عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عدلي الهواري

كلمة العدد 69: عن الانتماء لقيم


عدلي الهواريعندما يتعمق الإنسان في مفهوم الانتماء، سيجده فضفاضا كغيره من المفاهيم، ولكنه مفهوم شائع ويولى أهمية كبرى.

في بعض الحالات يكون الانتماء على شكل عملي كالانتماء إلى منظمة سياسية أو رابطة مهنية، بمعنى أن يختار الإنسان العضوية فيها، وممارسة ما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات.

هناك انتماءات كثيرة رسمية وغير رسمية، بعضها يكون إلزاميا ومطلوبا، وبعض آخر يتم الانتماء إليه بمحض الإرادة.

ثمة تأكيد دائم على أهمية الانتماء، ولكن سياق الأهمية يختلف من شخص لآخر، فقد يكون هناك تأكيد على أهمية الانتماء إلى بني البشر من ذوي البشرة البيضاء، وينطوي ذلك على النظر بعنصرية إلى كل من له لون بشرة مختلف.

أحيانا يطالب الانسان بالانتماء إلى ثقافة جديدة تشمل أمورا لم يعتد عليها، فالمهاجر العربي أو المسلم في الغرب لا يكون في العادة متقبلا لتناول المشروبات الكحولية وأكل لحم الخنزير. البعض يتجاوز ذلك، ويصبح الأمر عاديا. الأغلبية لا تفعل، وتبقى منتمية إلى هذا الجانب من ثقافتها الأصلية.

ومن ناحية ثانية، رغم سعي الانسان المهاجر أو اللاجئ للانتماء إلى البيئة الثقافية الجديدة يبقى انتماؤه مرفوضا، رغم الحصول على الجنسية الفرنسية أو الأميركية أو غيرها، فامتلاكها يعطيه حقوقا قانونية وما يترتب عليها من حقوق أخرى كالحقوق السياسية التي تشمل حق المشاركة في الانتخابات كناخب أو مرشح. ولكن باستثناء حالات قليلة، يكون الانتماء إلى الثقافات الجديدة قانونيا، ويبقى الاجتماعي محدودا. وكثيرا ما يطالب المهاجرون بالاندماج في المجتمعات الجديدة، ويغيب عن مطلقي هذه الدعوات الصد الذي يلقاه المهاجر في محاولته الاندماج.

من الانتماءات الطوعية انتماء الانسان إلى قيم، ومع أن ايحاء معنى كلمة "قيم" إيجابي إلا أني أود أن اعتبر القيم من نوعين: القيم السلبية، كالجشع والأنانية، والقيم الايجابية كالأمانة والتواضع. رب قائل يقول: "كيف يمكن وضع الجشع في قائمة القيم؟" السبب أن الجشع قد لا يعتبره ممارسوه قيمة سلبية، فالساعون إلى الثروة بلا حدود يعتبرون ذلك قيمة ايجابية لا سلبية، بينما يراها آخرون سلبية لتحولها من جمع ثروة إلى جشع، ولذا لا يخلو التصنيف من حكم شخصي على ما هو سلبي وإيجابي.

خلال جيل أو اثنين على الأكثر حدث في العالم العربي اختلال في الانتماء إلى القيم، فبعدما كانت القناعة كنز لا يفنى، صار تكديس الأموال بلا حدود غاية. وبعدما كان الطالب يحترم أستاذه ويعمل بمقولة "من علمني حرفا كنت له عبدا" اصبح الأستاذ يتعرض للضرب من الطالب.

وبما أننا اليوم في عصر المطالبة بالحرية والكرامة في العالم العربي يلاحظ أن بعض المطالبين بالحرية لا يرون فيها إلا بعض الحقوق الفردية، كحرية تناول المشروبات الكحولية أو حرية أن يتصور الشخص عاريا وينشر الصور على الملأ. والتبس فهم الحرية على البعض بحيث أنهم نسوا أن البلدان العربية حصلت على الاستقلال بعد تضحيات جسيمة، وما يهمهم الآن هو الاستقلال الشخصي الذي هو في الواقع وهم إذا كان في إطار لا يوفر للجميع الحريات العامة المتعارف عليها ضمن الميثاق العالمي.

