليس أطرا وقوالب جاهزة.. وإنما هو عوالم جديدة مدهشة. هو التقاء بهيج، ومسعى جليل في اقتسام المعارف.
س ـ أمن أجل هذا تقول للنص أن يكتب هويته على مدى وفائه لسنن خفي، يخبره كبار الشعراء أمثال امرئ القيس لما يقول مكر مفر مقبل مدبر معا... ؟
ج ـ أجل، الأمر يرتبط بسنن.. إنه مواضعات فريدة، تنزع منزعا مخصوصا في التماثل.. يرنو الشاعر إلى <<كلية>> تصير فيها تجربته النغمية تأملا وجوديا واختبارا في الفكر ويقظة للشعور. المعادلة التي أتطلع إليها هي كيفية الجمع بين يقظة الضمير، وصحوة الحس الأدبي. انظر معي في هذا المنحى جمال الإيقاع وقوة اللغة وصفاء الاختيار لدى الشاعر علي الرباوي في أوراقه المكية في كتاب الشدة وهو يتحدث عن الكعبة وعن الوهج القرآني الساكن في روحه :
شِعْرِي يَسَعُ ﭐلْبَحْرَ
يَسَعُ ﭐلْجَمْرَ
يَسَعُ ﭐلأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ
لَكِنِّي حِينَ رأيْتُكِ
غَادَرَنِي شِعْرِي.
يَا فَرَحِي !..
مَا غَادَرَنِي دَمْعِي ﭐلْفَوَّار
فالكتابة شكل من أشكال الرحلة، وكذلك فعل القراءة. والصمت لغة تعبر عما لا نستطيع البوح به.