عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. اصيل الشابي - تونس

أيّام الكرنتينة

عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات


أصيل الشابيلم تعد الحياة عاديّة منذ أن انتشر وباء كرونا، هناك حالة طوارئ تشمل الجميع. لم أتخيّل ولو للحظة واحدة، أنّني سأحيا حالة شبيهة بما نحياه اليوم، ها هي الحياة الجماعيّة تتراجع بشكل غريب، لا يُمكنني في ظلّ الحجر الصحّي الذي تفرضه الدولة أن أتنقّل بحريّة بين مدينة وأخرى أو في مدينتي ذاتها، وأصبحت أشاهد بأمّ عيني سيّارة الشرطة تجوب الشارع محذّرة من الخروج إلى الشّارع.

لن أنسى مشهد سيّارة الشرطة ذات عشيّة متبوعةً بمركبة عسكريّة لمراقبة تطبيق حظر التجوّل الذي يمتدّ من السادسة مساء إلى السادسة صباحا. أوحت لي حزمة التدابير المتّخذة للوقاية من الفيروس بأجواء حرب فعليّة، ففي الحرب ينتقل الناس من الخارج إلى الدّاخل، وتغيب الحريّة الفردية حتّى فيما يتعلّق بحقّ أساسيّ كالتنقّل.

حرصت دائما على القيام بجولة صباحيّة اعتبرتها ضروريّة لرياضة الجسم والذهن، أمرّ بساحات مدينتي الموريسكيّة، أقف قليلا في بطحاء جامع الثغري، وأنظر إلى الساعة الكبيرة أعلى صومعته التي يأتي الزوّار لمشاهدة عقاربها التي تدور عكس عقارب الساعات العادية، قبل أسابيع قليلة كان هذا المكان غاصّا بزوّار المدينة من التونسيين والسيّاح الأجانب.

أمرّ في صباحاتي بالبساتين المحيطة بمدينتي، أتتبّع المسالك بدرّاجتي الهوائيّة، فأشعر براحة كبيرة وأنا على مقربة من أشجار الرمّان والتوت والمشمش والزيتون التي اخضرّت. لا أعرف ماذا كان يحدث لي لو كنت من ساكني مدينة كبيرة ملوّثة ومزدحمة بالناس.

في مدينة صغيرة مثل مدينتي يمكن للناس أن تتفاعل مع أيّ قرار جديد حتّى وإن كان قرارا حربيّا، فحميميّة اللّقاءات لا تقدر الإجراءات الوقائيّة على كسرها إلاّ إذا كان الأمر يستدعي ذلك، فالأفراد معروفون لبعضهم البعض، وإذا كان هناك ما يدعو لعزلة حقيقيّة صارمة فلن يتخلّف أحد عن الامتثال، أحيانا يمدّ لي الأصدقاء أيديهم في بداية الأزمة فلا أتردّد في مصافحتهم، عندما رآني الناس لاحقا واضعا كمّامة نظروا إليّ مستنكرين.

عندما حاولت في الأيّام الأخيرة التقيّد بمسافة الأمان بيني وبين غيري أمام المخبزة أو المغازة أو الصيدليّة أدانتني النظرات، قرّرت في النهاية أنّ أفضل تدبير هو التنقّل في الصباح عندما تكون الحركة خفيفة ومسافة الأمان مضمونة.

أعتقد أنّ استراتجيّة عزل المصابين بكوفيد-19 في أماكن حجر ترعاها الدولة وتتبّع السلط لمخالطي المصابين حالت دون انفجار الوباء بين الناس، وقد بعثت فيّ هذه الاستراتجيّة الشعور بالأمان إلى حدّ كبير.

لقد قيّد كوفيد-19 حياتي إلى حدّ كبير، فقد حرمني التباعد الاجتماعي من المشاركة في ملتقيات هامة، وحرمني، وهذا أهمّ، من تدريس تلامذتي والتوجّه إلى عملي في كلّ صباح. وفرض الأمر عليّ تحديات كبيرة، كيف يمكن أن أتواصل مع تلامذتي في ظلّ صعوبة التواصل الافتراضي الذي يخضع عادة للمزاج والرغبة لا للالتزام كما في التواصل النظامي العادي.

الشباب يقبل على الألعاب -الغايمز- التي تُنظّم لها مباريات ضخمة وطنيّة ويأتيها المناصرون والمشاركون من كلّ مكان أكثر من أيّ شيء آخر، ولكنّه لا يلتزم بحضور درس باستعمال تطبيقة رقميّة.

أكتشف الآن أنّ التعليم الرّقمي يأخذ مكانة استثنائيّة، لأنّه يكفل إمكانيات التواصل من بعيد، ولكنّه في نفس الوقت يحتاج إلى بنية تحتيّة قويّة من الناحية الفنيّة، كما يحتاج إلى تجاوز فكرة أنّ العالم الافتراضي في المستوى الاجتماعي الواسع لا يزيد عن التسلية وتمضية الوقت. أرى انطلاقا من هذه التجربة أنّ الرقمنة في حاجة إلى مأسسة حقيقيّة عندنا لتجاوز ظروف مماثلة لما يحدث الآن قد تطرأ في المستقبل.