وينسى المهتمون بحقوقهم الشخصية أولا، التي تختلف من شخص إلى آخر، أن الحريات الفردية مختلف على حدودها حتى في الدول التي تكفل للفرد عدم التدخل في شؤونه الشخصية، فتعاطي المخدرات مخالف للقانون، وحرية التعري عندما تتحول إلى أفلام جنسية توضع عليها قيود إذا لم تكن ممنوعة.

ثمة قيم تتغير، لا شك في ذلك، وهذا أمر طبيعي وصحي. على سبيل المثال، كان تعليم المرأة أو عملها أمرا غير شائع، أما اليوم فهو شائع جدا. ولكن هناك قيم يجب أن تبقى ثابتة كالصدق والأمانة، والحرص على الحقيقة، وأن تحب لغيرك ما تحب لنفسك. قائمة القيم الإيجابية طويلة، وقد أكون "دقة قديمة" في نظرتي إليها، ولكني أرى حاجة اليوم للتذكير بها، وفي رأيي أن الانتماء لها أعلى درجات الانتماء.

D 25 شباط (فبراير) 2012     A عدلي الهواري     C 5 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • كم يحتاج الإنسان في العصر الحديث إلى مراجعة انتمائه القيَمي والأخلاقيّ وفهم دوره وغايته من وجوده. وما أحوجه إلى فهم ثقافة الواجب الّتي تحتّم عليه فهم موقعه في العالم الحديث.
    إذْ لم تعد القيم من الثّوابت في العصر الحديث، وبات الأصيل منها في غربة بين بني البشر. فقد تغيّرت المفاهيم بتغيّر الإنسان وبقدر انفتاحه على الآخر وفهمه لثقافته وردود فعله حول المختلف والمؤتلف في الثّقافات الأخرى الّتي صار الاتّصال بها والتّواصل معها سريعا جدّا. فما كان دالاّ على انتماء الإنسان صار جزءا من اغترابه. والمشكلة ليست في تحديد المفاهيم فحسب، ولكن في دور التّفكير في تأصيل الذّات فردا وجمعا وفي تواصلها مع الآخر تواصلا سليما يضمن التمتّع بالحرّيّات الفرديّة والواجبات تجاه الجماعات.
    والحلّ في رأيي، هو الوعي بأنّ الأخلاق والقيم الثّابتة الأصيلة لا تحتاج إلى رقيب لأفعال الفرد "الحرّة" عندما تنغرس سليمة في وجدان الفرد والجماعة وفي سلوكهم ، ويظلّ الخوف دائما أن نواجه اليوم، وبعد الثّورات لأجل الحريّة والكرامة، جماعات مفرغة من الفكر والأحاسيس والمشاعر النّبيلة. أو قُل قوالب صمّاء خاوية من القِيَم.


    • الدكتور عدلي لقد تناولتم بشجاعة ما يطالعنا اليوم من خلط لمعنى الحرية ، و اصطدام القيم بفوضى الحرية ؟؟... هؤلاء الذين تنكروا لقيمهم في العالم العربي و اتجهوا للغرب ، لم يستوعبوا ما جاء به صاحب الوجودية إن سارتر و هو ينادي بالحرية يوضح أن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر. ما أراه في شوارع الغرب أخف مما أجده أحيانا بساحاتنا. قواكم الله تعالى و اسلموا.

      زهرة زيراوي-المغرب)

  • ** كلمة العدد 69 **
    مرحبا أستاذ عدلي تطرّقت مشكورا الى منضومة يكتب في كل منها كذا تعقيب عن الانتماء والقيم وكما قلت قد يبدو من مازال متمسكا بثوابتها الايجابيّة دقّة قديمة وهنا المشكلة اذ كيف له أو لها التعايش وسط عالم انقلبت فيه الموازين واختلط الحابل بالنابل؟


