عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

دقيقة صمت


زكي شيرخان"أرح أباك. عد لتراه ثم ارحل ثانية. إنه يتألم. يرفض أن يموت قبل أن يراك. ارحمه".

لولا قولة أخيه لم يكن ليعود بعد كل هذه السنوات. في مجلس العزاء، جل من رأى من المعزّين طمرتهم الذاكرة أو كادت. كبر من كبر، وشاخ من شاخ. بدت النعمة على بعضهم، ولبس البؤس أغلبهم.

"هؤلاء، أولاد عمومتك"، "أولئك أصدقاء المرحوم الذين ظلوا على علاقتهم به" هذا ما كان يُهمس به لتنبيهه. "هذا شيخ العشيرة"، "أية عشيرة؟"، "عشيرتنا".

قضى أياما وهو يرى العجب ويسمع الأعجب.

= = =

في طريقهم إلى القرية التي ولد فيها الأب، والتي فشلت محاولات الأخ ثني إصراره على زيارتها.

= لن تعثر على البراءة التي تصر على وجودها في القرية.

= كيف استطعت أن تشخص رغبتي في زيارة القرية؟

تجاهل السؤال. استدار بوجهه نحوه، وابتسامة مستفزة رسمها متقصدا على شفتيه.

= انتبه للطريق، يمكنك الحديث دون أن تدير وجهك نحوي.

= ليس، في العادة، أن أخوض في خصوصيات حتى أقرب الناس لي، لكن يهمني أن أفهم التجارب الإنسانية التي يمرون بها. لماذا انفصلت عن زوجتك؟ أظنك كنت سعيدا معها وإلّا ما دامت هذه الزيجة لأكثر من عشر سنوات.

= صراع قيم؛ تضاد مفاهيم؛ فشل في تجاوز رواسب تحجرت في النفس؛ تصادم ثقافات.

= إن كنت تود البقاء في ساحة العموميات فاِنْسَ سؤالي.

= ظننا، أنا وطليقتي، أن اختلاف القيم والمفاهيم والثقافات لن تقف حجر عثرة أمام علاقتنا. ردمنا، أو هكذا ظننا، الهوة بكلمات الغزل، وإشباع الرغبة، والتجاوز عن صغائر المنغصات. كان يمكن أن تدوم العشرة لولا ما حدث في الحادي عشر من أيلول. لم تستطع، هي، أن تتحمل مصطلح "غزوة مانهاتن" لما تحمله من مغزى ديني. كل الأفكار العصرية التي كانت تؤمن بها أو هكذا تدّعي، كما الكُثْرُ، لم تُلجم مارد التعصب الذي ربّته أمها الإنجيلية داخلها. بدوري نفضت الغبار عما حُشِي به عقلي. وحتى لا أطيل عليك، وجدنا أن لا مفر من الانفصال. الخسارة كانت كبيرة، ولكن خسائر الاستمرار كانت ستكون أفدح.

= نكأتُ جراحك؟

= لا عليك. أود أن أسألك عن العشيرة وشيخها. على حد علمي أن والدنا لم يكن من المهتمين بهذا الأمر. لم تكن الانتماءات الفرعية مهمة بالنسبة له، دين، مذهب، طائفة، عشيرة. بل أكاد أجزم أنه كان ينبذها.

= بعد الغزو أنهار كل شيء. فشل من آلت إليهم الأمور من إيجاد منظومة حكم متماسكة. عمّت الفوضى، وضعفت المؤسسات، وصار الكل بحاجة للحماية من الكل. عاد الناس لأصولهم. وعادت التجمعات العشائرية بعد أن كادت تذوب في ظل الدولة المدنية. صار للعشيرة جيش مسلح حامٍ تحت إمرة شيخها مقابل التزامات يؤديها المنتمين لها. هكذا، وببساطة.

= فيما مضى، حاولنا أن نبني دولة على أسس عصرنا الذي نعيشه. كان همنا أن نتحول من كيان متخلف إلى كيان نامٍ. حلمنا أن نلحق بركب التقدم. ماذا جرى بعد قرن من الزمن؟ ها نحن نسرع الخطى للبدائية من جديد. لِمَ؟ أبسط مستلزمات الحياة الأساسية لم يعد بإمكاننا الحصول عليها، لماذا؟

= أحقا لا تعرف؟

= لا.
فوجئ أخوه بطلب لم يتوقعه.

= عد بنا. لم أعد أرغب بزيارة مسقط رأس أبي الذي لم تربطني به إلا عدة زيارات قمت بها حتى قبل أن أرحل بسنوات طويلة. أظنك محق؛ لن أجد ما أبحث عنه هناك. كل شيء اندثر، كل شيء.

= ما بك؟
= لولا إلحاحك، ومكانة أبي في نفسي ما عدتُ. صورة قديمة في ذهني رسخت منذ رحيلي، أريد ألّا تتشوه ولو أنها من الماضي، ولو أن الملامح فيها باهتة. أريد أن تبقى.

= نقلت لك رغبة الوالد رحمه الله الملحّة في رؤيتك.

= ربما كان إلحاحا من لدنه لأرى وطنا يحتضر.

= ألا تبالغ؟

التفت إليه. حدجه. آثر الصمت تعليقاً.

= = =

في المطار، وأمام بوابة الصعود إلى الطائرة، قرر أن يستقطع جزءا من الوقت المتبقي. نهض من على كرسيه. وقف دقيقة صمت على من رحلوا، وعلى ما رحل. على من يستحيل عودتهم، وعلى ما عودته أقرب إلى المحال.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2020     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات