عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ظلال عدنان - الأردن

أمام كل امرأة عظيمة رجل


دخلت غرفة الجلوس تحمل بيدها اليمنى صينية خشبية بُنية وقف بها فنجانان متغايران في اللون، أحدهما أصفر رُسم عليه وجه باسم تتناثر حوله قلوب صغيرة، والآخر لونه فسفوري عليه وجه ذو كشرة لم تفارقه منذ أن اشترياه قبل عشرة أعوام، كانت تحاول جاهدة ألا تنسكب القهوة السوداء من بين شفاه الفنجانين، فتلوث الصينية وتُعكّر مزاجها؛ فهي تكره شرب القهوة بعد انسكابها رغم كل الاعتقادات السائدة المبشرة بخير عند انسكاب القهوة.

يدها اليسرى تُحيط طفلتها الباكية جوعا، تمتد قدمها اليمنى تسحب الطاولة إلى منتصف الغرفة، وتستند على القدم اليسرى لتحفظ لها توازن أطرافها الثلاثة المتحركة، تنحني برفق رويدا رويدا، تضع الصينية أمامه على تلك الطاولة، ترتفع مجددا تنقل طفلتها لليد اليمنى؛ فقد أُنهِكت اليسرى وأصابها الخدر من حمل سبعة كيلوغراماتِ لحم ودم وعظام وصراخ وبكاء ما يقارب ساعة من العمر اللاهث،

تختار أريكة بجواره، تمدّ يدها تقدم له فنجان قهوته، بابتسامة ونظرة: تفضل قهوتك (ابن عمي).

يمدّ يده وعيناه متسمرتان على ذاك الثرثار الذي لا يصمت ولا ينام، يحتسي رشفة، يُبقي الفنجان في يده ويرمقها فتسارع لأخذه من بين أنامله العظيمة تلك. ينتهي الفنجان وهو لم يبدأ في الكلام.

تُطعم طفلتها، وتفض عراكا بين أبنائها، تبحث عن دفتر أحدهم الضائع بين أكوام الملابس، وتساعد آخر في حل واجبه المدرسي، هاتفها المحمول هو الآخر يهتز أمامها يريد جوابا:

"نعم عزيزتي. لا. لا. ضعي اللحم أولا وقلِّيه جيدا، ثم تضعين الملوخية، وعلى جانب تقومين بتقلية الثوم المهروس مع الكزبرة بالسمن البلدي طبعا. وصحتين وعافية."

صفير يتعالى. الميكرويف ينادي: ذاب اللحم المجمد فأخرجوه، وتتراقص أمامها غسالتها المحشوة كحامل في شهرها التاسع تعصر ما في جوفها وتُنذرها بسبع صفارات عجاف أنها جاهزة لإفراغ جعبتها. تنام الطفلة. يقفز أخوها في لحظة حنان كالمارد يُقبِّلها فتستيقظ صارخة فزعة. تعود تحملها، وتكمل لفّ ورق العنب فزوجها يشتهيه اليوم تحديدا، ولا مجال لأي تعديل أو تغيير أو حتى ثورة في ميدان التحرير.

تضع الطفلة في كرسيها، وعلى طاولة المطبخ تمتد أوراق خضراء لامعة، وأرز بالتوابل واللحم المفروم، و(طنجرة) عظيمة تفتح فاها يلتقم خروفا صغيرا، تهزّ طفلتها بقدمها وتلف الورق بيديها ولسانها يغني لتهدأ تلك البكّاءة:

هيه هيه هيه

نامي نامي يا حلوة

سلمى سلمى أمورة

سلمى سلمى شطورة

نامي نامي يا قمر

تهدأ. تسكت. تبتسم. تصمت الأم. يتعالى البكاء ثانية، فيعاد بث ذات الأغنية مستعينة ببعض الحلاوة:

نامي نامي يا سكر

نامي نامي يا عسل

الطاولة يتوسطها صحن مستدير اصطفت فيه أوراق العنب المحشوة يتصاعد بخارها الشهيّ تُحيط بها شرائح ليمون وفلفل أخضر ووريقات نعناع، وتعلوها وردة حمراء صنعتها من البندورة. أطباق الشوربة واللبن تتناثر بانتظام، كؤوس للماء والعصير، أطباق فارغة وملاعق وأشواك وثلاث وردات حمراء.

تُذكِّر أطفالها: اغسلوا أيديكم بالماء والصابون.

انتظروا لا تجلسوا قبل أن يجلس (بابا).

جلس (بابا) فقفز الصغار إلى كراسيهم، وامتدت أياديهم بأطباقهم الفارغة لتمتلئ.

أولا نملأ طبق (بابا). تفضل يا (بابا).

هل قلتم بسم الله؟ دعاء الطعام؟

ينهمك الجميع في التهام تلك الأصابع الرقيقة الخضراء، وهي تسترق لها بضع لقيمات أثناء إطعامها طفلتها.

لا زال صامتا، حاجباه معقودان متآخيان يرفضان أي انفصال.

(ابن عمي) أتتني دعوة لحضور حفل توقيع مجموعتي القصصية الأولى: أمام كل امرأة عظيمة رجل. و...

كاد يغص بأصابعه: ماذا؟ متى صدرت؟ من؟ أين؟ لا. لا. انسي الموضوع تماما، اهتمي ببيتك وأولادك كفاك تقصيرا وإهمالا.

أرجوك لا تحرمني هذه الفرصة القيمة لأخبرهم عنك وعن عظمتك.

من؟ أنا؟ كيف؟ ولماذا؟

نعم أنت (ابن عمي) يا (تاج راسي). كلمتي سألقيها في حفل التوقيع عنك؛ فأنت ملهمي، ولولاك لم أكتب قصصي تلك، أنت الرجل العظيم الذي أقف خلفه.

انتشى، وتمدد، وفرد ذراعيه، ثم أسبل جفنيه، ورفع قدميه، وأصدر أمرا بالموافقة والمرافقة.

D 1 آذار (مارس) 2011     A ظلال عدنان     C 0 تعليقات