زكي شيرخان - السويد
عُقوق
أمس، توفي جاري الْجُنُب، الأستاذ عفيف المكنى أبي دريد. الحزن عليه بدا واضحا على وجوه جميع سكان الزقاق. جاورته على مدى سبعة عشر عاما، منذ شرائي للدار الملاصق لداره. لم تمضِ فترة طويلة حتى ربطتني به علاقة وطيدة ارتقت لصداقة لم يحل فارق السن بيننا الذي قارب العشرين عاما دون نشوئها.
رجل وقور دون تعالٍ، متواضع دون تدنٍّ، دَمِثُ الخُلق. لا تُملُّ صحبته رغم قلة كلامه. سنوات طويلة قضاها في التدريس حتى أصبح مديرا لمدرسة ثانوية. عُرف بين زملاءه المدرسين بجده وإخلاصه في إداء واجبه، وكذلك بحزمه مع الطلاب دون قسوة.
بعد أن أحيل على التقاعد ركن إلى الدعة والهدوء، واختط نمطا يوميا لا يكاد يتغير.
في الصباح بعد أن يتناول فنجان القهوة، يستبدل ملابسه، ويخرج مُتريِّضا بكامل هندامه الذي يحرص على الظهور به. من يراه يظن أنه خارج إلى عمله. رحلة التريّض الصباحية، التي تستغرق ساعة، تنتهي بعودته محمّلا بصحيفتين يوميتين، وأحيانا ثلاث، وربما مجلة أسبوعية أو شهرية.
بقية يومه يقضيه بين قراءة الصحف والمجلات والكتب، ومساعدة زوجته في المطبخ، والاستماع لنشرتها اليومية عن أحوال الجيران والأصدقاء والأهل، وبين تشاغله بالحديقة.
أيام أسبوعه قسمّها لممارسات يحرص عليها. الأربعاء، للقائي به في داره ولعب طاولة النرد البارع بها. الخميس، الذهاب الى مقهى للقاء الأصدقاء ومن زاملوه في الوظيفة المتقاعدين أو الذين على وشك. أغراني ذات مرة أن أرافقه. وجدتهم قومٌ لطفاء. أحاديثهم، ونقاشاتهم تدور حول الشعر، والكتب، وسرد ذكريات ما مر بهم خلال فترة وظيفتهم.
صرت مولعا بمرافقته رغم أنى الأصغر سنا بينهم. كنت أشعر بينهم أني أحد طلابهم القدامى.
الجمعة، يمضيه مع ابنه، دريد، وكَنّته وابنتهما، ومع ابنته وصهره وولديها، الذين كانوا يزورونه بانتظام تقريبا، فيفرح بحفيدته وسبطيه. "يملئون حياتي وحياة جدتهم" حسب وصفه.
هذا هو الأستاذ عفيف، أبو دريد، الرجل الطيب في زمن تَنَزَّرت فيه الطيبة وكادت تنعدم.
في سنواته الأربع الأخيرة، عاش وحيدا بعد وفاة زوجته بعد مرض لم يمهلها كثيرا. لم أرَ مثله رجلا جَلُد على تَحمُّل موت عزيز على قلبه. حتى في تشييعها ومجلس العزاء، كان وقاره يغطي حزنه المكتوم بحرص شديد. لكن، بعد ثلاثة أشهر تقريبا، بان تغير واضح عليه أقلقني. بدا شاردا، حزينا، انحنت هامته. فقد الرغبة في لعبة الطاولة التي كانت إحدى متعه. فقد حماسته في لقاء أصدقاءه. قررتُ، وقد حثتني زوجتي على ذلك، ألّا أتركه وحده ما استطعت. بت أزوره أكثر من مرة في الأسبوع. وبشيء من الإغراء والضغط كنت آخذه في سيارتي في جولة في المدينة مستغلا معرضا للكتاب، أو معرضا فنيا.
لم تنجح محاولاتي لإخراجه مما كنت أظنه شعور بالوحدة. لم يعد ابنه وابنته يزورانه، فقط صهره الذي يأتيه بين الفَيْنة والأخرى. لم يعد أمامي إلا أن أكون مباشرا معه. أحدّثه عما يعتريه، لكن عليّ أن أكون حذرا معه لحساسيته المرهفة.
= "صحيا لا أشكو من علة، أو وعكة. أم دريد رحلت بجسدها، ولكنها ما زالت بروحها معي. تحدثني دوما. تستذكر معي كل جميل مررنا به. سعادتنا بأول حفيد. وفرحها الغامر بحفيدتها حتى أنها أبدت لي رغبتها بأن تُسمّى باسمها، ولكنها لم تطلب من دريد ذلك. لا تظن أن رحيلها قد أثر على مقدرتي العقلية. يوما ما، عندما يتقدم بك العمر، ستجد نفسك تستبدل الكلام مع زوجتك بلغة الصمت. ستحاور زوجتك بتعابير وجهك، ونظرات عينيك. لا تحتاج لمفردات متداولة. ما يعتريني حزن أكبر من فقدان أم دريد. لا أريد أن أشغلك بهَمّي وغَمّي".
محاولتي أينعت. عليّ ألّا أبدد الفرصة للتخفيف عنه. أقوانا يحتاج أن يفضفض لمن يجده أهلا لحفظ ما يدور في المجالس. حثثته على الكلام.
أخبرني، أنه قبل مرور شهرين على وفاة زوجته، جاءه ابنه وابنته وطلبا منه بيع البيت، والانتقال للسكن مع أحدهما. استهجن الطلب الغريب المُغلّف بحرصهما على ألّا يعيش وحده. رفضه بشدة:
"جثتي فقط هي من سيترك البيت الذي جمعني بأمكما".
قاطعاه، وحرماه من رؤية أحفاده ظنا منهما أنها نقطة ضعفه التي ستجعله يخرّ كبنيان بالٍ. بعد أن عرف صهره بما جرى، ظل يزوره وحده على فترات متقاربة، ولكنه لم يجلب ولديه معه، معتذرا. وعندما أعفاه من هذه الزيارات.
= "أرجو، يا عمي، ألّا تحرمني من لقائك".
كان الألم مقرونا بحزن عميق ظاهرا على تقاطيع وجهه وهو يسرد.
= "منذ تشكل وعيي، لم يفاجئني حدث مهما كان غريبا. الحياة مليئة بما لا يُتوقع. لا موت أحد، ولا نشوب حرب بلا سبب، ولا انتشار وباء، ولا قطع رَحم. ظننت أن من يزرع شجرة تفاح لن يجني ثمارها حنظلا. بِئس ما ظننتُ.
"يمكن أن يُفهم مثل هذا التصرف من أبناء لم يجدوا الرعاية الكافية من الوالدين مقرونة بقسوة غير مبررة، أو حرمان عاطفي، أو...، أو... مثل هذه القصة تتكرر مرارا، ولن تنتهي، وهذا عزاء لي ولغيري. ما آلمني، وما زال، ليس ما طلبوه، ولكن الخِسّة في محاولة تنفيذ خطتهم بحرماني من أحفادي. تقدم العمر بي. تقلّصت حاجتي للمتع الحسية، فأخذتْ المتع النفسية تنمو.
"تمتعتُ بنجاح أبنائي في حياتهم. كوّنوا عوائل وهي امتداد لي. سعادتي بأحفادي لم تعد تدانيها أخرى. هم من ملء الفراغ الذي تركته السنوات الطوال التي عشتها. ليت هذا الأمر لم يحدث وأنا أدنو من نهايتي. ما ضرهم لو انتظروا موتي ليرثوني؟ ما لا أتمناه لهما أن يُعاملا من أولادهم بنفس الطريقة".
مع الأسابيع والأشهر التي كرّتْ تباعا، تعمق الحزن داخله، لكنه ظل متماسكا، وقورا، مهابا أمام الأخرين. وجدت فيه مصداقا لمقولة عمي عندما مات ابنه الشاب: "الحزن يهد الرجل، ويحني ظهره، حتى وإن لم يبدُ عليه".
كنت أرى الرجل قد تحوّل لهيكل خاوٍ. رجل فقد الرغبة باستمرار حياته.
مات الأستاذ عفيف كمداً. سنواته الأربع الأخيرة كانت الأصعب عليه. حُرم من رؤية أحفاده. ووري جثمانه الثرى، ومعها دفنت أحزانه ومأساته التي لم يعرفهما أحد غيري. سالت دموع صهره بغزارة وكأنه يريد بها أن يغسل آثار عجزه حتى من فتح هوة في جدار العزلة التي فرضتها زوجته وأخوها.
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● إحباط
- ● فنجان الكابتشينو
- [...]
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