أنا حزين بسبب تأجيل معرض تونس الدولي للكتاب، فهو مناسبة كبيرة يمكن للمرء أن يرى فيها الكتب الجديدة ويحضر محاضرات قيّمة ويتواصل مع الناشرين ويتبادل الأفكار مع أصدقاء لهم خبرة ونظرة استشرافيّة. ولكنّ التجربة الحاليّة علّمتني السّفر الاضطراري بخيالي، فهو يسمح لي بمغادرة المكان إلى أمكنة كثيرة زرتها، ولعلّ المكان الذي ألحّ عليّ أكثر من غيره متحف الكاتب الفرنسي أنطوان دون سانت إكسوبيري بمدينة طرفاية المغربيّة التي زرتها من ثلاث سنوات، علمت هناك أنّه كان طيّارا يحمل البريد إلى غرب إفريقيا، وكانت قصّته الأمير الصّغير قد انطبعت في ذهني. ربّما تراودني صوره، أيضا، لأنّني أشعر بأنّ طيران الإنسان تعبير عن الحريّة في الأصل، وهو طيران في الفضاء الرّحب وليس عزلة في قمرة في سفينة فضائيّة في زمن الكوفيد-19 حيث ينتظر الناس المصل ليُحقنوا.

أتجوّل في كلّ صباح باكرا، عابرا مدينتي، أمرّ بساحاتها ومعالمها وأتأمّل مزاراتها وأبوابها الكبيرة وأنهجها وساحة الكوريدا القديمة في أقدم حيّ موريسكي، أمرّ بعد ذلك إلى بساتينها المورقة في الرّبيع، ثمّ أعود إلى البيت وأعكف على مراجعة بعض الكتب، أوزّع اهتمامي بين الرواية والقصّة القصيرة والبحوث، يرافقني الكاتب التركي عزيز نيسين وإميل حبيبي. إنّهما يملكان ردّة فعل عميقة تجاه المجتمع والناس، أنجذب لسخريتهما، وأتذكّر بقوّة الرّائع أمجد ناصر، أتذكّر بوجه خاص ما كتبه من سنين طويلة في مجلّة بلسم الفلسطينيّة عن الوجع الفلسطيني، وأشاهد فيلم الطّريق لفيديركو فلّيني، أشاهد أيضا أفلامه الأخرى مثل المهرّج والحياة العذبة، وأقرأ أخبار الزمان للمسعودي لأنّ الوباء الحالي خبر كبير في تقديري يذكّر بالأخبار العظيمة التي مرّت بها البشريّة في مفاصل تاريخها.

أقرأ تاريخ الحرب لجيفري باركر ومقاطع من تاريخ المجتمعات الإسلاميّة لإيرا لابيدوس المؤرّخ المتخصّص في تاريخ الشرق الأوسط والعالم العربي والذي يدرّس في جامعة كالفورنيا. أريد أن أنوّه بقيمة هذا الكتاب لاعتبارات عديدة منها أنّه يحمل نظرة لتاريخنا في حقبه المختلفة وتحليلا جديرا بالتأمّل، الكتاب في طبعته الثانية ولم أجده معرّبا، وأعتقد أنّ تعريبه من الأولويات، وينبغي على معاهد الترجمة أن تضعه في جدول أعمالها لتحريك التفاعل الحضاري وتعميق البحوث البينيّة.

في ظلّ الظروف الحاليّة اقتربت أكثر من أسرتي، فقرأت مع ابنيّ بعض القصص، وكنت أطلب منهما تجسيدها وإبداء المواقف حيالها، وعملت معهما على تطوير معرضين رقميين الأوّل خاص بالحيوانات النادرة في العالم والثاني خاص بأشجار الزينة في المدن، اتّسم العمل بالكثير من المرح وروح المسؤوليّة، وقد فاجأتنا الطبيعة بأسرارها العملاقة التي تعلّمنا منها الكثير بالتأمّل والمتابعة.

الحجر الصحّي العام، أو ما عرف في أدبيات الرحلة بالكرنتينة، فترة صعبة تمنعني من ممارسة أشياء كثيرة، ولكنّي أصبحت قادرا أكثر على تقييم نفسي والمجتمع، إنّها تجربة فريدة سترتدّ عليها التحليلات الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في المستقبل.

وقد بدأت بعد المخابر العلميّة في إنتاج بحوث عن خصوصيّة الخطاب في أيّام الحجر وعلاقة العلم بالشعبويّة والدعوة إلى التضامن في الفضاء العمومي والعلاقة بين الطبّي والاجتماعي والعلاقة بين الطبّي والتجاري، وحدود العلاقة بين الفرد والجماعة وكيف ينظر الفرد إلى محيطه وكيف ينظر المحيط الاجتماعي إلى الفرد، أسئلة كثيرة وعميقة تدور في رأسي وتؤلّف موضوع دراسات وبحوث.

أعتقد أنّ كلّ هذا يؤلّف ما يمكن تسميته بأدب الحجر الذي يشمل محادثات الحجر وكتاباته وسلوكه، وهو قريب ربّما من أدب الحرب لأنّ قاسما مشتركا بينهما لا يخفى وهو تعطّل سير الحياة العاديّة والتأهّب المستمرّ لما قد يحدث من طوارئ، من كان يتصوّر أنّ الحجر الصحّي العام سيكون أبلغ صورة على العولمة؟ من كان يتصوّر أنّ أيّام الكرنتينة ستهبّ بهاته القوّة في العصر الاتّصالي؟


JPEG - 24.9 كيليبايت
لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
D 27 نيسان (أبريل) 2020     A أصيل الشابي     C 0 تعليقات