  • مرحبا
    الانتماء نسبي برأيي ولايجب ان نقولبه مدى العمر . فالانتماء يتغير حسب حاجات الشخص و متطلباته و احساسه بالامان فأنا لاأؤمن بالجشع ككلمة الا انني اصنفها ضمن الخوف من الفقر و الخوف من فقدان الامان الذي مصدره الوحيد بالطبع المال بغض النظر عن الشعارات الروتانية ( نسبة الى روتانا سينما ) ان القناعة هي الاهم و المال ليس كل شيء ,ربما قبل عشرات السنين اما اليوم فيصبح اقرب اليك من الاقارب الذين لو القيت عليهم حملك المادي و ربما حتى الابناء لناءوا به و تعبوا منه . اما المندمج في حضارة اخرى فبرأيي هو سمكة لا وجدت جرفاً احتواها و لا بحراً خرجت منه تلقاها . يضل عائماً بين الاثنين . ابن بلده يقول عنه اصبحت اجنبي و متطبع بعادات من هاجرت اليهم و من هاجر اليهم يحجمونه بطابع البلد الذي اتى منه .
    اما عن قيمة احترام الاستاذ ..فالسبب الاول لعدم احترامه هو الاستاذ نفسه فاذا لم يكن معلماً حقاً و يشرح المادة بصدق في غير الدرس الخصوصي فكيف اكون له عبداً ؟ نظرة واحدة في اليوتيب على الاساتذة الذين يضربون اطفال صغار ضرباً مبرحاً من اجل عملية جمع او طرح تعرف انه لم يعد معلماً و اكبر شاهد الطفل اسلام الذي راح ضحية معلم موتور اشعبه ضرباً حتى الموت ناهيك عن الاعتداءات الجنسية التي تحدث في المدارس . القيم يجب ان تتغير و المعلم لااطيعه لانه لم يعد كما كان ( ليس الكل طبعا) القيم يجب ان تتغير حسب مفهوم العصر فلو احببت للاخر ما احب لنفسي لن اجد نفسي الا في اخر الصف فمفهوم الايثار هذا كان ينفع مع القوس و المعلقات و لو عاملته بلطف اما سيعاملني بالمثل و هنا الف ربما أو سيخالها ضعفاً مني و سادفع ثمن مفهوم و قيم زرعتها امي في قبل 42 عاماً فهل تصلح لليوم ؟ و اذا علمتها لابني فهل ستبقى صالحة 84 عاماً اخرى و لايصدم من الاخرين لاني ربيته على قيم غير التي يمكن ان يعيش من خلالها بلا قيود الانتماء و الولاء و الايثار ؟


  • الانتماء للقيم من أهم مقومات الشخصية الإنسانية السوية والفاعلة، وأشير كما أشار الأستاذ عدلي الهواري إلى قيمة الحرية التي يفسرها البعض على هواهم لمآرب شخصية، فإذا كانت تعني -حسب مصالحهم- تعني الانفلات وحرية التصرف دون قيود والتعبير دون حدود أو سقوف، وتعني بالضرورة حرية المرأة في التعري والابتذال وغير ذلك. أما إذا كانت حرية المرأة في أن تلبس ما يستر فهذا بالنسبة لهم تخلف ورجعية. وإذا كانت حريتي تتوقف عند حدود حرية الآخرين ووجوب احترامهم فهذا اضطهاد وتعد. الحرية التي يريدها هؤلاء هو أن تفعل ما تشاء كيف تشاء في الوقت والمكان الذي تشاء. وهذا لعمر الحق حيوانية لا علاقة لها بالحرية.
    ومن هنا لا بأس أن أعرج قليلاً على الديمقراطية، فصناديق الاقتراع التي تأتي بالإسلاميين -مثلاً- ديمقراطية شوهاء، لأنها تهدد مصالحهم وتحد من حرياتهم المزعومة. ولكن لو جاءت بالمتحررين لأعتبرت نزيهة ومعبرة وشفافة. أولئك يمجدون الديمقراطية عندما تنصبهم على الأمة، ويشطنونها عندما تقصيهم. أي أنهم لا يسمحون لغيرهم أن يمارس حريته في اختيار من يرونه مناسباً لقيادتهم، بل وينظرون بأن هناك ما هو أهم وأولى من الانتخابات في هذه المرحلة، وهو بناء المؤسسات وتوعية المجتمعات، ليس حباً في البناء والتوعية وإنما لتبرير فشلهم!
    كل الشكر لأستاذنا الرائع عدلي الهواري على إثارته مواضيع جديرة بالمتابعة ومثيرة للنقاش والحوار.


في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

المشهد النقدي في الجزائر قبل الاستقلال

أبعاد التصوف

حوار مع الناقد عبد الله الفيفي

بهجت أبو غربية: في خضم النضال