عبد الحفيظ بن جلولي - الجزائر
جمر الحواف، رمق الأبد
أقف على حافة العمر. أسأل قليلا عن لفتات الأعين نحو الماضي. يزحمني البكاء. أطلال الطفولة ترجف من مجرد التفكير فيها. يغلبني البكاء، أشرب قليلا من الشاي، أركض نحو حِجْرٍ أبدي للأمومة المهيّأة دوما للاحتضان.
كم في العمر من خراب ومتاهات؟ كم فيه من قصيدة أقول عنها مجازا، جميلة؟ كم في العمر من جرح للقول والغموض المرسل على عواهنه؟
أرتّب ليلا زاد القراءة، أجوب بقاع الكتاب الأخير الذي أظنه كل ليلة كذلك، لتطلع شمسي وشهرزاد أيامي تحثّني على معاودة المغامرة، أطيعها متلذذا بشوقها الجنوني لقتلي. أنا شهريار القتيل في أمسيات شهرزاد المتسلطة.
عند باب القبيلة، كانت الأسماء المتعطِّشة للحضور تحف خيمة من جلّنار الجنائن الملتوية في الذاكرة منذ أن خطّت بابل هندسة الحدائق، لم تكن حينها مُعلّقة، بل كنت أنا المُعلّق على مِزْهَرِ التاريخ، أجثو عند أبواب قرطبة حيث أغنّي الأندلس العامرة بي وبمدني المنفلتة من جوقة التاريخ المخضّب بالحنّاء وبالدّم وبالماء، وبغرابات العقل والسورياليات الجديدة.
جمدت يدي لما اشتعل التاريخ شيبا، وتماهت في غضبي أحايين من الصحائف الملوّنة بعنترة والمتنبي وأبي تمام، وأشياء أخرى من الزمن الذي لا يكتب إلا على صفحات الرّمل ذي الهوية الصّحراوية والخلاء المجيد الذي ينبس بموسيقى الوحدة، والصّمت الخالد في صفير الرّيح على قارعة الصحراء.
أنا الذّي اجتاحت حماه القرابات الممكنة للعدم. هل الصّحراء فراغ أم عدم؟
قد تكون الصّحراء هي كينونة المخيال الزاحف نحو مخاطر الولادات المستحيلة لعوالم الورق والخروج، والانتصارات المدهشة لحركة الواقع مِن أنا إلى شارع قَصْري (*) المُضاء بالطفولة والطوب والأشياء العصيّة عن الذكر، حين تصبح العتمة خفيفة والظل بهاء يمشي قرب الأخيلة الممتعة.
الظل أخضر شفّاف، والتراب له رائحة العمر والكنايات المُمْتحَنَة على وقع السيرورة، وهطول الجسد المفاجئ من ظل الكينونة إلى مدى الشارع الممتد في القلب وكافة الاتساعات الكونية.
أحَلُّ كضيف سقط سهوا من نص الهويّة الكامن بين أنفاس الأزقة، والبيوتات العتيقة، والأناقات المستحيلة في باحة الدّار المهاجرة صوب الفضاء من خلال "عين الدار"، والمعلّقة بأعمدة تتسمى سواري، تتربّع فوق بلاط أخضر، تلمع اسمنته سحرا وبخارا شتويا، يعلن كافة مواعيد منتصف النّهار الباهر في أخاديد الزّمن المدعّم بكأس شاي، وشيء من "مْخلّع" (**) الجدّات الذي لم يعد لنا كما "القصر" وأشياء العمر الجميلة.
يخالجني البكاء والعمر يرتمي على شواطئ الذاكرة.
تركني المدى الفاصل بين الرّؤية والأفق المبهم القادم في ثنايا الكلمات، أعجز عن كتابة الذات وهمسات العمر الدّفينة الوعرة في التقاطها، سيَّجتني الهواجس، درّبني القمر على أن أجلس في حضرة الأشياء كما دمع غريب يبحث عن أجفانه، عن هدب يتلقفه مثل المرايا، يهبه ظلا مختلفا شفّافا كما الفراغ المليء.
ضاع منّي اللّيل والأمنيات القديمة حين كان يتدرّب البحر على استباحة خيالي، يزورني الماء، يندلق موجه على صدري، تتفجّر خفاياه المعتمة حول بساط الرّكح القديم، أتوسّد سيّد الصّراع والمجابهات العنيفة.
أجرّب المسرح على قارعة الرّمل. تنتابني القشعريرة اللذيذة.
يحاكيني النّخيل ويستجوبني التّمر عند مداخل العمر المسرور بجنائن الوادي، والبِرك الرّاكدة كمستطيل القلب في فنائياته الحديدية. عندما تموت الأشياء يستر الخجل الصّدِئ غبار الكينونة المبارك القادم من انفجارات السُّدُم في عباءات أجدادنا المتصوّفة.
عندما تنفجر النّجوم يعبر الحريق بهجة القلب المغمور في دمه الأسود، تنكشف الستائر وتموء من جديد هِرَّتي التي قتلتها الأيادي الآثمة لأطفال مشاغبين، كم حزنت يومها. مازال يرافقني وبرها ذو اللّون السّحري مزيج الاخضرار والصّفار الذهبي. لقد تخطّاها الغبار السّماوي وفاتتها بهجة الشّهب المتوثّبة في الفضاء.
لو كانت معي الآن لفرحت بصديقي "أدونيس"، الذي علّمني كيف أشتري كتابا يحوي أسرار المحبّة وغموض السرياليين، وكيف أعبر من خلال عينيّ هرّتي إلى "عيون الزا" المدحرجة بين السّكون وموسيقى "أراغون" في النص البعيد في النهايات والحدود المعدومة للمتاه.
تقترب اللغة من سطر العشق الأول في الطفولة الشقية المدجّجة بغطرسة الاستحواذ، لم يكن حينها يهمّني سوى محفظتي البنّية التي طالما رافقتني منذ الانكسارات الأولى على عتبات المرح الطفولي وإلى حيث بدأْت أعي شكل الجملة والكلمات المتاحة في حبر المدرسة والفصول المُشِعّة بتجليات الظهيرة المشمسة، والمكثفة بحكايا الجدّة عن الجنّ "بوعينين" و"الغولة" التي تلتهم الأطفال إذا هم لم يستسلموا لتراخي القيلولة.
داسني الرّمق في عروق الجسد المتنحي عن سلطته القديمة.
ينتفض الجسد كما هشاشة الذكريات التي جحدتها أيام الآلة وقوى الأشياء المصنوعة.
تبني المدارات حينا للمسار وأحيانا كثيرة للرّغبة الجميلة في الكتابة المريرة.
تسقط الذرات المتبقية على سعف النخيل الذي غادرني إلى أقبية الجفاء، والقبور العادمة للجمال. رحل الرّمل والكثبان الصديقة التي رافقت القمر في أمسياته الممتدة من سهادي إلى فجر الصباحات الحارة بشمس أغسطس.
كانت حينها الكتابة خيال الزّاد والطّريق الذي يشرف على بقايا العمر في ربيع المستقبل.
كم هي حنونة أرصفة العمر والمدن الحالمة العاشقة للبحر وللرّمل، للنّخيل وللصّفصاف، للعمارات الشاهقة وللدّور البهية في التواءات القصور العذراء، التي تهيّئ الخيال لتبني البدايات والنّهايات في الحلم والأسْيِجَة التي تدفع العمر نحو المغامرات القصوى.
دفعتني القصيدة عبر فراغ المشي الباهر صوب اللغة والبدايات الممكنة إلى أن أكون رذاذا بين عطر المدن وتيجان العلائق في أساطير الوجود.
ترتسم المدينة حدّا خالدا بين وجودها المغمور بالتراب وخيالها العبق بالتوالدات اللانهائية في عرس التدافع والأغنيات الصاخبة، المزدادة بمسارح "بروكلين"، والمتنسِّمة عشق الحدائق المفعمة بالتاريخ ورهافة "البيت الأندلسي".
لقد لقيت في شوارع المحبّة سيد العشق، محي الدين بن عربي، وهّاجا يصرخ في الكلام والطّين ويمنح الصّمت لونه الجاهر بضوء الحكمة، لَزِمته لحين أن استعدت نزق الطفولة، ثم غادرته إلى غير وجهة أتوهّم المسار نحو الأصدقاء الذين ملأتهم الغربة، والهجرة المباغتة إلى الوجهات غير المعلنة كي لا يتبعهم الظل، وتفضحهم حماقات العمر الكائنة في هرج السكينة، والأفراح الممكنة خارج حدود النص.
تلتقيني البداهات والأحلام ما بين سطور الكينونة. يتهجّاني العمر المغمور بالفناء. تستضيفني بقايا سيّدي سلمان الفارسي. أسترجع أنفاس النبوة. ألمح من بعيد جبال المودّة القريبة بين الأرض والسّماء. يرقبني "حراء".
أركض ركضي المضاء، أستبق الرّيح والحجر والصّهد المعتاد. أجيء وفي صدري خفق من بقايا إنسان، يشير من رماد التراب إلى سُدُم النّجوم، ومن سطر في المتون إلى محفظتي المُعَلقة ما بين جنبي وعينيّ اللتان أدمنتا تهجي الأشياء.
= = =
(*) المكان الذي نشأت فيه.
(**) خبز محشو بالقديد.
◄ عبد الحفيظ بن جلولي
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