رشيد فيلالي - الجزائر
رحيل الروائي الأميركي جيروم ديفيد سالنغر
في يوم 27 جانفي (كانون الثاني/يناير) 2010 توفي الروائي الأمريكي، جيروم ديفيد سالينغر(*)، عن عمر يناهز 91 عاما في مسكنه الكائن ببلدة كورنيش في نيو هامبشير. ويعد هذا الروائي أحد أعمدة الأدب الأمريكي المعاصر على رغم قلة إنتاجه الأدبي المنشور.
فضل سالينغر الابتعاد عن الأضواء والعزلة الإعلامية التامة منذ قرابة خمسين سنة، وحدث ذلك في أعقاب نيل روايته الحارس في حقل الشوفان (*)" (Cathcher in the Rye) نجاحا ساحقا، جعل منها إحدى أبرز كلاسيكيات الرواية المعاصرة. وقد تم نشر هذه الرواية أول مرة عام 1951 وترجمت إلى جميع اللغات العالمية، وطبع منها عالميا أكثر من ستين مليون نسخة.
ورغم انتقاد النقاد الذين تناولوها بالدراسة والتحليل المستفيضين إلا أن ما يلاحظ ضمن مجمل هذه الدراسات النقدية حسب المتتبعين هو ذاك الإجماع حول كون الرواية أفضل ما كتب حتى الآن حول تيمة المراهقة والقلق الوجودي والتوتر النفسي الذي يعيشه المراهق في تلك المرحلة الحساسة والهشة من العمر، وسيما بعد اجتيازه لمرحلة الطفولة بكل ما تتضمنه من براءة وشفافية وأمل في مستقبل، لكنه ينقلب ويبدو من يوم إلى آخر أكثر خشونة وسوداوية ومؤلما وصداميا.
ومن هنا فقد جرى اختيار الرواية لتدرس بعدد كبير من المدارس في الولايات المتحدة إلى غاية الآن، على رغم انتفاضة البعض من البيداغوجيين حيال هذا الأمر كون هذه الرواية في منظورهم تتضمن أسلوبا لغويا أقرب إلى العامية البسيطة، فضلا عن تعابيرها التي تظل ممجوجة من طرف الذوق العام وخلوها من عنصر التوشية أو الإبهار البلاغي.
ومهما يكن السبب فإن كتابات سالينغر تبقى أبرز سماتها الصدق والعفوية، إذ استطاعت أن تأسر ملايين القراء ليس في أمريكا فحسب بل في جميع مناطق العالم، ويعاد نشرها وطبعها مرارا.
المثير في الأمر أن سالينغر لم يكن يتصور أبدا أنه سيصبح أحد أعمدة الأدب الأمريكي المعاصر، خاصة وأنه كان أسوأ طالب في اللغة الإنجليزية، حيث فشل في جميع مراحل دراسته، الأمر الذي حثه على تلقي دروس في الكتابة بجامعة كولومبيا عام 1939 بقصد تجاوز هذه الإعاقة اللغوية التي أرقته وهو الذي يعشق مداعبة القلم والإبحار في عالم الكتابة الذي يعده فعلا ممتعا يفضل ألا يشرك الآخرين فيه، لأن الكاتب حسب تصوره يظل عظيما مالم يرتهن لأضواء الشهرة وبريق وسائل الإعلام مهما كان نوع وأسلوب إغرائها.
وهذا في الحقيقة ما يفسر تلك العزلة الغريبة التي اختارها سالينغر طوال سبع وأربعين سنة، إذ رفض خلالها تقديم ولو حوار واحد لوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية معا، وقد أصر على هذا الموقف المحير مع كل إلحاح مشاهير الإنتاج السينمائي الذين رغبوا في تحويل روايته الحارس في حقل الشوفان إلى فيلم طويل بهوليوود.
ولد جيروم ديفيد سالينغر في الفاتح من شهر جانفي العام 1919 بنيويورك، وبدأت أولى بوادر شهرته عام 1948 على إثر نشره لمجموعة قصص بصحيفة نيويوركر. لكن روايته الحارس في حقل الشوفان تعتبر أفضل أعماله على الإطلاق، وأصبحت مرجعا أدبيا لأجيال من الروائيين الأمريكيين بعد الحرب العالمية الثانية.
