د. فراس ميهوب - فرنسا
الوباء: بين السقم والشفاء
عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات
لدينا كبشر ميل طبيعي للظن أن أي عاصفة تهب في شاطئ بعيد لا نرى مياهه لا تعنينا في شيء إلا كخبر عابر نتابعه على وسائل الإعلام المختلفة، وردة فعلنا عليه محدودة وقصيرة الأمد، لكن العالم الذي نعيش فيه تتداخل فيه السياسة والاقتصاد والاجتماع، وما حدث في بدايات هذا العام جعلنا ندرك أن العولمة هي أيضا عولمة الكوارث والأوبئة.
انتشار وباء الكورونا، أو ما سمي بمرض الكوفيد-19، جعل من تحديد حرية الأفراد شرطا للنجاة، فعلى الرغم من أن الأمر مبرر ومفهوم بل مطلوب من الناحية الصحية والعلمية، ولكنه سبَّبَ لهم في الوقت عينه صدمة نفسية وإصابة في الصميم.
تساوى الخلقُ في ضرورة البقاء في البيوت، واللجوء إلى جدرانها المحدودة هربا من عدو غير مرئي ولا يميز عرقا ولا جنسا ولا دينا ولا عمرا ولا طبقة اجتماعية، يهدد حياتهم ويتسبَّبُ فعلا بخطفها.
رجعنا أمام التحدي غير المسبوق إلى رد الفعل الغريزي للإنسان القديم الذي كان يهرب من الحيوانات المفترسة ليلوذ بأمان غصن شجرة عالية، أو بكهف مكين، فعادت الحاجات الأولية مبلغ همنا، والخروج المؤقت لتحصيلها ترفا من أشكال الحرية المفتقدة، فما كنَّا نشكي منه منذ أيَّام قليلة صار الآن أملا بعيد المنال نرغب باستعادته بإلحاح.
طلبُ الجميعُ للسلامة دفعهم للانكفاء، والأخطر في كل هذا أن الخوف الحقيقي والعميق من المرض القاتل والوباء هو في العمق الخشية من الآخر مهما كان قريبا فهو مصدر القلق والخوف والخطر.
لكن الإنسان —الذي اختزن في مورثاته وخلاياه الحية القدرة على التأقلم مع الصعاب والتعامل مع الصعاب بعد أن يستوعب أنه لا مفر من مواجهتها— يستطيع أيضا أن يجترح حلولا مناسبة للكوارث والأوبئة.
الذهاب إلى النادي الرياضي أو المسبح الذي كنا نتكاسل بالتوجه إليه في أوقات الفراغ غدا فردوسا مفقودا، ذاك الضجيج البشري أيام نهاية الأسبوع والزحام الخانق في المدن الكبرى صار الحنين إليه يداعب القلوب المثقلة بالوحدة.
أمّا رغباتنا وهواياتنا المفضلة كالموعد الأسبوعي في مكتبة المدينة، المهرب المفضل من العمل المضني، أضحتِ الآن من الماضي، حتى ساعي البريد الذي كنا ننتظره بفارغ الصبر لإحضار رسالة هامة أو كتاب شيق غاب عنا، فافتقدنا معه الأمل الذي يجدد حياتنا ويبقي أحلامنا الصغيرة مستيقظة بانتظار الأفضل.
مرور السيارات أمام البيت، ثرثرة الجيران على أسوار بيوتهم وبواباتها الحديدية استبدلت بالفراغ المؤذي للنفوس.
الكتاب الذي وضعتُه جانبا منذ أسابيع ولم أجد الوقت لقراءته بسبب مشاغلي صار إليّ أقرب من أي وقت، والسير الذاتية لشخصيات محببة وجدَتْ طريقها إلى تحت العيون الشغوفة بالقراءة. تلك القصة التي لم أستطع استكمال كتابتها منذ أشهر صارت الآن في مراحلها الأخيرة. أصوات أطفال الجيران أصبحت الآن مصدرا للأمان، فعندما يكون الجار بخير فنحن بخير والحياة تستمر رغم كل شيء.
أولادي الذين كانوا يعاتبونني على عدم اللعب معهم صرت الآن أنتظر نهاية الأسبوع لأتنافس معهم في مباراة كرة قدم في حديقة المنزل فأسجل عليهم أهدافا بحماس وأتلقى أخرى بأسف، ولكني تخلصت من العتب والإحراج معهم.
