سليمة محفوظي - الجزائر
أبعاد التصوف
التصوف ظاهرة معقدة ومتداخلة، فهو ظاهرة تربوية في أصل وضعه، وهو بهذا الاعتبار عملية مركبة تستوعب الاجتماع والفكر والدين والأدب والفن وغير ذلك، وهو بهذه الصفة أيضا يتناول المسائل النفسية والاجتماعية على حد سواء، كما أنه يمثل ظاهرة فلسفية باعتباره معبرا عن رؤية فلسفية معينة (بصرف النظر عن التقويم)[1] وهو زيادة على ما سلف ظاهرة أدبية لها ميزتها المتشبعة بالرمزية ولغة الإشارات لدى كثير من رواد هذا العلم، إضافة إلى الفن والموسيقى. وكثيرا ما تتجلى مجموع تلك الوجوه في فعل تربوي واحد.
وقد استصحب الدارسون تلك الوجوه في دراسة التصوف، ولاشك أن تلك الوجوه تعبر عن جزء من الظاهرة، ولا تستوعب الظاهرة ككل.
التصوف ظاهرة اجتماعية[2]:
تعبر عن مجتمع مخصوص، يتميز بعلاقات اجتماعية خاصة تحكمها قواعد التصوف الملتزم به، ويركز رواد هذا الاتجاه على البيان أثر التصوف في السلوك الاجتماعي من جهة، واكتشاف الضرورات الاجتماعية الملجئة على الانخراط في سلاك التصوف ورجاله من جهة أخرى، وهو جهد وإن كان بمقدوره تفصيل القول في التفاعل الاجتماعي مع المضامين الصوفية إلا انه دون فهم التصوف من حيث كونه ظاهرة تربوية تمازح الروح وتظهر آثارها على الفرد في تصرفاته الاجتماعية مع جميع الناس فضلا عن أقرب الناس إليه.
التصوف ظاهرة نفسية[3]:
يعلم المهتمون بالتصوف أن له مظاهر أساسية على رأسها الحال النفسية للمتلقي للمادة الصوفية في تربيته ومواقفه، لهذا اهتم بدراسة التصوف من حيث كونه ظاهرة سيكولوجية، وهو بهذه الصفة موضوع خصب للدراسات النفسية ومن صميم علم النفس، إلا أنها دراسة من زاوية مخصوصة ليس بمقدورها فهم التصوف بوصفه ظاهرة روحية تتفاعل مع معطيات نصية أو تجربة روحية صرف.
نعم قد يكون من المفيد الاستفادة من الدراسات النفسية للتصوف ولكنها دون استيعاب التصوف في عمقه، فقد تبدو بعض المقامات أو الأحوال عند المهتمين بالدراسات النفسية نوع مرض أو هذيان[4]، ولكنها غير ذلك بالنظر إلى الحالات التي يكون عليها المرتقون في تلك الرتب أو المقامات.
لا شك بصعوبة الفصل الحدي بين الحالتين، ذلك أن الخط الفاصل بين بعض المقامات والحالة النفسية المرضية دقيق جدا، ولكن هذا المقام أو الرتبة تمحص بالتصرفات اليومية لمن أدعى نيل المقام، فإن كان ممن يرى عليه الصلاح في حله وترحاله، غير مقبل على دنيا مأسورا بها، وليس من شغله إقصاء الآخرين من التأطير الاجتماعي فتلك أمارة أساسية على صدق الرجل، أما إن كان (وهم كثر) من يجعل التباهي بالمقامات والتصريح بها، فهو ولاشك لم ينل حظا بسيطا من التصوف فضلا عن أن يكون من أهل الإرشاد والتوجيه، ومن كان بتلك الصفة فهو تاجر، يريد أن يسرق الدنيا بعنوان الآخرة.
التصوف ظاهرة فلسفية[5]:
اختلفت كلمة الباحثين في التصوف، فيرى بعض المناوئين للتصوف -ولاسيما وحدة الوجود- أن التصوف ليس رياضة روحية وبالتالي ليس ذوقا كما يرى بعض الباحثين [6]، بل هو وليد نظرية في الوجود والطبيعة والإنسان والمعرفة. ومال فريق آخر إلى القول بأن التصوف تجربة ذوقية ولكنه يندرج في الدراسات الأكاديمية ضمن الفكر الفلسفي ولهذا يدرس ضمن تاريخ الفكر الفلسفي[7]. ودراسته من هذا الوجه قد تفيد في معرفة تاريخ الأفكار ولكنها دون استيعاب التصوف كظاهرة مركبة، تعد الأبعاد الروحية من عمدها الرئيسية، ومن توابعها التدريب عليها في شعاب الحياة.
التصوف ظاهرة أدبية[8]:
ظهر الاهتمام بدراسة القول الصوفي الأدبي، فاهتم المشتغلون بالأدب بدراسة التصوف بوصفه ظاهرة أدبية، فانصب الجهد على دراسة الشعر الصوفي والأدب الصوفي والرمز الصوفي واللغة الصوفية، إلى آخره، كل ما شأنه خدمة مقصد النواحي الأدبية واللغوية في التصوف. ولاشك أنه اهتمام بالتعبير عن الفعل الصوفي أو المكابدة الصوفية وليس بحثا في المكابدة نفسها، وبحث هذا شأنه نافع في الكشف من النواحي المراد بيانها، ولكنه دون مستوى التغلغل في حقيقة التصوف المؤسسة على المكابدة الروحية المستندة إلى نصوص مقدسة نبتت حولها كثير من النصوص الخادمة، نصوص هي أشبه بالحواشي على متن المؤسس.
استفرغ الباحثون في الأدب الصوفي جهدهم في شرح تلك الحواشي وتحليلها أدبيا من جهة الخدمة الأدبية، كما اهتم اللغوي بالتحليل اللغوي لتلك الحواشي، فكان منها دراسة الرمز الصوفي واللغة الإشارية عند الصوفية والمصطلح الصوفي، ولاشك أن تلك الدراسات على أهميتها ونفعها في مجال مخصوص، لا يمكن أن تكون بديلا عن المكابدة في فهم ظاهرة التصوف، ذلك أن الدراسة الأدبية أو اللغوية للتصوف لا تعدو في أحسن الأحوال أن تكون دراسة للقول الصوفي وليس دراسة للتصوف من حيث كونه تفاعلا مع عمد روحية تتجلى في القول الصوفي.
التصوف ظاهرة جمالية[9]:
يكسب الشيخ الصحيح الصادق السالك دربة على تذوق الجمال، جمال الخالق وتجليات المطلق في المخلوق، كما اعتنوا بجمال القول وجمال اللحن، وقد عرفت بدراسة التصوف بوصفه ظاهرة فنية وموسيقية.
بالنسبة إلى دراسة التصوف من وجهة فنية، يعد الفن من أسرع طرق التواصل بين الخلق، ذلك أن البصر يعشق المظهر الجميل والقلب يعشق السمت الجميل، كما تعشق الأذن الصوت الجميل واللفظ الجميل والعبارة الجميلة والموسيقى الجميلة، ولكنها عند القوم ليست مطلوبة لذاتها، بل لها وظيفة مستقلة يعبر عنها بمقصد المقاصد في درس جماليات التصوف، ذلك أن للنظر الجمالي وظيفة تربوية تسعف الناظر إلى الجمال وفق مسلكهم على الترقي سلم الأحوال والمقامات، وبهذا خرجوا من عبثية النظر إلى الجمال لأنه جمال، ذلك أنه ينظر إليه عند القوم في دلالته على مانح الجمال، والجمال عند القوم في عباراته وإشارته وصوره مرايا الجمال المطلق.
والجمال بهذه الصفة لغة مشتركة بين جميع أفراد الأسرة الإنسانية، وبهذا يمكن أن تكون لغة الجمال والنظر الجمالي جسرا للتواصل الإنساني، ذلك أن العقلاء مشتركون في النظر الإجمالي للجمال وإن اختلفوا في وظائف النظر الجمالي.
وقد اهتم الأدباء والفلاسفة والفنانون بدراسة التصوف من وجهة جمالية، وظهر هذا المسعى في جهود كثير من الغربيين. اهتم المستشرق الإسباني كارلوس فارونا[10]
بالتصوف بشكل عام ولاسيما العلاقة بين التصوف والجمال الفني، خاصة وأن الجمال متنوع فهناك الجمال الروحاني الذي نشعر به كالموسيقى أو نراه كالخط والعمارة بأشكالها المختلفة، لذلك تناول هذا المستشرق أولا الخط العربي بوصفه وسيلة نقلت إلينا أفكار الصوفية على اعتبار أن لكل حرف دلالته الرمزية عند المتصوفة.
دراسة التصوف بأي وجه من الوجوه السابقة هو دراسة له باعتبارات خارجية شكلية واستبعاد للعناصر الجوهرية في التصوف الإسلامي. والتركيز على الأنماط الآنفة الذكر يعبر عن دراسة الظاهرة من خلال آثارها لا من خلال محركاتها.
= = = = = =
الهوامش
[1] اهتمت بهذا النوع من الدراسات أقسام علم الاجتماع.
[2] اهتم بهذا النوع من الدراسة، الأستاذ كمال جعفر، رحمه الله، وعامر النجار في عمله المقدم لنيل درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة بعنوان "التصوف النفسي".
[3] مثل مقام أو حال الفناء أو السكر.
[4] صراع على السلطة في المجتمع متلبسة بالتربية والتزكية، وهي ولا شك من أشنع أساليب محاولة نيل الدنيا وحظوظها بعنوان الآخرة، وفيه فتنة الناس عن الدنيا والآخرة على حد سواء.
[5] انظر عن ابن سبعين ما كتب أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني.
[6] انظر موقف شيخ الإسلام مصطفى صبري من ابن عربي، يظهر موقف في كتابة: "موقف العقل والعلم والعالم ومن رب العالمين وعبادة المرسلين"، فقد مال على الشيخ ميلة واحدة، ولكن الشيخ النورسي خالفه في المسألة وانتهى إلى رأي أكثر موضوعية، وقد كان يطالبنا عبد الحليم قفاف بوقفه طويلة وانتهى بعد تمحيص حجج مصطفى صبري إلى موقف أكثر اعتدالا من مذهب وحدة الوجود.
[7] انظر رسالته الموسومة بـ "موقف شيخ الإسلام صبري من وحدة الوجود".
[8] علي سامي النشار، انظر كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 3-22.
[9] لعل من أبرز الذين عرفوا بدراسة الأدب الصوفي زكي مبارك.
[10] انظر الوظيفة الإيمانية والأخلاقية للنظر الجمالي، أعمال المؤتمر الدولي "الجمالية في الفكر الإسلامي المعاصر"، جامعة ابن زهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير المغرب أبريل2005م.
2 مشاركة منتدى
أبعاد التصوف, موسى أبو رياش/الأردن | 27 شباط (فبراير) 2012 - 11:22 1
بداية أشكر الفاضلة سليمة إثارتها موضوع التصوف وأبعاده ... وأطرح سؤالين فقط حباً في المعرفة والمزيد من العلم:
السؤال الأول: هل التصوف ظاهرة؟ وهل تاريخ التصوف الطويل وعدد المتصوفة الضخم مجرد ظاهرة حادثة قد تزول؟
السؤال الثاني: هل التصوف ظاهرة تربوية في أصل وضعه؟ وأين ذهب السلوك والاعتقاد؟ وهل يصح أن نقزم التصوف في أصل تربوي فقط؟
أبعاد التصوف, عبد الله بن احمد العرفي من الامارات | 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 03:32 2
أشكر الكاتبة على هذا المقال الهام والحقبقة ان التصوف ظاهرة والكاتبة تعني فعلا الكلمة لأن التصوف يظهر على صاحبه ونقول هذا شخص متصوف ثم انه فعلا عملية تربويةلا نه تربية وترويض للنفس ومجاهدةبالاضافة الى المسائل الاجتماعية أعتذر لانني ارد على التعليق وكان من الأجدر ان ترد صاحبة المقال ولكنني قرأته مرات عدةوكلما اعدت الفراءة أكتشف أنه مفال جيد جدير بالقراءة والتمعن وشكرا للكاتبة مرة اخرى