د. عدلي الهواري
كورونا: عزلة الجسد وحرية العقل
عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات
لم تثر إجراءات الوقاية من وباء كورونا الضجر في نفسي لأني معتاد منذ زمن طويل على الجلوس في البيت، والتواصل مع العالم من خلال حاسوبي.
نادرا ما أزور أحدا. كنت ولا أزال أخرج من البيت يوميا للمشي فترة تقل عن ساعة. في معظم الأحيان أحمل معي الكاميرا لأصور عصفورا أو زهرة جميلة على الطريق. أفضل المشي على الرياضات الأخرى لعدم وجود حاجة لملابس خاصة أو لاشتراك في ناد أو استخدام معدات. ولذا المشي كعادة يومية لا تفارقك احتمال أقوى من ذهابك إلى ناد كل يوم.
ينسب إلى الفيلسوف الألماني، نيتشة، قوله إن الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي. إذا فكرت في أمر وعجزت عن الوصول إلى نتيجة ترضى عنها، أجّل القرار واخرج لتتمشى. من المحتمل كثيرا أن تأتيك فكرة تحل لك ما عجزت عن حله.
فكرة إصدار عدد خاص من مجلة "عود الند" الثقافية حضرتني أثناء أحد مشاوير المشي اليومي. يستحق هذا الحدث الجلل عددا خاصا عن حياتنا بعد أن اقتحمها فيروس لا يزال يفتك بالكثيرين، وأجلسنا في بيوتنا خوفا منه، أو التزاما بالإجراءات الحكومية الهادفة إلى الحد من انتشاره. الحدث يستحق أن نكتب عن تأثيره علينا ونحن محاصرين.
في الأحوال العادية، كنت أخرج مرتين على الأكثر في الأسبوع لشراء ما يلزم البيت. وقد تعطلت سيارتي في الشهر الأول من العام، فلجأت إلى استخدام المواصلات العامة. مرت فترة لم ألاحظ في المتاجر التي أذهب إليها ما يوحي بإقبال كبير على شراء المواد التموينية، ثم بدأت ألاحظ بعض الرفوف والثلاجات الخالية.
مهما كانت قناعاتك راسخة بشأن عدم ضرورة شراء مواد تموينية أكثر من المعتاد، إلا أن مشاهدتك الرفوف والثلاجات الخالية تضعك تحت ضغط نفسي. ولذا توقفت عن الذهاب إلى المتاجر الكبرى.
قررت أن أعتمد على شراء حاجاتي من خلال الإنترنت. كان أقرب موعد توصيل ما طلبت بعد حوالي ثلاثة أسابيع. ظننت أنني سوف أستطيع مواصلة الطلب بهذه الطريقة، إلا أنني منذ نجاحي في المحاولة الأولى، لم أتمكن من الشراء من المتاجر الكبرى ثانية، لأن كل مواعيد التوصيل محجوزة.
مواقع أخرى لبيع المواد الغذائية عبر الإنترنت أوقفت تسجيل الراغبين في الشراء. أما في المواقع التي كنت سجلت فيها نفسي من قبل، فقد كتب تحت صور المواد الغذائية: "غير متوفر".
في الشارع الرئيسي القريب من بيتي توجد بعض المحلات الصغيرة، ومع أن أسعارها أعلى من المتاجر الكبرى في الأحوال العادية، ورفعت أسعارها بعد فرض إجراءات الوقاية، إلا أنني صرت أفضل أن أذهب إليها فالإقبال عليها أخف.
لا يزال ساعي البريد يوصل الرسائل في الصباح. نتيجة الأوضاع الراهنة، لم يعد مستغربا أن يتأخر وصول الرسائل التي كانت تصل في اليوم التالي أو بعد يومين من إرسالها.
باستثناء محلات بيع المواد التموينية، كل المحلات الأخرى مغلقة، بما في ذلك محلان لبيع الزهور، وثلاثة صالونات حلاقة.
سوبر ماركت متوسط الحجم قريب من بيتي صار ينظم عملية دخول الزبائن، ووضع علامات على أرض المتجر، ويطلب من الزبائن عدم الانتقال إلى المربع التالي قبل انتقال من فيه إلى مربع ثالث. صيدلية الحي تسمح بدخول شخصين فقط في وقت واحد. ولذا، أصبح من المظاهر الشائعة وجود طابور من الأشخاص ينتظرون دورهم لدخول هذا المحل أو ذاك.
الشارع الرئيسي القريب من البيت كان يعاني من زحمة السيارات طوال اليوم، لكنه هذه الأيام شارع فيه حركة سير خفيفة. اختفى منظر السيارات المتراصة وتمشي ببطء شديد.
لا أتابع الأخبار على القنوات التلفزيونية من سنوات عديدة، ولا أزال متمسكا بهذه العادة. ولا أتابع أرقام الإصابات. وسائل الإعلام تريد أن تظهر لمتابعيها دائما أن لديها آخر الأخبار والتفاصيل. متابعة الأرقام سوف تجلب لك التوتر وسيزيد شعورك بأن الخطر يقترب منك أكثر. كذلك، لا أضيع وقتي في متابعة فيديوهات فيها تفسيرات غير منطقية لانتشار الوباء.
رغم عدم تأثير إجراءات الوقاية من الوباء على مجريات حياتي اليومية، أدى توقف الرحلات الجوية بين الدول إلى تأجيل تنفيذ رغبتي في السفر والعودة قبل بدء شهر رمضان المبارك. الأمل ألا تطول فترة التوقف هذه.
بيّن الوباء اللعين أهمية وجود الإنترنت ومواقعها الثقافية والإخبارية والتجارية وغير ذلك. وبصفتي ناشر مجلة ثقافية، شعرت بأن قراري اختيار الفضاء الإلكتروني في عام 2006 كان قرارا صائبا. كانت صحة القرار تزيد وضوحا عاما بعد عام، وخاصة بعد توقف الصحف والمجلات الورقية عن النشر، ولكن كورونا لم يُبقِ حجة لمن عاندوا الواقع وتطور الحياة. المفاضلة بين الصيغة الورقية والرقمية الآن ضرب من التخلف.
وبيّن الوباء اللعين أهمية التعليم عن بعد. استغربت أن ننجو من المفاضلة بين الورقي والرقمي لنقع في دوامة المفاضلة بين التعليم عن بعد ووجها لوجه في الصف وقاعة المحاضرات. من أين يأتي الإنسان بهذه المقدرة على إيجاد الذرائع لتفادي التغيير في حياته رغم أن في التغيير فوائد كثيرة له؟
المكتبات الجامعية ذات المليون كتاب لا فائدة ترجى منها هذه الأيام لأنها مغلقة. تباهي الجامعات بأن في مكتبتها مليون كتاب ورقي سيتغير إلى التباهي بأن مكتبتها رقمية مئة بالمئة، والمليون كتاب حولت كلها إلى صيغة رقمية.
يجب أن تتوفر كل الكتب، جديدها وقديمها بصيغة رقمية. الحاجة كانت واضحة للمكتبات الرقمية، وهي الآن ليست مسألة تحتاج إلى النقاش حولها، بل إلى وضع برنامج لتنفيذها عاجلا لا آجلا.
إذا كان من درس ينبغي للبشرية أن تتعلمه بعد هذه التجربة المشتركة فهو أهمية العودة إلى سياسات قديمة تراجعت أمام تمجيد منافع الأفكار الرأسمالية الساعية إلى خلق الثروة، والتشجيع على تخلي الدول عن سياسات مثل الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية. كان من نتائج هذه الأفكار تكديس المزيد من الثروات في أيدي أعداد قليلة من الناس.
عُرفت بريطانيا، حيث أقيم، بوجود نظام صحي مجاني لجميع المواطنين، وهو منذ الثمانينيات يتعرض للحرمان مما يحتاج من موارد. وسادت مخاوف قوية من أن الهدف النهائي مما يتعرض له القطاع الصحي العام تحويل ملكيته إلى القطاع الخاص.
عندما اجتاح كورونا بريطانيا، ظهر بوضوح أن سياسة إضعاف الجهاز الصحي ليست خاطئة وحسب، بل كان يمكن أن تؤدي إلى مصيبة أكبر في البلاد في حال تعرضها لوباء كهذا في المستقبل. أصاب كورونا رئيس الوزراء، بوريس جونسون، وعولج في وحدة العناية المركزة في أحد المستشفيات الحكومية. ولذا المأمول أن يستوعب حزب المحافظين، الذي يتزعمه جونسون، أهمية حماية هذا القطاع من أيديولوجيا الخصخصة.
انتشار وباء كورونا أعاد القوة إلى الرأي الذي يدعو إلى أن تكون الدول دول رعاية اجتماعية، وليست سلطة تنظم وتسهل عمل الشركات، وتترك أغلبية الشعب دون أشغال أو مصدر دخل، وتذل كل من هو بحاجة إلى دعم مالي من الدولة.
يجب أن تكون الدول شديدة الاهتمام بنظام الرعاية الاجتماعية. النظام الصحي المزود بالموارد ضروري في كل دولة حتى يكون التعامل مع وباء مماثل بكفاءة أكبر في المستقبل.
ويجب عدم التلكؤ في الدول النامية في إقامة بنية تحتية رقمية تمكن المواطنين من استخدام الإنترنت للتعلم عن بعد، وشراء الاحتياجات، والقيام بالمعاملات الرسمية، بما في ذلك، الحصول على جواز السفر، من خلال الإنترنت.
من الإيجابيات غير المقصودة من إجراءات الوقاية إعادة الهدوء إلى الشوارع، وتقليل تلوث الهواء. خدمت الإجراءات البيئة. ولذا، تبدو لي فكرة وجيهة إعطاء الكرة الأرضية إجازة سنوية، يتوقف فيها البشر عن استخدام السيارات، فتتمكن من إعادة تجديد نفسها، مثلما يتعافى الجسد المريض بالخلود إلى الراحة.
- لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
كورونا: عزلة الجسد وحرية العقل, د. الحسن الغشتول | 1 أيار (مايو) 2020 - 18:15 1
بوركت أخي الأستاذ الأمجد د. عدلي الهواري.. قرأت مقالتك القيمة عن عزلة الجسد وحرية العقل. حقا إن الوباء الذي أصيبت به بللدان العالم كله غير كثيرا من المفاهيم .. وصحح للكثيرين أحكامهم المطلقة .. شكرا لكم ومزيدا من التوهج لعود الند.
ودام لك البهاء
د. الحسن الغشتول. محبتي الخالدة
كورونا: عزلة الجسد وحرية العقل, عدلي الهواري | 2 أيار (مايو) 2020 - 09:09 2
شكرا د. الحسن الغشتول على التعليق وكلماتك الطيبة. تحياتي ودمت بخير.