في حديقتي الصغيرة، انشغلت أيضا بمراقبة الطيور الصغيرة التي تستريح على أغصان شجرة التين قبل أن تطير إلى مكان آخر، أراقب تفاصيلها، ألوانها، أصواتها، طريقة طيرانها، وأحاول التعرف على أنواعها. حرية هذا المخلوق ذكرتني بنعم الله علينا التي قد لا نذكرها للأسف إلا عند فقدانها.
طالما اعتبرتُ أن بساطة العيش تقي من الصدمات، وهذه الأيام أثبتت أن الأزمات تبين لنا ما هو أساسي لحياة الجميع، وما هو كمالي يمكن الاستغناء عنه، وما هو زائد عن الحد وربما مزيف ودون نفع حقيقي.
قد تكون مثل هذه الظروف الصعبة مفيدة أيضا في إعادة ترتيب أولويات الحياة، والتفرغ أكثر للعائلة لتأخذ موقعها الأساس دون أن ننسى أولئك المحاصرين في بيوتهم ظلما أو قسرا ويحتاجون لأبسط متطلبات العيش الكريم، ويقعون غالبا بين فخي المرض من جهة أو العوز والحرمان المضاعف من جهة أخرى سواء أكانوا عربا أو غيرهم من شعوب الأرض.
إنَّ التفكير بالإنسان الآخر، مع التجرد من التعصب، يجعل تحمَّل الأعباء الشخصية أسهل عندما نقع في مأزق، فالمريض الذي يعاني في غرفة العناية المشددة في المشفى، أو يعاني الآلام والعزلة معا في منزله، والعائلة التي تنتظر شفاء ولدها، والفريق الطبي والتمريضي والمعاون الذي يشرف على علاجه ورعايته، وذاك الذي فقد عزيزا عجزت كل الوسائل عن إنقاذه فكانت صدمة فراقه المفاجئ أشد وقعا على نفوسهم، وأولئك الذين يقومون بمساعدة الآخرين من خلال الاستمرار بعملهم في ظروف صعبة.
ربما أن عملي كطبيب يساعدني على التعامل مع هذا الظرف المستجد دون صعوبات كبرى، ولكن يتوجب عليّ بنفس الوقت اتخاذ احتياطات أكبر، فالعودة إلى المنزل صارت تحتاج لدقائق طويلة من الحذر والتعقيم، ومن ناحية أخرى التعامل مع المرضى يسمح بمعرفة هذا المرض عن قرب فيصبح العلم بالخطر والقرب منه وسيلة ناجعة لمواجهته لأنَّ المجهول غالبا ما يكون في نظر الإنسان عدوا مبينا.
والمسؤولية هنا تمتد من المريض إلى كل الفريق الطبي العامل والأطباء الذين يحضرُّون اختصاصهم والطلاب الذين يحتاجون إضافة إلى المعلومات الطبية —المتوفرة دون صعوبة في عصر انتشار العلم— إلى التوجيه والطمأنينة واكتساب خبرة التعامل مع الظروف القاسية وتقديم العلاج للمريض دون توتر.
ولكن تبقى هذه الظروف الاستثنائية مُعلِّما لا يضاهى للجميع على المستويين الشخصي والمهني، إنها خبرة تضاف إلى خبرات الحياة، وتساعد حتما على تجاوز المحن في المستقبل، وتحسين ممارسة الطبيب لمهنته.
بكلمات قليلة: لتجاوز هذه المحنة، لا بد من التعامل معها بهدوء، الالتزام بالعلم ومعطياته، عدم الاستسلام للخوف الذي قد يكون قاتلا أكثر من المرض بحدِّ ذاته، البحث عميقا عن مصادر للقوة والثبات والإيمان، تقديم المساعدة للآخرين والاهتمام بهم، باختصار محاولة تحويل المحنة إلى منحة.
في هذه الأيام الصعبة يعود السؤال الملحُّ الذي يطرحه الإنسان على نفسه في لحظة الحقيقة: عن الخيار الأفضل بين رغبته الجامحة بالنجاة بانتزاع الخشبة التي تخصه من سفينة الحياة والتعلُّق بها وحده لينجو، أو يساند شركاءه في إنقاذ السفينة فيفلت الجميع من الغرق؟
فرنسا، الإثنين 20/4/2020
- لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
◄ فراس ميهوب
▼ موضوعاتي