إبراهيم يوسف - لبنان
مـــواســـم
وكانت الأرض سخية في أيامهم، وقلوبهم سخية في محبة الأرض، وأيديهم لا تعرف غير العطاء. هم يعطون، والله يملأ بطن الأرض بالخيرات ويعطيهم. هؤلاء راحوا. لم يبق منهم في بلادي غير السكة المكسورة والمعول المهجور. وبيادر القمح، تنوس فيها الحياة، على بقرات عجفاء وحبات عجفاء، لا تشبع عصفور الدار الحبيب. (فؤاد سليمان (*))
يتساوى في العمل جنبا إلى جنب، الرجال والنساء، ويتم الحصاد وجني المحصول من القمح والحبوب المختلفة "يالعونة" واستخدام المنجل الأداة البدائية البسيطة التي عرفها الفلاح منذ أقدم العصور. ترضع الأم طفلها؛ وتتركه نائما في ظل خيمة أعدت له لتشارك أيضا في الحصاد.
تطلق الأغاني والزغاريد فرحا بخير المواسم ووفرتها، ويتقدم رهط الحصادين متيم بامرأة بيضاء، يطالبها أن تعتني بنفسها وتتعهد نقاوة بشرتها كرمى لعيني الحبيب، فيعلو صوته بالغناء:
ردي منديلك ردي = = بيضا والشمس حدي
بكرا بيجيي محبوبك = = وبيلاقيكي مسودي (*)
يكدس الحصاد في رزم مربوطة معتدلة الأحجام، تكفي اثنتان منها حملا لدابة. توزع متوازية على الجانبين، ينقلها تباعا من الحقل إلى البيدر رجاد مجتهد وحيوان نشيط. أرض معدة للغاية ممهدة وصلبة؛ حيث يتم تجميع الرزم في كومة كبيرة، هرمية الشكل حادة الانحدار، تحجب حرارة الشمس وتمنح فيأها حتى الظهيرة: هي البيدر.
ينشر القش في طرحه بالتوازي مع استدارة البيدر، ليدرس "بنورج" (*) خشبي، لا يتعدى حجمه مترا مربعا ولا يزيد يجره ثوران. تعلو مقدمة النورج قدما أو بعض "قدم" (*) وتسهل مروره فوق الحصاد، أما جهته الملامسة للقش، فخشنة بفعل حجارة مسننة من الصوان، حشرت في ثقوب معدة لذلك.
يتربع على النورج غلام أو صبية، يعتمر قبعة تقي الرأس من الشمس، يدفع ثورين يحفزهما بعصا طويلة حادة الطرف هي "المساس". حين تتوقف إحدى البهيمتين وترفع ذيلها، يبادر صبي النورج كي يتلقى روثها بوعاء معد لهذه الغاية، فلا يختلط السرجين (*) بالحب والتبن.
لم تضع فرصتي في الإفادة فنلت نصيبي وحظيت بالجلوس على النورج برفقة نهاد: صبية تعيش في المدينة، سحرتها التجربة وحياة القرية. شممت عطر عرقها وهي جالسة بجانبي، فحركت الوجد في روحي وجسمي واستنفرت رغبتي وعواطفي، فاختل صوابي من منظر ساقيها العاريتين.
ثم أفلت ليلة القدر ورحلت نهاد بعد أيام معدودات. تألمت طويلا حين أضعتها. غابت وتركت في قلبي حسرة عصية على التعبير، فلم نلتق بعدها أبدا. كنت كلما أبصرت صبية على بيدر، تراءت لي نهاد بعينيها البنفسجيتين وشعرها الأشقر. عذبتني الخيبة وطول الانتظار، فتلاشى الحظ وضاع الأمل في العثور عليها. وبقي طيفها في خاطري حلما بهيا، يراودني في كل موسم وعلى كل بيدر.
العامل على النورج يشكل وزنا إضافيا، يساعد على سحق القش ليغدو تبنا غنيا بالحبوب، تفصلها عنه ريح مؤاتية باستعمال مذراة خشبية كبيرة، تشبه في شكلها شوكة الطعام، ترفع الحصاد المدروس (الذراوة) وتنشرها في العالي، فتحمل الريح التبن الخفيف بعيدا عن حبوب تتساقط؛ ينتظرها غربال ليفصل عنها الحصى والشوائب.
- صورة فلاح وحقل قمح
لعل القمح أهم الحبوب التي يجنيها الفلاح في الإقليم، لأنها تتحول إلى خبز "لا يحيا الإنسان بدونه". يحتفظ المزارعون بالبذار اللازم ومؤونتهم من الحنطة والحبوب الأخرى، كالحمص والعدس والذرة والفاصوليا وسواها، فتسحب حاجتهم من المستودع قبل بيع الفائض لمصاريف العام المقبل.
"تصول" (*) الحبوب وتجفف جيدا تحت أشعة الشمس، وتنقى من الحصى والشوائب الباقية. كنت أشارك في تنقية الحبوب بقلب تائه، بصمت مطبق وبكاء أخرس، وأحلام تسافر عبر البحار تجول على الدنيا، تفتش عن نهاد؛ عن فمها السكران وعينيها البنفسجيتين. نهاد حفرت فجوة في القلب. لكن الذكريات حين يطول الزمن تتحول إلى عبث وقنوط ثم إلى صمت وسكون.
