مختارات: هشام البستاني - الأردن
الكيانات الوظيفية
أدناه مقنطف من كتاب " الكيانات الوظيفية: حدود الممارسة السياسية في المنطقة العربية ما بعد الاستعمار" للكاتب والباحث الأردني، هشام البستاني. الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021.
.
من يمثل المسألة: فلسطين أم الاستعمار الاستيطاني؟
عندما يتعلق الأمر بالاستعمار الاستيطاني لفلسطين، يبدأ النقاش غالبا من مدخلين مضللين: الأول ينطلق من اعتبارها "قضية" أو "مسألة" فلسطينية، فيقال "القضية الفلسطينية" أو The Palestinian Question؛ والثاني (وهو نتيجة للأول)، أن هذه القضية، أو المعضلة، أو المسألة، تحتاج إلى حل أو إجابة (solution)، ويتعلق الحل هنا –طبعا—بفلسطين، والفلسطينيين.
هناك إشكاليتان أساسيتان تتفرعان عن هذه المقاربة:
الأولى: أنها تبدأ من على ملعب الظالم وبقوانينه، وبهدف مسجل مسبقا في شباك المظلومين: "فلسطين" (الانتدابية) هي رؤية لاحقة على الاستعمار، ناتجة عنه، تثبّت نتائجه المتمثلة بخرائط الحدود الانتدابية التي تمهد لـ"إسرائيل"، وتجعل من الجغرافيات السياسية الأخرى الملحقة بها والناتجة عنها كيانات وظيفية، مفرغة من إمكانيات التحرر، ومرتبطة عضويا بالمآلات اللاحقة عليها (لا شرعية مجموعاتها الحاكمة، الأصيلة البنيوية، انعزاليتها وهوياتها الوظيفية، ارتباطاتها وتبادليّاتها الوظيفية).
والثانية: أنها فهم معكوس للموضوع، فالقضية أو المسألة التي تحتاج إلى حل، هي ليست "فلسطين" ولا الفلسطينيين، فهؤلاء (منذ ما قبل الجغرافية السياسية الانتدابية) هم الثابت، القار، المستقر، الموطن، الحالة التي دخل عليها القتل والطرد والتشريد والظلم والاضطهاد والتغيير. القضية التي تحتاج إلى معالجة، والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة، والمعضلة التي تحتاج إلى حل، هي الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وكيانه ("إسرائيل").
من هاتين النقطتين، يجب أن ننطلق لنناقش الأمر، ونعيد صياغة المنظور بما يتواءم مع زاوية نظر نرى من خلالها السياقات التاريخية التي أوقعت الظلم وانتهكت وشردت وقتلت واعتدت، وصنعت الجغرافيات السياسية ووظيفيّتها، لا من الزاوية التي نرى من خلالها النتائج، ونعيد تركيب الموضوع معكوسا، انطلاقا من النتائج، وممن وقع عليه كل ذلك. الأصل أن نذهب للمسبّـب في مقاربات الحل، لا للـعَـرَض الناتج عنه، وإلا ستكون المحصّلة أن يتحول الـعَـرَض إلى سبب، وأن تتركز المقاربات في محاولة التعامل مع الـعَـرَض، الأمر الذي يثبّت السبب ويفاقمه، بل ويحوله إلى جزء من الحل.
مثلا: واحدة من أهم الأعراض الناتجة عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، هي اللاجئون. فلنلاحظ كيف تحول اللاجئون الفلسطينيون إلى مشكلة تبحث عن "حل"، بينما تحول المسبّب إلى طرف ثالث وجزء من معادلة الحل، وهو انقلاب مفاهيمي كامل يتحول فيه الضحية إلى "مشكلة" (أو مسألة أو قضية)، فيما يصير الجلاد ثابتا سياسيا وشريكا في صياغة الإجابة.
واحدة من هذه الإجابات عن السؤال الذي يحول الضحية إلى مشكلة، هي "الدولة الفلسطينية" التي ستُـحل فيها قضايا عدة، منها "الكيانية السياسية" للفلسطينيين، و"الهوية"، و"الوطن"، وغيرها، وتقوم فيها الجنّة المفترضة للفلسطينيين المشردين في أربعة أنحاء الأرض، الذين يتعرضون لأشكال مختلفة من التمييز والاضطهاد، خصوصا في الكيانات الوظيفية العربية الأخرى.
هذه المقارنة، التي تأخذنا بعيدا عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وكيانه "إسرائيل"، وتحاصر الضحية في زاوية البحث عن حلول لمعضلات لم تصنعها، وتطالبها بأن تجد حلا لأزمات لم تخلقها، غالبا ما تنحصر في إجابة من إجابتين، كلتاهما تأخذ شكل "الدولة": الدولة الفلسطينية التي تقوم إلى جوار "إسرائيل"؛ أو دولة واحدة على كامل مساحة فلسطيني الانتدابية ("الدول ثنائية القومية" أو "الدولة الديمقراطية العلمانية").
تاليا، سأناقش التضليل القائم على الانطلاق من مفهوم معكوس، يطالب الضحية باجتراح الحلول لتصفية نفسه باعتباره مشكلة، والتضليل المركب عليه، الذي ينطلق من قاعدة أن "الدولة"-الكيان الوظيفي (أيا كان شكلها) هي الكفيلة بأن تكون الإجابة السحرية.
= = =
البستاني، هشام. 2021. الكيانات الوظيفية: حدود الممارسة السياسية في المنطقة العربية ما بعد الاستعمار. المجلد الأول: في الفرق بين الدولة والكيان الوظيفي: الجذور؛ الهوية؛ التبعية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص ص 135-137.
- غلاف كتاب هشام البستاني
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي