عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مليكة فريحي - الجزائر

الإيقاع الحزين في شعر السياب


زخر الأدب العربي منذ عصوره الأولى الكلاسيكية بأشعار الحزن، فاعتبرت موضوعا من الموضوعات الشعرية، فيما يسمى الرثاء. واستطاع الشاعر العربي الحديث خلال فترة الرومانسية أن يجعل من الحزن إحساسا مصاحبا في أغلب موضوعاته الشعرية لاهتمامه بالتجربة الذاتية، فشاع في شعرهم رنات الأسى والحسرة والأنين والشكوى، وإن اهتمامهم بالحزن كان اهتماما بظواهر الأمور، فتضمنت أشعارهم عبارات الشكوى والأنين، وعملوا على تجسيد المعجم الحزين كالسحب القاتمة والظلام والموت وصروف الدهر ومشاعر الغربة والضياع والتمزق. وبطرح موضوع الحزن في الشعر المعاصر يقابلنا ذلك الحزن الذي رسمه بدر شاكر السياب في إيقاعه الحزين الذي نجده يلبسه للقصيدة دائما.

بدر شاكر السيابيعد بدر شاكر السياب من أهم رواد الشعر العربي المعاصر الذين ساهموا في النهوض بالقصيدة العربية ورسموا لها دربا لكي تكون لها قضية وغاية إنسانية نبيلة، فالقصيدة العربية لم تعد قائمة على انفعال فحسب، بل أصبحت رمزا واسعا يحمل هواجس النفس الإنسانية وعرضا لهموم الفرد كالفقر والجوع، فقد حوّل السياب أغلب قصائده إلى قيمة ثرية غنية بالدلالات ونقطة انسجام بين القديم والحديث، فلغته تتميز بالوضوح، وتحوي عاطفة أكثر توهجا، على خلاف أدونيس وغيره، فهو يسعى إلى اختيار الكلمة الدقيقة والألفاظ المألوفة الموحية ليوصل رسالته إلى متلقيه. وقد وجدناها كذلك في قصيدة أنشودة مطر؛ ومرحي غيلان؛ ونسيم القبر، فقد رحل إلى اللّغة اليومية التي تعبر عن الريف العراقي في مجموعة من الألفاظ: تنبض، كركر، مطر، تهامس، بنثر الغناء، تنشج، أصيح، الصدى، ينشج، أسمع الرعود، يرن، يهطل، تطحن، ظلام الموت، خيوط العنكبوت.

يرتبط حب السياب للريف العراقي دائما بالتجربة الإنسانية فقد كان ينفر من مجرد جمال الطبيعة الغامض. وقد كان كرهه للغموض هو الذي ساعده على أن يكون دائما دقيقا في لغته وصوره [1]. وحتى في عملية النضوج الشاعري وبالعيش الخصب للتجربة والوحدة العضوية الحية بين الشكل والمضـمون [2]، فكانت "أنشودة المطر" في معرفة كيمياء اللفظة على حد قول نزار قباني، وهندسة القصيدة وموسيقتها داخلا وخارجا، كما يفيد هذا الرموز والأساطير والحكايات ولغة الحديث اليومي العادي [3].

تؤسس الموسيقى في القصيدة الحداثية على مستويين أحدهما داخلي والآخر خارجي، موسيقى خارجية مؤلفة من الأوزان الشعرية المعروفة من الوزن ومن القافية، فالوزن يعني به القدماء "القياس"، فالقصيدة مؤلفة من أبيات تقاس بحسب عدد المقاطع المبتورة والمقاطع غير المبتورة، وترتيبها، ووحدة القياس هي التفعيلة [4]. والموسيقى الداخلية ترادف الوزن، والوزن مطلب إجباري قسري، في حين أن المستوى الداخلي مطلب اختياري عفوي، ومن الأداءات التي يلجأ إليها الشاعر لضبط إيقاعه الداخلي التكرار بأنواعه المتعددة كتكرار الأحرف أو الأدوات أو الكلمات أو العبارات أو حتى مقطع بكامله وما يوصف بتكرار اللازمة [5].

وقد تطورت أوزان القصيدة العربية في العصر الحديث، واعتمدت على الأوزان الخليلية، ولكن مع عدم المحافظة على نظام البحر بل نظام التفعيلة، فاستخدموا التفعيلة المفردة في البحر البسيط والتفعيلة المركبة في الأبحر المركبة، واستغنوا عن نظام الشطر وأصبح يسمى البيت سطرا، ويكون هنا الشاعر حرا في استخدام عدد التفعيلات في السطر الواحد فقد يضع تفعيلة واحدة وقد يضع تسع تفعيلات. والشاعر حر في استخدام القافية، وفي التخلي عنها، حسب حاجته التعبيرية والانفعالية. كما تنوعت التفعيلات في القصيدة الواحدة. وصار الشاعر يأتي بجوازات وتغيرات لم يقم بها أسلافه القدماء. [6] وهذا الذي أشار إليه محمود درويش حين قال:

وددت لو أجد الإيقاع لو أجد [7].

والحديث عن مشاعر الحزن في الشعر العربي المعاصر يجعلنا نعرج إلى السياب الذي نلمس عنده وجها من أوجه الحزن والمتمثل في تجربة الموت وقدره المسلط على الإنسان، فقد حاول الشاعر جاهدا أن يجعل من الإحساس بالموت باعثا ملهما لكم هائل من المشاعر الحزينة، فامتلأت قصائده بإيقاعات الحزن التي تجس نبض نفسه الحزينة، ونجده كذلك حين يقول:

ماذا جنيت من الزّمان سوى الكآبة والنّحول

وأراقب اللّيل الطويل يذوب في الصبح الطويل [8]

اشتد المرض على السياب وبدأ إحساس بالموت يسيطر عليه في كل لحظة وفي كل آونة وحين من حياته، حتى توفي سنة 1964، فدخل مرحلة جعل من الموت سيمفونية وفلسفة ذاتية، فلم يعد الموت طارئا جديدا على حياته، وإنما أصبح إيقاعا وقصائد غنائية متوسلة.

اعتمد بدر شاكر السياب في شعره على ثلاثة أنواع من موسيقى الشعر العربي، فلم يكن استخدامه لها عفويا بل بناء على حياته النفسية والشعورية والتي نجده فيها دائما كئيبا حزينا، فالسياب لم يصل إلى موسيقى الشرطين إلا بعد تجارب ومحاولات سابقة كثيرة، وكان تأثر في ذلك بموسيقى الشعر القديم القائم على ارتفاع الخبرة والخطابة [9]. وقد جُمع ذلك الشعر في ديوان يقارب ستمائة صفحة من الحجم المتوسط يضم حوالي سبعين قصيدة، وبالنظر في موسيقى هذه القصائد يتبين لنا أنه يمكن تصنيفها ودراستها في ثلاثة اتجاهات موسيقية عامة.

لقد ظل السياب متأثرا ببعض خصائص موسيقى البحور وشعر الشطرين، ولم يخل شعره في هذه المرحلة من علو الفقرة ووحدة الإيقاع، وكذلك يبدوا حريصا على الاستعانة بإيقاع القافية الداخلية والخارجية، والميل إلى جعل السطور الشعرية متساوية في القصيدة الواحدة في هذه المرحلة، كي يتوفر شعره على تناغم موسيقى واضح في السمع يعوضه بعضه بعض الذي فقد من إيقاعه البحور والقافية الموحدة [10].

ولعل أول مظهر من مظاهر تأثره بموسيقى الشطرين هو استخدامه للوزن المركب من تفعيلتي في شعره الحر، فقد استخدم السياب تفعيلتي البحر البسيط (مستفعلن، فاعلن) في سبعة مقاصد ومقاطع وبنى قصيدة كاملة على تفعيلتي البحر الطويل (فعولن، مفاعيل) كما استعمل تفعيلتي البحر الخفيف (فاعلاتن، مستفعلن) [11]. وهذا ما أدى إلى تحضير السياب إلى البحث على إيقاع متطور للشعر العربي جسد في ثلاثة إيقاعات التي ظهر فيها دائما حزينا يبحث عن أمل منشود لا يتحقق.

إيقاع الخصب والنماء

سجل هذا الإيقاع عن السياب للبحث عن الولاءة والسلام والرخاء، ويشفعها في كثير من الأحيان بألفاظ: المطر، والفجر، والندى، والمياه، والنور، وغيرها من الألفاظ والتراكيب التي تؤدي هذه المعاني، وأيضا تكرار بعض الكلمات والتراكيب الدالة على الخصب والنماء والحياة، وهدف الشاعر من اللحن الناشئ عن التكرار هو التأثير الذي ينسحب على جو القصيدة بأكمله. أما التدفق فيدل على جودة الصيغ، فحين يقترن بإيقاع الخصب يدل أيضا على حرارة العطاء ووفرة المحاصيل، وقوة الحياة، وقد نجد هذا اللون من الإيقاع واضحا في القصائد التالية:

مرحي غيلان؛ غارسيا لوركا؛ النهر والموت؛ المسيح بعد الصلب؛ في المغرب العربي؛ شناشيل ابنة الجلبي؛ أنشودة المطر [12].

يعد السياب في قصيدة "أنشودة المطر" من أوائل الشعراء الذين أغرقوا أنفسهم في استخدامهم الرموز، فمن الطبيعي أن نجد الشاعر يلبس ألفاظا حلة جديدة مجازية بعيدة عن الواقع بطريقة رمزية لغرض ما في نفسه، فالمطر قد يوحي بذكريات الطفولة والأحلام السعيدة، وقد يعنى الجوع حين يربطه الشاعر بجو خاص كما هو مسجل في القصيدة:

كأنّ أقواس السحاب تشرب الغيوم

وقطرة فقطرة تذوب في المطر

وكركر الأطفال في عرائش الكروم

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

أنشودة المطر

مطر

مطر

مطر [13]

لقد تكررت كلمة مطر مرات عدة في القصيدة وهي توحي بسقوط المطر المتواصل، فالتكرار ركيزة بنائية في الشعر الحر [14]. وقد جاء التكرار في عدة مستويات مست القصيدة من حيث الألفاظ ونسجل ذلك في تكرار كلمة "مطر" وتكرار بعض الحروف كحرف الميم عدة مرات، وهو يدل على الأحاسيس التي تتعلق "بالشفتين لدى انطباقهما على بعضهما بعضا" [15]، فالشاعر يبعث قصيدته للدلالة على الألم والغربة النفسية المحيط به وعن إيقاع حزين يرافق فعل الحنين.

استطاع السباب من خلال هذه القصيدة التي صور فيها صورة المطر أن يرحل بالرمز بعيدا بحيث كانت رموزه الشخصية تراثية لكنها متجاورة، أي أن مداها الرمزي لم يكن فسيحا ولم يكن متنوعا بشكل كاف. ثم أن الرموز على كثرتها تدور في مناخ من الدلالات لكنه في أحيان كثيرة ضيف جاد مغلق [16]. لقد اشتق هذه الرموز من الطبيعة ومن حياته وذلك لتحسين صلته بها خير تجسيد، فقد كانت تمثل هذه الرموز لديه مأوى ومكانا للهموم، أو هروبا عن الواقع.

ونجد في قصيدة مرحى غيلان التي يصور فيها أيضا المطر اختفاء إيقاع التفعيلة متفاعلن ليبرز مكانه إيقاعه آخر ناشئ عن تكرار اللفظة" بابا " إحدى عشرة مرة في القصيدة. وقد تعمد الشاعر أن يتخذ من هذا الإيقاع محورا تدور حوله أحداث القصيدة، وتتعلق به بفضل ما أتاح له من الشخصيات العاطفية التي تحملها كلمة "بابا" التي تشبه في تأثيرها الموسيقى النفسي تعويذة الساحر ورقية العراف [17]:

"بابا، بابا"

ينساب صوتك في الظلام، إليّ، كالمطر الغفير،

ينساب من خلل النعاس وأنت ترقد في السرير

من أيّ رؤيا جاء؟ أي سماوة؟ أي انطلاق؟

وأظل أسبح في رشاش منه، أسبح في عبير

فكأن أودية العراق

فتحن نوافذ من رؤاك على سهادي، كل واد

وهبته عشتار الأزهار والثمار [18].

استطاع السياب من خلال هذه القصيدة أن يحيك ثوبا رمزيا رائعا للتعبير عن نفسه، بحيث نجد سيطرة صورة الحزن التي رسمتها القصيدة في الألفاظ التالية (بابا، الظلام، أي انطلاق، عشتار، الأزهار، الثمار، روحي)، هي آلام لا يرد الإفصاح عنها، فهذا الإيقاع ساعد السياب على رسم حزنه الذي شكل في قضية البعث، فهو لا يريد الموت بل أن تبعث له حياة جديدة، وحاول أيضا إبراز المضامين الوجدانية المتشائمة بمعجم حزين جسده في القصيدة مستفيدا من عناصر الطبيعة ومحاولا التأثير على المتلقي أمام نفسيته المنهارة اليائسة، فمزج بين الأسطورة من خلال الابتعاد عن المألوف في تركيب كلماته مثل(عشتار، الأزهار، روحي، ترقد في السرير)، والواقع الأليم الذي يعيشه السياب فقد كان يعمل على ترويض نفسه على الموت باعتباره هزيمة ونهاية لا مفر منها، فخرج في قصيدة مرحى غيلان بمعجم شكل في ثلاثة حقول دلالية:

1. الألفاظ الدالة على المكان: السرير، الأزهار، السماء، أودية العراق، وغيرها.

2. الألفاظ الدالة على الزمان: الظلام، العبير، أظل، وغيرها.

3. الألفاظ الدالة على الحزن: لها أرقد، السهاد، النعاس، السحاب، الغيوم، وغيرها؛ وكل هذه الحقول تقوم على النظرة التشاؤمية للشاعر والنواة الدلالية لمجموعة من قصائد السياب.

وظهرت أصوات الحزن أيضا في الأساليب الإنشائية فترتبط بانفعالات الشاعر، التي غلب عليها الإنشاء الطلبي المتمثل في الاستفهام (من دون رفيق؟ خروب المقبرة الصادي؟ ألا ترمي أثوابك؟) وهي استفهامات لا تفيد بحسب مقتضى الظاهر، بل خرجت عنه لتفيد معنى مستلزما حواريا بحسب مقتضى الحال تفيد الالتماس واليأس.

ونجد أيضا قصيدة أنشودة المطر المليئة بألفاظ الحقل الدلالي الحزين والتناقضات التي صنعها الطباق فيما يلي تؤكد الحزن العميق الذي يعيش فيه الشاعر من خلال خوفه من شيء ما يحاصره، التي تظهر ليس فقط في عبارات لفظية كهذه:

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف

الموتى والميلاء والظلام والضياء [19].

وقد تظهر أيضا في موضوعه الرئيسي وهو صورة المطر الذي يهطل لبعث الحياة. لكن حتى لو تبعث الحياة لا بد من نهاية. يبدو السياب في هذه الأبيات يائسا من الحياة وقد عدت في نظره نتيجة الضربات الموجعة رمزا للحزن والألم فقط، فصنع في قصيدة أنشودة المطر إيقاعا مبنيا على سيمفونية أحدثها وقع لفظة المطر والموسيقى التي أحدثت تنوعا في التفعيلات، فقد تراوحت في واحدة مثل (مطر: فعلن)، وتفعيلتين (أنشودة المطر: مستفعلن، متفعلن)، وأربع تفعيلات (مستفعلن، متفعلن، متفعلن، مستفعلن)، ويعتبر هذا الدفق في الكلمات صدى لواقعه النفسي الذي يعيشه، وكأنه يتنفس بوقع الكلمات التي نجدها دائما تحيط بحقل الألم، وخاصة في صنع التشبه بكثرة: كالدم، كالموتى، كالحب، كالأطفال. صراع في نفسية الشاعر بين مسألة البعث والرزق والموت والمطر.

إيقاع الجفاف والضحالة

سمي هذا الإيقاع بهذه التسمية لأنه يزرع في النفوس الخوف والرعب. وقد نجد مثل هذا الإيقاع في قصيدة "مدينة بلا مطر" وهو يرسم لوحة فنية للمطر التي نظمها على وزن مفاعلتن المتكررة ومنها قوله:

سحائب مرعدات مبرقات دون إمطار

قضينا العام بعد العام بعد العام نرعاها.

وريح تشبه الإعصار لا مرت كإعصار

ولا هدأت ننام نستفيق ونحن نخشاها

عيونكم الحجار نحسها تنداح في العتمة.

لترجمنا بلا نقمة.

عذارانا حزانى ذاهلات حول عشتار.

يغيض الماء شيئا بعد شيء من محياها.

وغصنا بعد غصن تذبل الكرمة [20].

نسجل في هذه القصيدة حركات المد وقد بلغت خمسا وثلاثين حركة، حركتين بالمد مع الضم، وأربع حركات بالمد مع الكسر والباقي حركات مد مفتوحة، وربما كان النوع الأخير من الحركات لإخراج المد والتوجع، حين تأخذ أعضاء النطق شكلا: أفقيا ساكنة، وبالتالي فإن كثرة حركات المد المفتوحة في النص تدل على درجة توجع الشاعر وأسفه على نضوب ماء الحياة. بعد ذلك ينتقل إلى حركة على الغضب والثورة، وقد نقل السطر الأخير إحساسا بجمود الحركة تماما، مما يوحي بالسكون المطلق والثلاثي ثم الموت بعد ذلك، وهذا الإيقاع له دافع نفسي عند السياب، أي أن الشاعر يصارع شيئا ما، بدأ بالتوجع والألم، لينتقل إلى الغصب والصراع، لكن ليستسلم للواقع. وكانت القافية أيضا تشمل هذا الإيقاع الجاف متمثلة في جرس الهاء الممدودة في ثلاثة مواضع، والهاء المقيدة في أربعة، وكذلك الراء المكررة التي تعني بقلتها محاولة تمرد فاشلة. ويبقى حرف الهاء الذي يحمل الآهات يدل على الحزن العميق الذي يدب في نفسية السياب، فقد كانت صورة المطر مرة أخرى رمزا للألم [21].

حينما ننظر في العنوان، نجده يتألف من ثلاث كلمات، تحمل في طيّها مفارقة غريبة، تتأتّى من أسلوب النفي الذي انطوى عليه العنوان: مدينة، وبلا مطر.

لا يكاد يذكر المطر إلا وتداعت إلى الأذن تلك الأنشودة التي نظمها السيّاب بكلّ ما يحمله المطر من دلالات تحيط بهذه اللفظة منها الخصب والحياة، فجاء قصيدته تلك تعجّ بألفاظ المطر والذي نجده فيها يعزف على سيمفونية نفسه، لكن بأسلوب مختلف؛ فهذه المدينة أقفرت من كلّ مظاهر الحياة والخصب، فالسحب ترفرف في سماءها لكن دون إمطار، والناس خائفون حيارى جياع، جوع وخوف وعدم الشعور بالأمن، لذا أضحت النساء عذارى ذاهلات حول عشتار (إلهة الأنوثة والحب) ما من أحد يبدّد ذهولهنّ، فهذا النفي يلغي كل أسباب الحياة الممكنة على أرض هذه المدينة.

ولكن مرّت الأعوام، كثرا ما حسبناها،

بلا مطر، ولو قطرة

ولا زهر، ولو زهرة

بلا ثمر – كأنّ نخيلنا الجرداء أنصاب أقمناها

لنذبل تحتها ونموت.

استحالت الحياة على أرض، لا مطر ولا زهر ولا ثمر إذن موت وإذبال، لتبقى المدينة ساهرة تقاسي همومها وأحزانها، وهي خلاصة أحزان الشاعر تظهر في كل ركن من أركان القصيدة وألم يطل علينا في كل صوت يثبته السياب في لفظة المطر، هي أحزان تلبسها الألفاظ تعكس عمق ألم الشاعر.

الإيقاع المأساوي

يتمثل في إيقاع "اللحن الجنائزي" [22] ومن خصائصه كثرة الحروف الدالة على الحنين والبكاء والحنين إلى الموت، ويكون فيها الحقل الدلالي للقصيدة تجسيدا لذلك، فقصيدة نسيم من القبر التي يقول فيها الشاعر

نسيم الليل كالآهات من جيكور يأتيني فيبكيني

بما نفثته أمي فيه من حب وأشواق.

تنفس قبرها المهجور عنها قبرها الباقي

على الأيام يهمس بي "تراب في شراييني

ودود حيث كان دمي وأعراقي

هباء من خيوط العنكبوت وأدمع الموتى

إذا أدركوا خطايا في ظلام الموت: ترويني

مضى أبد وما لمحتك عيني" [23]

فحين قراءة هذا المقطع نحس بتثاقل الحركات وبطئها كما نلاحظ حركات مد طويلة مفتوحة أو مكسورة فتأتي في صيغة أنين متصل، يأتيني، يبكيني، أشواق، شراييني، أعراقي، ترويني، نتيجة ضعف الشاعر وفقدانه لعناصر الحياة والقوة. فالشاعر مكسور الخاطر كسرة الحركة المفروضة على الحرف، وكذلك كلمات الدود والعنكبوت والقبر المهجور تدل على العزلة، أي مفارقة الشاعرة للحياة والنهاية المؤكدة، فكانت صورة القبر رمزا لحزن الشاعر العميق، فهو "يعبر عن مأساته الشخصية، ذلك الذي كتبه عندما كان يصارع المرض والموت المحيق" [24].

الخاتمـــة

لم يخرج السياب عن نظام الأوزان الشعرية المعروفة عند الخليل بن أحمد الفراهيدي فقد اعتمد على مستويين من الإيقاع أحدهما داخلي والآخر خارجي، فالخارجي يحدده الوزن والقوافي، أما الداخلي فيحدده التكرار بأنواعه المتعددة.

لقد كان الشاعر رمزا موسيقيا ذكيا في عملية التزاوج بين الألم وصنع الموسيقى الحزينة حتى وهو يداعب الألفاظ في قصيدة أنشودة المطر، وقادرا على تجسيد آلامه الجسدية والروحية في قصيدة مرحي غيلان ونسيم القبر، وهذا ما ولد لديه نظرة سوداوية للحياة ويأسا غير محدود. رغم ذلك أحب الموت ورأى فيه انتصارا لشعبه. وأما مأساته فتكمن في غربته الأبدية بعيدا عن أمه الحياة والدامية التي شكلها له صراعه مع الموت في إيقاع مليء بالأحزان.

= = =

الهوامش

[1] إبراهيم خليل، الشعر العربي الحديث، دار المسيلة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2003، ص 734.

[2] خليل كمال الدين، الشعر العربي الحديث وروح العصر، دار العلم الملايين، بيروت 1964، ص 298.

[3] خليل كمال الدين، الشعر العربي الحديث وروح العصر، ص 298.

[4] عبد الحميد حبيرة، الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، 1980، ص 352.

[5] إبراهيم خليل، الشعر العربي الحديث، ص 325.

[6] إبراهيم خليل، الشعر العربي الحديث، ص 352-353.

[7] محمود درويش، هي أغنية .. هي أغنية، دار العودة، بيروت، 1993، ص 23.

[8] سعيد الورقي، في لغة الشعر العربي الحديث، مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، 2003، ص 273.

[9] عثمان حشلاف، التراث والتجديد في شعر السياب: دراسة تحليلية في موارده، صوره، موسيقاه، ولغته، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ص 139.

[10] عثمان حشلاف، التراث والتجديد في شعر السياب، ص 147.

[11] عثمان حشلاف، التراث والتجديد في شعر السياب، ص 147.

[12] عثمان حشلاف، التراث والتجديد في شعر السياب، ص 156.

[13] بدر شاكر السياب، ديوانه، دار العودة، بيروت، مج1، 1971، ص 447.

[14] موئيل موريه، أثر التيارات الفكرية والشعرية الغربية في الشعر العربي الحديث، ترجمة شفيع السيد وسعد مصلوح، مراجعة لبنى صفدي، مكتبة كل شيء، حيفا، 2004، ص 394.

[15] حسن عباس، خصائص الحروف العربية ومعانيها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998، ص 72.

[16] علي جعفر العلاق، في حداثته النص الشعري، دراسته نقدية، دار الشروق، للنشر والتوزيع، 2003، ص 52.

[17] علي جعفر العلاق، في حداثته النص الشعري، دار الشروق، للنشر والتوزيع، 2003، ص 156.

[18] بدر شاكر السياب، ديوانه، ص 324.

[19] بدر شاكر السياب، ص 448.

[20] بدر شاكر السياب، ص 487-488.

[21] بدر شاكر السياب، ص 487-488.

[22] عثمان حشلاف، التراث والتجديد في شعر السياب، ص 168.

[23] بدر شاكر السياب، ديوانه، دار العودة، بيروت، مج2، 1974، ص 672.

[24] سلمى الخضراء الجيوسي، الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص 47.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2010     A مليكة فريحي     C 0 تعليقات