تنقل الحبوب النظيفة إلى "الكوارات": حاويات من الطين في جدران المنازل، لتستهلك تباعا بانتظار الموسم القادم، ونورج يجلس عليه غلام وحيد، نسيته نهاد فانتزعته من مشاعرها وأهملته. صار يستفزه النورج، حيث جلست وبدا بياض ساقيها ليجدد في نفسه الغصة والألم.
تلك الحاويات ما تزال قائمة في بعض البيوت، لكنها صارت عديمة النفع فارغة من المؤونة والقمح، لا تختلف عن قلوب فرغت من الحب؛ وكفرت بخير الله والأرض.
الفلاح الناجح يدرك أهمية مخزون التبن وحبوب العلف، ما يكفي ويزيد عن حاجة الماشية والدواجن. أما الحبوب المعدة للبذار، فلا تغسل أبدا لكيلا تفسد أو تخسر قدرتها على النمو والتفاعل مع الأرض، في بذور تعشق التربة وتموت فيها، ثم تحيا خيرا كثيرا يفيض على الخلق.
طرق تقليدية معتمدة في تجفيف وحفظ الفواكه والخضار، وإعداد مختلف مؤن الحبوب المصنعة كالكشك والبرغل وسواهما. والنباتات العطرية حاجة لازمة، وإكسير يطرد الأرق، يساعد على النوم ويشفي من الرشح والسعال ويعيد إلى النفس الهدوء. أما "القاورما"، مخزون الدهون والسعرات الحرارية فمن أهم المؤن التي يحتاجها أبناء الريف. يستعيضون بها عن لحم دخل بالخطأ "كيميا" البشر، وبات عنصرا أساسيا يقرر مستقبل صحة صارت لا تستقيم بدونه.
يتحضر السكان جيدا لشتاء يخافون قسوته، ويتحسبون له بانتباه بالغ وحرص شديد، فيخزنون ما يكفي من المؤونة يواجهون بها الأيام الصعبة الآتية، فيعلفون في الغالب خروفا وحملا، أو نعجة نشف الحليب في ضرعها.
تبدأ تربية "العلوفة" (*) أواخر الربيع، أو أوائل الصيف وتستغرق أشهر الصيف بكامله؛ وبعضا من الخريف. تسمن الماشية بإطعامها "مجروش" الشعير مخلوطا بطحين الذرة، وورق التوت والكرمة، وقشور البطيخ وفضلات الخضار الأخرى، وتغسل أصوافها في كل يوم.
في الأشهر الأخيرة يتم إطعامها مباشرة من اليد، وتكون قد بلغت من الوزن ما يعرقل مشيها. يتم الذبح بعزل السائمة عن بعضها. بعد أن تسقى ماء، يتلو القصاب على مسامعها أمر الله في الذبح. أبي كان يهجر الدار عادة في مثل هذا اليوم، لكيلا يشهد على ذبح ولو مرخصا وحلالا، وكان لا يجد حجة لله عليه إن أحجم عن أكل اللحم، ما دامت "فلسفته" تقضي بأن الله لم يحرم الامتناع.
لعله كان يمني نفسه بيوم يأتي؛ يعيش الإنسان فيه على رحيق الأشياء. أبي عاش تعبا معذبا في هواه وطبعه، وأورثنا طباعه دون أن ندري. كان يردد قول إبراهيم طوقان إن هو شاهد ذبيحا يختلج ويتخبط في دمائه:
قالوا حلاوة روحه رقصت به فــأجبتــهم: ما كل رقص يطـرب
كان أيضا "صديق" المعري، يردد قوله:
استضعفوك فوصفوك = = لِمِ لَمْ يصفوا قلب الأسد؟
لعله كان مصيبا في آرائه ومعتقداته، فلم الفداء دائما بالكبش والنعجة؟ ألا ينبغي لمرة أن يكون الحوت أو التنين هو الفداء؟ ولماذا الفداء دائما بالدم؟
المفارقة أن أبي كان صيادا يمني نفسه بالعيش نباتيا! يأكل اللحم ما دام بعيدا عن الذبح والدم. معتدلا بل مقلا في حاجاته وغذائه، جادا ونشيطا في عمله، محمودا من الناس. لعله مات معذبا، فلم يهتد في البحث عن ذاته للخلاص. ولو كان أكثر بأسا على نفسه، لهجر أكل اللحم كما هجر متع الدنيا، وانتصر على وساوس الشيطان.
===
(*) فؤاد سليمان من "درب القمر".
الأخوان رحباني.
"النورج": من حديد أو خشب، ما يدرس به الحصاد (آرامية).
"القدم": وحدة قياس تساوي 33 سنتم.
"السرجين": النفايات.
"تصول": تغسل بالماء لإزالة التراب وبعض الشوائب.
العلوفة: دابة تعلف، ولا ترسل للرعي (للواحد والجمع).
*من قصيدة للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان بعنوان "الحبشي الذبيح":
برقت له مسنونة تتلهب = = أمضى من القدر المتاح وأغلب
حزت فلا حد الحـديــد مخضب = = بدم ولا نحــر الذبيح مخضـب
يـعـدو فيجذبـه العياء فيـرتمي = = ويكاد يظـفــــر بالحـياة فتـهـرب
حتى غلت بي ريبة فسألتهم: = = خــان السلاح أم المنية تكذب
قالوا حلاوة روحه رقصت به = = فــأجبتــهم: ما كل رقص يطـرب
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي