أشواق مليباري - السعودية
العمة الطيبة
في قريتنا الصغيرة، كان الجبل يحتضن بيوت جدي وأعمامي التي تداخلت وتحلّقت حول مزرعة النخيل المثمرة صيفا. عند تلك البيوت الطينية وقرب المسجد الصغير الذي بناه جدي يقع بيته الأبيض، جدرانه الداخلية الزرقاء وأبوابه الحديدية، وسقفه الذي رُصف بجريد النخل، يمتزج ذلك كله بروائح البخور والقهوة التي تغلي على النار في ذلك المطبخ الصغير، لتغمرني ببهجة الأعياد التي كنّا نمضيها هناك.
كان الباب الذي يطل على المزرعة يُظهر أقراط الرطب الأصفر والأحمر المتدلية، القوام الممشوق للجذوع المعمّرة، السعف الأخضر الذي شُذّب بعناية، ومن خلف ذلك الجمال كُلّه يتربع الجبل شامخا عاليا، وعند ذلك الجبل يوجد بيتها.
ما زلت أذكر تلك الطريق المليئة بالحجارة والحصى، وكنت آنذاك ما زلت زهرة صغيرة، أمرح وألهو فرِحَة بالعيد. كانت أمي تمسك بيدي الصغيرة جيدا كي لا أتعثر، وتتهادى هي في مشيها مثقلة بإحدى أخواتي، أو تحملها في يدها بعد ولادتها. لم يكن هناك شيء يحول بينها وبين زيارتها في كل مناسبة.
كنا نمشي في ذلك الوادي حتى نصل إلى بيتها الطيني، وقبل أن نقترب من الباحة الصغيرة التي تحيطه تقريبا والتي لم يكن لها باب، تقرع أمي على خزان ماء قديم، وضع قرب الحائط الذي يستر الباحة من جهتين، بينما تستر صخور الجبل الباقي.
تُسلّم أمي بصوت عال، فلم يكن هناك زوج ولا ولد، لم يكن هناك غيرها، كانت إذا سمعت أصواتاً من الخارج تهرع ترد السلام وترحب، فيطل علينا وجهها الذي رسم عليه الزمن أخاديده، بذلك الثوب الأحمر المتهالك، وتلك العباءة السوداء التي لا تفارق رأسها.
تسكن وحدها في تلك الغرفة الصغيرة التي تسميها بيتا، تدور في سقفه مروحة متعبة من طول السنين، في زاويته ثلاجة صغيرة، وموقد، وبجانبهم خزانة مكشوفة، تتزاحم عليها أقداح الشاي والقهوة وبعض القدور الصغيرة. الفراش الوردي وعليه بعض الوسائد يكفي لجلوسنا أنا وأمي لا غير.
تسرع إلى طبق صغير عليه بعض الحلوى التي كانت حقيبتي الملونة تنوء بمثلها، تقدمه لنا، فأهز رأسي بأني لا أريد فتصر على ذلك، فتحثني أمي على أخذها بأن تأخذ هي واحده وتضعها في فمها ثم تنظر إليّ مبتسمة. كانت حريصة على الجلوس عندها تشرب الشاي أو القهوة وتحدّثها، كنت أنظر إليهما متسائلة: ما نوع الحديث الذي يجمع بين امرأتين من جيلين متباعدين؟
كانت أمي تحب سماع قصص الماضي، وتحكيها لنا بطريقة مبسطه كي تربطنا بتراثنا، وتغرس فينا حب ذلك الزمان البسيط وحب أهله الطيبين.
سألت أمي ذات يوم لم هي وحيدة؟ أخبرتني أن وقتهم كان عصيبا: فقر وعوز وشح في الموارد. وقُدّر لها أن تتزوج من رجل له امرأة وأطفال. فغضبت الزوجة الأولى وتركته، وتركت لها طفلين ورضيعا لا يعرف عن هذه الدنيا شيئا، فأخذت على عاتقها تربيتهم والعناية بهم. وانحنت عليهم كما تنحني الشجرة على عصافيرها. جاعت كي تطعمهم، وعطشت كي تسقيهم. تحلب الشاة وتخض اللبن، وتطحن القمح، وتجزّ العشب للدواب، وتغزل الخيوط وتحيكها. وعندما شبّوا عن الطوق مات زوجها وتزوج الأولاد، وخُلّفت وحيدة، تسكن هذه الغرفة التي بناها لها إخوتها الذكور كي تعيش بقربهم وتأنس بأبنائهم وأحفادهم. كنت أنا من الجيل الرابع وكانت هي باكورة الجيل الأول، ولكن الله مدها بالصحة والعافية.
كانت هادئة كسحابة صيف، قليلة الكلام. لم أسمعها تشتكي يوما، لسانها يلهج بالحمد والدعاء، إذا جاءت قام الكل ليسلم عليها، ثم ما يلبثون أن ينشغل كل بما عنده، فتقعد في زاوية ترقبهم صامته، فإذا مر أحد الأطفال من أمامها جذبته إليها بحنان، وقبلت رأسه، وربتت على ظهره ثم سألت: "ابن من هذا؟" كانت تفعل هذا مع الكل، إلّا أنا. فقد كانت تعرفني جيدا وتعرف أختي وتُظهر محبتها لنا.
لقد كانت تحب أبي حبا شديدا. ذلك الطفل الهادئ، يخدم الكل، ويترك الشجار وأذية الناس، يلعب لوحده عند الشجرة القريبة من بيتها. من حبها له أهدته إحدى غنماتها، وكانت تحدثه عنها كلما زارها. وعندما شب وتزوج بأمي، أحبتها كثيرا، فقد كانت أمي تقدّرها وتحترمها، وتقبل رأسها حين تلقاها حبا لها وإكراما لسنّها.
في يوم عزائها لم يصرخ أحد أو ينح عليها، الكل كان حزينا، لكن المكان كان ساكنا هادئا مثلها. رحلت بعد أن ذاقت من هذه الدنيا حلاوة ممزوجة بالكثير من المرارة، بقي بيتها خاويا، وظلت تلك الشجرة قرب بيتها تذكرنا بها. وقفت أمي أمام البيت في أحد الأعياد، انهمرت الدموع من عينيها وقالت في حزن: "عوّضك الله أيتها العمة الطيبة عن هذه الدار وهذه الشجرة، بدار خير، وجنّة خلد."
◄ أشواق مليباري
▼ موضوعاتي