هاجر سالينغر إلى شرق أوربا وتحديدا إلى بولونيا لتعلم إحدى المهن، غير أن مقته لعالم الشغل ضمن الصنعة التي أراده والده التاجر زجه فيها عنوة دفعه إلى العودة مسرعا إلى الولايات المتحدة، حيث انتسب إلى أكاديمية عسكرية بولاية بنسلفانيا. وبعد مغادرته لهذه الأكاديمية التي لاقى فيها فشلا ذريعا بدراسته، دخل جامعة كولومبيا عام 1939 ليتعلم أبجدية الكتابة.
اكتشف أستاذه وايت بورينت موهبة أدبية لم تلبث أن أعلنت عن نفسها ضمن قصصه التي راح ينشرها تباعا بمجلة ستوري ماغازين التي يتولى نشرها أستاذه بورينت بالذات، ثم أضحى أحد أبرز محرريها فيما بعد.
وكانت قصة "مجموعة شباب" المنشورة بالمجلة المذكورة عام 1940 أولى النصوص التي ينشرها ضمن هذه المطبوعة. وهي قصة ترصد الحياة اليومية لثلة من الشباب اليافع الذي صبغت الأنانية سلوكه.
والحق أن الدوافع التي يمكن وضع الإصبع عليها لمعرفة خلفية خيار الاعتزال لدى كاتب متمكن من أدواته الفنية مثل سالينغر، فإن معاناته الشديدة في الجيش الأمريكي خلال الانخراط في صفوفه من سنة 1942 إلى غاية 1945 وخوضه لمعارك في غاية الضراوة إبان هذه الفترة كان لذلك عميق الأثر على نفسيته إلى حد دخوله للمستشفى للعلاج من ضغط نفسي ناجم عن صدمات انفعالية عنيفة زلزلت وجدانه وكادت تخل بتوازنه العقلي.
كان سالينغر متطرفا في عزلته إلى درجة مقاضاته لكاتب بريطاني يدعى يان هاملتون، ألف سيرة حياة سالينغر. وتناول كاتب هندي، سوم رانشان، أيضا سيرته مؤكدا على تأثر الروائي الأمريكي بالمذهب الروحي "فيدانتا".
ومؤخرا قام الناقد الفرنسي فريدريك بيغبيدر بإخراج شريط وثائقي حول الروائي الأمريكي سالينغر حمل عنوان "خاطف سالينغر". وضمن هذا الشريط بدأ المخرج في بحث دؤوب لفهم وملاقاة سالينغر. وختم شريطه بالوقوف عند عتبة باب الروائي الأميركي الغريب الأطوار في نهاية مفتوحة على كل القراءات.
في عام 2000 نشرت ابنة الروائي كتابها الموسوم خاطف الحلم، حيث انتقدت بقسوة أبيها، وكشفت أنه كان غيورا بشكل مَرَضيّ على أمها التي تعتبر إحدى زيجاته المتعددة والفاشلة أيضا.
وللروائي ابن هو مات سالينغر (Matt) فضل عالم التمثيل، حيث لعب دورا بارزا في فيلم "القبطان أمريكا". وقد كان على صلة طيبة بوالده لسبب بسيط هو احترامه المطلق وغير المشروط لخياره الاعتزال معتبرا ذلك من صميم حرية المرء ولا أحد له الحق حسبه في أن يحاكم والده على هذا الاختيار، مهما طرح عنه من تساؤلات واستفهامات، ما زالت تتردد على ألسنة قرائه، الذين يكنون له بالغ الإعجاب والإجلال لأنه استطاع أن يسلط الضوء على جانب جوهري ومعتم من الطبيعة البشرية المعقدة.
ولا بأس في ختام هذه السطور أن نفتح قوسا بشأن حادثة طريفة لها دلالتها في هذا السياق. عندما سئل مارك تشابمن قاتل المغني الشهير جون لينون عام 1980 عن دواعي ارتكابه لجريمته أجاب بأن المحققين سيجدون الإجابة عن هذا السؤال في رواية سالينغر: الحارس في حقل الشوفان.
= = =
(*) Jerome David Salinger
غلاف الرواية ومؤلفها
- الروائي الأميركي جيروم سالنغر
◄ رشيد فيلالي
▼ موضوعاتي