عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

الصفحة الأخيرة - عدلي الهواري

أكثر من حب: ملاحظات على الهامش

رسائل محمود شقير وحزامة حبايب


عدلي الهواريثمة نقاش متكرر حول نشر الرسائل المتبادلة بين شخصين. فريق يعتبر الرسائل الشخصية جنسا أدبيا، كالقصص القصيرة والرواية، وبالتالي نشرها لا يختلف عن إصدار مجموعة قصصية أو ديوان شعر. فريق آخر يرى أن الرسائل الشخصية تتضمن شؤونا خاصة ويجب أن تظل كذلك.

عندما نشرت الروائية السورية، غادة السمّان، في عام 1992، رسائل الكاتب والمناضل الفلسطيني، غسان كنفاني، بعد سنوات من اغتياله في لبنان، أثار النشر جدلا لم يختف تماما بعد. أخذ على السمّان نشر رسائل كنفاني إليها وخلو الكتاب من رسائلها إليه، وقدمت تبريرات غير مقنعة لذلك. وكررت السمان التجربة في عام 2017 بنشرها رسائل الشاعر اللبناني، أنسي الحاج، إليها وأيضا بعد وفاته.

في الآونة الأخيرة (حزيران 2021) صدر كتاب يضم رسائل متبادلة بين الكاتب الفلسطيني المخضرم، محمود شقير، والروائية الفلسطينية، حزامة حبايب، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. فترة تبادل الرسائل 2005-2007، أي قبل نحو خمسة عشر عاما.

تم النشر بعلم وتعاون الكاتبين، وكلاهما على قيد الحياة، وبالتالي لا مجال لنشوء جدل حول إقدام أحدهما على نشر الرسائل دون علم الآخر، أو بعد وفاة أحدهما، بل إن شقير في إحدى الرسائل يوصي حبايب بنشر الرسائل إذا سبقها في الرحيل:

"وأنا أوصيك أن تهتمي بهذه الرسائل التي كتبناها حتى الآن، وتحدثنا فيها عن بعض همومنا أثناء الكتابة وقبلها وبعدها" (ص 172: 8/2006).

من الطبيعي أن يشعر كاتب/قارئ برغبة في كتابة مراجعة لكتاب قرأه، ولكني قررت عدم كتابة مراجعة تعتمد على عرض محتوى الكتاب لأن الطبيعة الشخصية للرسائل تجعل التعليق على ما لفت نظري كقارئ محل اعتراض إن كان إشادة أو نقدا، وأساسا لإطلاق تهمة تمسيح الجوخ أو الإساءة. لذا، بدلا من عرض المحتوى الذي لا يمكن إلا أن يكون انتقائيا، سوف أبدي ملاحظات عامة تولدت في نفسي بعد إتمام قراءة الكتاب.

هل الرسائل جنس أدبي؟ الكتاب الجديد عزز في نفسي القناعة بأنها ليست كذلك. هناك تمييز بين الكتابة العادية والكتابة الأدبية. الكتب السياسية مثلا لا تعتبر أدبا، أما الرواية فتصنف أدبا تلقائيا، مع أن أسلوب كتابتها قد لا يكون فيه ما يميزه ويجعل القارئ يحس بنكهة مختلفة للكتابة تكسبها صفة "أدبية"، وهي سمة فضفاضة لا تقاس بدقة.

من الملاحظات العامة شعور الارتياح لدى الطرفين في رسائلهما. من مصادر هذا الارتياح أن شقير يكبر حبايب عمرا، وهو كاتب غني عن التعريف، وحبايب معجبة به ككاتب منذ قرأت له وفكّرت في أن تدخل ميدان الكتابة. وحبايب في المقابل وقت تبادل الرسائل كان نجمها في صعود. فارق العمر وفر الشعور بالراحة والأمان للطرفين، فهي تتعامل معه مطمئنة أنها تتراسل مع من تستطيع الثقة به وتعبر عن نفسها على سجيتها، وشقير وجد متنفسا له لتبادل الآراء مع كاتبة معجبة بتجربته، وفي الوقت نفسه، هو أيضا متابع لتجربتها وواثق بمقدرتها.

يتسم شقير بالتواضع، فهو لا يتواصل مع حبايب من موقع أنه الأقدم في الكار ولا يمارس دور الأستاذ، بل يكرر ترحيبه بملاحظاتها على ما كتب من قبل، وهي أيضا تبدي له بعض الملاحظات استجابة لطلبه. يتكرر في رسائل حبايب وصفها لما تكتب في الرسائل بأنه "ثرثرة" ويتكرر اعتذارها عن "الإطالة" مع أن الرسالة لا تكون طويلة: "كعادتي التي لا أتورع عنها أطلت أكثر مما ينبغي" (ص 191: حبايب: 1/2007).

الرسائل في النصف الأول من الكتاب موضوعها الكتابة، وبعد ذلك تبدأ جوانب إنسانية تظهر في الرسائل. حبايب تشير إلى أوضاع عائلية تعاملت معها، وشقير يشكو من كثرة المناسبات الاجتماعية التي يتعين عليه المشاركة فيها:

"كثرة المناسبات الاجتماعية في هذه البلدة المسخوطة تعكس نفسها عليّ، وتجعلني في حالة استنفار دائم لممارسات يومية مسطحة، تأخذني من حالة العزلة التي لا بد منها للتأمل وللكتابة، وللقراءة كذلك" (ص 83: شقير: 10/2005).

ويظهر في الرسائل تسلل الشك إلى نفسيهما في أن كل ما كتبا ونشرا لا طائل منه، ولكن يشجع أحدهما الآخر على تجاوز هذا الشعور.

من الملاحظات العامة الأخرى أن الكتاب يعطينا فكرة عن العلاقات في الوسط الثقافي، فعندما تنشأ صداقة بين كاتبين يقدّم أحدهما الدعم للآخر بترشيحه للمشاركة في مؤتمر، أو ترجمة قصة له، وتعريفه على صديق/ة في موقع مؤثر كمشرف على صفحة ثقافية في صحيفة ما، أو مؤسسة. حتى كاتب مخضرم مثل محمود شقير يوصى به مع أن عدم إلمام مهتم بالشأن الثقافي بتجربته له انعكاس سلبي على من تعرّف عليه بعد توصية من صديق/ة مشترك/ة.

محتوى الرسائل يدل على أن الصداقة هي "أكثر من حب". الصداقة التي نشأت بين شقير وحبايب دليل على أن الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة، ولكنها بحاجة لطرفين ناضجين مثلهما. ومع أن النمط السائد في النظر إلى الحب والصداقة يعلي شأن الحب ويمجده أكثر من الصداقة، إلا أن الحب يذبل بسرعة في أغلب الأحيان، أما الصداقة فتدوم.

عندما قرأت الرسائل بين شقير وحبايب لم أخرج من إطار الانطباع بأني أقرأ رسائل شخصية. إحساسي كان كمثل شخص جلس مع الاثنين واستمع إلى حديثهما دون أن يشارك فيه. حديث خاص اطلعت عليه وانتهى الأمر. لم يكن في الرسائل نقاش أو سجال حول مسائل أدبية أو نظريات.

هل صحيح أن قراءة الرسائل المتبادلة مدفوعة بحب الأدب وأجناسه المختلفة؟ يجب ألا نستبعد الفضول كدافع أيضا. لا يمثل الكتاب دليلا على أن الرسائل الشخصية جنس أدبي، في هذه الحالة، أو في حالتي رسائل غسان كنفاني وأنسي الحاج إلى غادة السمان.

= = =

JPEG - 63.7 كيليبايت
غلاف أكثر من حب: شقير حبايب
D 1 أيلول (سبتمبر) 2021     A عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص     C 0 تعليقات