فنار عبد الغني - لبنان
كورونا: من يومياتي وملاحظاتي
عود الند: عدد خاص: كورونا: يوميات وتأملات
مات جيراني
مات جاري، هكذا دون أن يعاني من أي مرض. أسلم الروح إلى بارئها بكل هدوء. لم يثر موته أي ضجة كما هي العادة. ولم نعرف سبب موته حتى الساعة. علمت بالخبر من جارتي التي تسكن الطابق العلوي في نفس المبنى حيث أسكن أنا في الطابق الأرضي. كان الصباح في ساعاته الأولى عندما سمعت صوت جارتي وهي تنزل الدرج، ففتحت الباب ظناً مني أنها في طريقها إلى السوق، وهممت أن أطلب منها جلب بعض الخضار الطازج لي. لكنها فاجأتني بالخبر: "مات فرحات فجر اليوم".
تنهدت بعمق وهي تحمل سيجارتها وأضافت بصوت خافت: "أنا في طريقي إلى العزاء". ولفتها غيمة من الصمت. نصحتها بعدم الذهاب كوننا لا نعرف سبب موته ولأننا أيضا في الأسبوع الثالث من الحجر الصحي، لكنها أصرت على تقديم الواجب.
= "لا شك أن زوجته وبناته الخمس بحاجة لمن يواسيهن".
ولم تأت جارتي بعدها إلى منزلي، وأصبحت تمر صامتةً عند اقترابها من بابي.
وقبل موت جاري فرحات بأسبوع ماتت جارتي بعد معاناة طويلة مع المرض، ولم أذهب للعزاء أيضاً، وخجلت من نفسي عندما التقيت بكبرى بناتها صدفة في الطريق. مررنا صامتتين بمحاذاة بعضنا البعض. ماذا كنت سأقول لها. بالكاد رأيتها وأنا أضع كمامة على وجهي وعقلي يعالج أفكاراً كثيرة تشغله.
لمحتها دون أن أعرفها لبرهة، وهي نظرت إليّ بعمق واستنكار، ظلت نظرتها معلقة في رأسي وأنا في حالة من الغرابة، وبعد أن ابتعدت عنها قليلا، تذكرت أني أعرف هذا الوجه، إنها ابنة الجارة التي توفيت حديثا. تذكرت ذلك بعد مضي أكثر من خمس دقائق، كان عقلي خلالها يراجع الإرشادات للوقاية من فيروس كوفيد-19. وعندما أدرت رأسي لأتأكد من وجهها وأنها لم تعد ترمقني بنظرات اللوم والاستنكار، وجدت الطريق خالياً.
* * *
أخاف من كورونا؟
الكلام عن كورونا لا ينتهي على مدار الساعة: الإرشادات للوقاية منه، ضحاياه، البلاد التي اجتاحها، أرقام الخسائر المادية، التوقعات، إلى آخره. مدن تكاد تموت وأخرى محظور الدخول إليها، ومدن لا تبالي به تزاول عاداتها اليومية لتحصد بنفسها نتائج المخاطرة.
تغيرت عاداتنا اليومية بسبب الوباء وبعد فترة قصيرة من الحجر الصحي، أصبحنا نعمل أكثر فأكثر على تعقيم المنزل. كان سيل الإرشادات يأتينا بأقل جهد، فكيفما تجولت داخل محطات التلفاز أو مررت مروراً عابراً على وسائل التواصل الاجتماعي ترفدك بما في جعبتها من أخبار.
الكلام المتواصل والمستمر عن كورونا تسرب إلى مسامع صغيرتي، أصبحت تخاف من فتح الباب والنافذة، تصرخ: "سكري الباب. كورونا".
أصبحت تهرب من الجيران الذين يحاولون ملاعبتها أو تقبيلها، تقول: "لا. كورونا".
بعد فترة مللت من كورونا وآخر المستجدات حولها، غادرني ذلك الشعور بالمعرفة والوقاية والاحتياطات. لم أعد أهتم بمعرفة ضحاياه ومن صنعه ومن نشره، ولم أستغرب حالات الانتحار المصاحبة له، ولا حوادث السرقة، ولا موت الأطباء والممرضين ولا حالة الأبناء الذين رفضوا رؤية والدهم وهو على فراش الموت، ولا الطبيب المعالج له وهو يبكي ويقرر الذهاب إلى طبيب نفسي.
إن توالي الآلام على قلبي بشكل يومي لم يسمح بغزو كل ما يتعلق بكورونا لنفسي. لقد تعتق الحزن في نفسي منذ زمن بعيد. إرث النكبات المتوالية في النفس يصرف عنك مثل تلك المشاعر المتدنية من الألم.
مدن مغلقة، غزة مغلقة ومحاصرة. القدس مغلقة ومحاصرة، وغيرها من مدننا العربية. والإنسان العربي إذا لم يكن منفياً أو مشرداً أو مسجوناً فهو محاصر، يكفي لأحدنا أن يلقي نظرة خاطفة على المقدسيات المرابطات وهن مكبلات يجرجرهن الغزاة، لتدرك حجم المآسي التي نحملها.
حوادث السرقة والقتل في أيام قلائل لا تعني شيئاً، وأمتنا تقتل وتنهب خيراتها منذ قرون. إنهم يستمدون ترفهم ورفاهيتهم من إبادتنا وإفقارنا.
لا أخاف كورونا فهي ليست عنصرية. أنا أخاف من الوحوش البشرية الذين صنعوا كورونا وسيستمرون في صناعة طرق ووسائل موت وإبادة الغير ويـتـفـنـنون في تعذيب غيرهم بشتى الوسائل المعروفة والمجهولة، ويتمتعون بذلك كما تمتع الرومان بتعذيب الأسرى والعبيد في القرون الغابرة، ثم يتصدرون الشاشات ليحدثوك عن الديمقراطية وحرية المرأة والتحرر والمستقبل وحقوق الإنسان!
* * *
التعلم عن بعد
تقرر التعلم عن بعد في ظل الحجر الصحي من قبل المسؤولين، واجتهد ذوو الاختصاص بتكنولوجيا المعلومات بتوجيهنا وإرشادنا إلى تطبيقات معينة تخدم هذه الغاية، فأصبحت اللقاءات والاجتماعات وورشات العمل والتعليم من خلال التطبيقات الشهيرة زوم وتيم. أصبحت المحاضرات والدورات الطويلة تعطى أيضا على المنصات الإلكترونية.
هذه التجربة أظهرت الحاجة الضرورية لدور المعلم وأثره على الأجيال، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه والتعويض ببديل آخر، الأمر الذي يوافق ما يردده مريدو العلوم الشرعية: "من كان شيخه كتابه فقد ضلّ عن صوابه".
لقد سدّ التعلم عن بعد فراغ الوقت لدى الطلاب والأهل، وقرّب العلاقة بين الطالب وذويه، وأصبح الاهتمام أكثر من ذي قبل. ولولا هذه الطريقة في التعليم لزادت حالات العنف الأسري في البيوت، فالملل يقتل النفس.
لكن هذه التجربة الجديدة في التعلم استهلكت من المعلمين أضعاف الوقت في إعداد الدروس وتحضيرها، وأصبح جل وقت المعلم للطالب، فالفضاء التعليمي مفتوح وبدون مَصارع، فالطالب وأهل الطالب أصبح بإمكانهم إرسال الاستفسارات والأسئلة في الوقت الذي يناسبهم من دون الأخذ بعين الاعتبار وقت وراحة والمسؤوليات الملقاة على كاهل المعلم. أذكر أن إحدى المعلمات تلقت في يوم واحد أربعمئة مكالمة من طلابها في يوم واحد.
لقد لغت هذه الطريقة المسافة بين المعلم والطالب. ومن خلال تجربتي في هذا المجال، حدثت معي بعض الأمور الطريفة، كإرسال الطلبة لي واجباتهم مع رسائل تعبر عن اشتياقهم وحبهم مرفقة بملصقات الورود الحمراء والقلوب الكبيرة وبعض كلمات الامتنان والأدعية وأمنيات وتحيات الصباح والمساء.
أما الأمر الأكثر غرابة فهم الطلاب المهملين. أحد هؤلاء أرسل لي عند الفجر يستفسر عن شرح درس بأكمله، كنت أشرحه بشكل متقطع. والأغرب من ذلك طالبة بلغت الرقم القياسي في الغياب عن المدرسة، وهي إن لم تكن غائبة عن الدرس فهي مغيبة، قامت بحل واجباتها على مدى أسبوعين وأرسلتها لي مع رسالة اشتياق ومودة.
لا شك أنه الفراغ الثقيل أثار دافعية هؤلاء الطلبة، وربما الإنسان لا يقدر النعم الحاضرة أمامه ولا يعرف لها قيمة إلا بعد أن يبتعد عنها.
* * *
تغيرت حياتنا
البعض يختار العزلة والبعض الآخر تختاره العزلة، أما نحن وبدون مقدمات فقد فرض الحجر الصحي نفسه على حياتنا فقلبها رأساً على عقب، ومن لم يحضر نفسه مسبقاً لهذا الوضع الطارئ فسيشعر بأنه يمضي عقوبة لا طاقة له بها.
هناك من اغترب عن نفسه، وهناك من اكتشف نفسه وتعرّف عليها وذهب إلى ما هو أبعد من ذاته، فأعاد التعرف عليها من خلال علاقاتها مع الآخرين في ظل هذه العزلة القسرية. وقد كان لطفرة المعلومات غير المسبوقة والفوضوية، المتقاطرة من جميع وسائل التكنولوجيا على حواسنا وأذهاننا، الدور الأكبر في هذه العملية، وأقصد بها عملية إعادة اكتشاف ذواتنا الغائبة عنا وعلاقاتها مع الآخرين، أو تذويبها مع الشاشة الصغيرة في اليد لدرجة أن هذه الأجهزة بدت وكأنها هي التي تتحكم فينا وليس العكس.
من حيث المكان، ضاقت علينا بيوتنا، ومن حيث الفضاء، ففضاء المعلومات شاسع وفي حال اتساع دائم ومن الصعب الإحاطة به، تضيق به النفوس المحجورة.
وبين هذا الواقع الضيق وذاك الفضاء اللامتناهي، تعثرت حياتنا، إذا استيقظت باكراً على صوت المنبه كعادتك، يصلك تأفف من يشاركونك المكان، وإذا هممت وقمت تستقبل ولادة يوم جديد، مشعلاً النور وبالكاد تنتقل على رؤوس قدميك في غرفة جانبية من بيتك، انزعج الجيران من الضوء، وإذا خرجت إلى الشرفة تريد النظر فقط إلى السماء، سمعت ما يشبه الصاعقة وهي تضرب على أذنيك، يتضح فيما بعد إغلاق نافذة قريبة منك لم تكن تلحظها في قلب النهار.
ازدادت اهتمامات الناس بمراقبة بعضهم البعض، وإطلاق النكات الساخرة والتفاهات. البعض اهتم أكثر بالأنظمة الغذائية وتحضير الوجبات الجديدة وطهو الحلويات والإرشادات النفسية والطبية التي لم ألحظ لها أثراّ على نفسيات وأعصاب المحجورين. لقد وصل الحال بالبعض إلى درجة عالية من الغليان النفسي الذي يريد أن ينفجر في وجه أول شخص يلقاه أمامه.
لم يكن هناك من سبيل آخر لإنقاذ النفس سوى جنة الصبر، واستحضار سيرة خير البشر، النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سنوات الحصار الثلاث التي عاشها مع أهله وصحبه ومن معه من المسلمين، في شعب بني عبد المطلب في مكان موحش، ليس فيه زرع حتى انتهى بهم الأمر لأكل ورق الشجر.
تستحضر إلى الواقع عام الحزن وفي يدك كوب من الشاي الأخضر الدافئ وأنت لا زلت في الشهر الثاني من الحجر الصحي ومعظم احتياجاتك أمام ناظريك ورحمة ربك تتغشاك من كل جانب، وأنت في غفلة عن ذلك.
- لافتة: عود الند عدد خاص كورونا
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
كورونا: من يومياتي وملاحظاتي, سلام - لبنان | 27 نيسان (أبريل) 2020 - 08:10 1
تحدثت بالتفصيل عمّا يدور في المجتمع حاليا، لقد توقعت أن تتوب الناس وتصبر وتستغل الوقت للعبادة وتفكر بالأحداث التي مرت على المسلمين، كل ما يحصل بفعل ايدينا.
نقلت الأحداث حرفيا بما يحصل لدرجة استحضار هذه المواقف في القراءة.💚
كورونا: من يومياتي وملاحظاتي, غنى الحسن | 28 نيسان (أبريل) 2020 - 17:54 2
اولا: اود شكرك على هذه المقالة التي يمكننا القول انها بمثابة املٍ لكثير من الناس الذين ارعبت الكورونا انفسهم وهي ايضا بمنزلة طريقةٍ لتنظيم ذاتهم الضائع في ظل فيروس كوفيد ١٩ . صحيح ان الكورونا شكلت حاجزا وحبسا للناس الذين اعتادوا على جنة الارض الا ان فلسطين لم يأثر فيها هذا الحبس لان الاحتلال الصهيوني هو اصعب من هذا الفيروس. فلا يسعنا في هذا الوقت الا ان نصبر ونزداد في العبادات موقنين بان الله مع الصابرين فهو من وعد عباده في كتابه باجرٍ يسرهم (واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا).
ثانيا : اود شكرك على جهودك وعطائك لطلابك الذين اشتاقوا لك ولسماع قصصك التي تأثر فيهم او تعطيهم درسا في الحياة . فأنت وكل معلمٍ ومعلمةٍ مثالا للاحترام وتقدير فشكرا لك🤩