مقتطفات: د. زكي مبارك
الحاسة الفنية
الموازنة بين الشعراء
هذا تعبيرٌ حديثٌ يقابل "حاسة الذوق" أو الذوق السليم" في عرف المتقدمين. والحاسة الفنية في نظري أدق من سلامة الذوق، لأن فيها من معنى الفاعلية والإحاطة ما لا نجده في التعبير القديم. وهي ترجمة لكلمة sense التي يراد بها في هذا المقام أن تؤدي معنى ملكة التمييز، أو قوة الإدراك. ومع أنها أدق، فهي تشمل سائر الفنون بخلاف كلمة "الذوق"، فإنها قد تكون بمعنى الشعور بالحسن، وقد تكون عبارة عن الميل الخاص.
وقد بيّنا في البحث الأول أنه يجب أن يصل من يتصدر للموازنة بين الشعراء إلى درجة عليا في فهم الأدب، وأن يصبح وله في النقد حاسة فنية تنأى به عن كل ما يفسد حكمه من الأهواء والأغراض. وذكرنا أن من الناس من يطرب للشعر لا لأنه شعر، بل لأنه طرق موضوعا يحبه، وكشف عن معنى تميل نفسه إليه. وقد لا يكون ما سمعه أو قرأه جميلا من الوجهة الفنية، ثم ضربنا لذلك الأمثال.
والآن نعود إلى "الحاسة الفنية" بشيء من التفصيل، فنذكر كيف عوّل عليها المتقدمون من رجال البيان، ونبيّن الوسيلة إلى الظفر بهذه الموهبة العزيزة المنال، ثم نميط اللثام عن حقيقة هذه الحاسة التي لا تظهر ظهورا جليا إلا حين نمعن في الخفاء.
يرى صاحب "المثل السائر" [ابن الأثير] "أن مدار علم البيان على حكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وأن الدربة والإدمان أجدى على القارئ نفعا، وأهدى بصرا وسمعا، وأنهما يريانه الخير عيانا، ويجعلان عسره من القول إمكانا، وكل جارحة منه قلبا ولسانا".
ويقول لقارئ كتابه: "فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطأك، وما مَـثـَلي فيما مهدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا، ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبا، فإن حمل النصال غير مباشرة القتال" [1].
ومعنى هذا أن كتب القواعد لا تورث القارئ "الذوق" ولا تمنحه "الحاسة الفنية"، وإنما يكسب ذلك بالدربة والإدمان على مطالعة الكلام البليغ، والقواعد لا تنفع من لا ذوق له: كما لا ينفع السيف من لا قلب له.
وإنما يبلغ الإنسان طاقته = = ما كل ماشية بالرحل شِملال [2]
ولكن لا تحسب أن إدمان الاطلاع كاف لكسب الذوق، بل يجب أن تكون المطالعات مصحوبة بالفهم، والتذوق لجمال القول وسحر البيان. إما إذا كان الغرض من القراءة حفظ الشواهد والأمثال —كما يفعل رجال اللغة والرواية— فإنه يبعد أن يظفر القارئ بالحاسة الفنية.
وهذا أبو العباس المبرد كان عمله واطلاعه يذكر أنه كان يحتاج إلى اعتذار من فلتة، أو التماس حاجة، فيجعل المعنى الذي قصده نصب عينيه، ثم لا يجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولا سبب لذلك فيما يرى إلا أن المبرد لم يعن بدرس أسرار البلاغة، وإنما انصرفت همته إلى اللغة والرواية، والنحو، والتصريف. ومن هنا لم يحسن الاختيار.
= = =
[1] المثل السائر، ص 3.
[2] الشملال = الناقة الخفيفة.
= =
مبارك، زكي. 2012. الموازنة بين الشعراء. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص ص 49-50.
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي