هدى الدهان - العراق
فنجان قهوتي وأحمر شفاه
عين على الإعلام
حتى قبل أن اقرعه، فتحت الباب زميلتي التي تنتظرني بموعد مسبق. وفرحت ظنا مني أنها متلهفة لترى حضرتي، فإذا بها تأمرني أن أغلق الباب خلفي بسرعة. ولدهشتي أغلقته ونصفي الآخر يمتد إلى منتصف الصالة لأرى ما الذي تسعى إليه قبل أحضاني، فإذا به برنامجها المفضل كما أخبرتني. وحين بدت على وجهي علامات الاستغراب، بدت على وجهها علامات السكتة الذهولية. خففت عنها بقولي:
"في الحقيقة أنا سمعت عن برنامجك هذا و(مقدمته) بالخصوص سماع العابرات، فهذا النوع من البرامج لا يستهويني ولكنه لا يضر أيضا. ولكن لم أشأ أن اترك ورقة ترتمي على منضدتي أو ساعة فراغ بدون أن اقرأ كتابا أو أتابع فيلما حصل على جوائز تقديرية."
رمقتني بحسرة (ليس على شبابي بالتأكيد) ولكن على ما فاتني. وبدأت أشاهد ما تعيشه هي حية على الشاشة، إلى أن أتت رحمة الإعلانات (وما أكثرها!) لتفسح لنا مجالا لنتبادل السلام والسؤال عليها مني، والاعتذار منها لي لأنها ركنتني جانبا بسبب برنامجها المفضل.
أفاضت واستفاضت بالشرح والتصوير لبرنامج يعنى بالجمال الرباني للمرأة، ويجمل ما خلق الله من تكاوين، ويصحح ما أهملته اليد أو عاث فيه الزمن. وحتى تلتقط أنفاسها طلبت منها ضيافتي وأثيري فنجان القهوة السادة المحروق كقلوب العاشقين في روايات الزمن الجميل. و... نسيته.
بهرتني المقدمة بنطنطتها هنا وهناك. وحسبت عمرها الافتراضي، فقدرت أنها على الأقل أكبر مني بعشر سنوات، فكيف لها القدرة على أن تكون متذبذبة في المشي والسير والعدو وبهذا الكعب العالي؟
وجاءت البنت موضوع الحلقة. وبغض النظر عن تعليقات زميلتي على شعرها وملابسها، إلا أنها مثلي ومثل غيري من الأمهات الموظفات اللواتي قلما يجدن متسعا من الوقت لأنفسهن، وإن وجد فإنهن ينذرنه بطيب خاطر لتحضير غداء الغد. صحيح أن لا شيء يبرر إهمال المرأة، ولكن كما وعدت مقدمة البرنامج أن ترينا إياها في نهاية الحلقة أن تكون كالأميرة. وبالفعل انتظرت.
- إضافة مكياج
الموسيقى تعزف وكأنك في فلم إثارة، والكاميرا تصور لقطات مقربة من وجه (الضحية) وإمارات الألم ترتسم على وجهها والرفض القاطع لأمر سيحدث. وجاءت مقدمة البرنامج لتقنعها به وشخص آخر هو الجلاد بالطبع. والموضوع كله تركز في قطع شريان حياتها، وهو أربعة سنتيمرات من شعرها.
ضحكت في البداية، ثم خجلت لأني وجدت زميلتي مندمجة حقا في حلقة السجال والنقاش بين الاثنتين وصاحب المقص ثالثهما، إلى أن اقتنعت البنت على مضض واستسلمت لهذا المصير المؤلم. وهبط المقص الظالم على شعرها الأثيري. وما كان بالمصور إلا أن التقط عدة لقطات لشعرها المتناثر على الأرض مع موسيقى أشبه بالجنائزية ثم ... فاصل إعلاني.
بالتأكيد الكل بحاجة لفاصل إعلاني بعد هذا الشد العصبي. تذكرت أني في العراق، وأن هنا تقطع الرؤوس حقا ولا أحد يعلم الجاني. أردت أن أفضفض مع أحد يفهمني: هل حقا هذه هي المعاناة التي تعيشها المرأة؟ بضعة كيلوغرامات كيف تخفيها بإكسسوارات الموضة؟ وشعر كيف تغير في (نيو لوك) خاصته؟ وداعبت زميلتي بسؤال خبيث بعدما قلبت في صفحات المجلات أمامها لتريني عجائب سحر القصات والمكياج:
"لماذا دائما تستضيف مقدمات البرامج من هذا النوع بنات لا يتجاوزن الثلاثين كحد أقصى بخمس سنوات؟ لماذا لا يأتين بسيدة خمسينية ويجملنّها؟ من منهن لا تتحمل مغامرة مثل هذه؟ هل عمر الأربعين أو الخمسين هو سن اليأس الجمالي بالنسبة لبرامج الجمال والعناية بالبشرة؟ إن الفن أن يصلح العطار ما أتعبه الدهر."
ردت عليّ ضاحكة: "وحينها من سيتفرج؟ أنا؟ أم أمي؟ أم تيتا؟ وبمنطقك أنت: من سيعلن؟ ومن سيستفيد؟"
تناولت جوالي وأرسلت رسالة لصديقتي الفلسطينية، زينب عودة، في فلسطين، أسألها إن كانت لديها وقت لنتحدث معا فالهم واحد. زينب تجيب في اللحظة على أي رسالة. هذه المرة تأخرت قليلا قبل الرد. لم أفتح الرسالة لأن الفاصل انتهى وابتدأ البرنامج مرة أخرى. نصائح للأظافر والرموش والقد المياس.
هناك من تشاهد وتستمتع، وتجد البرنامج ممتعا فعلا، ففيه معلومات عن أبرز موضات الموسم والتي أصلا يروج لها أصحاب الدور والمحلات والمجلات والضرائب والمصارف. وبالنهاية من يشتري ثوبا ويلقيه بإهمال بعد شهور، وإن كان من الماركة الفلانية، هو فقط من سيخسر. والرابح الوحيد المعلن ومقدمة البرنامج وصاحب المنتج.
وهناك من تشاهد وتحس بالنقص ولا تعلم أن من تراها أمامها في أبهى حلة وطله يقف خلفها فريق كامل من المصممين ومحترفي المكياج، إضافة إلى محترفي التصوير والأفلام لإخفاء العيوب وإبراز نواحي الجمال.
وهناك من تشاهد وتنفق وتستدين لتبدو مثل تلك، أو تواكب موضة ذاك المصمم، الذي يسكن فيلا في إيطاليا، تدفع هي ومثيلاتها كل مصاريفه بما يشترينه من خطوطه على القماش.
الاهتمام بالنفس رائع. ولا أقول الأصل هو جمال الروح. في الحقيقة أنا لا اعترف بهذا المنطق فقط، فالمظهر مهم وبهاء الوجه مهم، ولكن كما هو وبتعديل بسيط واهتمام أكثر، لا بملئه وامتلائه بسليكون ووشمه ونفخه، ثم ... فاصل إعلاني.
برنامج عمره الزمني نصف ساعة أو اقل يمتد لأربعين دقيقة لترويج الإعلان. تجارة بلا خسارة. الخسارة الوحيدة هي خصلات الشعر التي تساقطت أرضا، والرؤوس السوداء التي أزالها مساج تنظيف البشرة البيضاء (نادرا ما تجد برنامج تجميلي عربي يستضيف فتاة سمراء)، وبضعة سنتيمترات قيل إنها تضيع بعملية مساج للبطن وتحتاج بالطبع لعدة جلسات.
تذكرت قبل أن أكتب مقالي هذا مقالا قرأته عن صاحبة مركز تجميلي، وكانت تهربت بذكاء شديد عندما سئلت عن سعر الجلسة الواحدة وما إذا كانت غالية أم لا، فردت: "وهل يهم المال؟ هل أنت غال على نفسك أم لا؟ لماذا لا تدلل نفسك وتبذخ عليها؟ من أحق بهذا المال؟ مهما كانت الجلسة غالية فأنت غال أكثر منها."
تهرب ذكي جدا يداعب حس الأنثى بالاهتمام بها وبأنها ثمينة وغالية، ولذا فلتنفق. انتهى الإعلان وأطلت المشتركة علينا. تغيرت، ملابسها أجمل بالتأكيد، لأنها أثمن من التي كانت ترتديها. يداها ووجهها تم الاعتناء بهما بأرقى المستحضرات. بقيت إمارات الخوف التي كانت على وجهها بالنسبة إلى ما إذا كان اللون الذي سيصبغ به شعرها سيكون ملائما لها أم لا. لكن انتهت المعضلة. وحلّت المشكلة ورضيت البنت بما آلت إليه.
برد فنجان قهوتي. سأشربه في كل الأحوال، فانا لا أترك رفيق الدرب حتى لو بردت جوانحه لفترة. وشريته وسلمت على زميلتي وخرجت. أحسستني خفيفة الجسد حين خرجت، ومثقلة الروح بكل آلام العراقية ونكباتها. بكل جروح الفلسطينية، ومعاناة المصرية والسودانية، ونساء من كل البلدان لا تسمع صرخاتهن حتى الوسادة.
وفجأة تذكرت رسالة صديقتي زينب عودة. فتحتها. زينب تعتذر عن إجابتي والتحدث معي لأنها تتمدد في المستشفى الآن لتتبرع بدمها لأطفال غزة. دمها من صنف نادر، وهي ملاك نادر وجوده. وسألني ماذا أردت منها؟ خجلت أن أخبرها أنّ هناك عالما آخر غير الذي نعيشه، تساقطت فيه قطرات من الدمع من أجل شعيرات ميتة، وقلق قاتل من اجل لون صبغة، وتوجس وانتظار لطلة صبية، بينما نحن نعيش هموما تتلخص في المعيشة والوقود والكهرباء والأمن فقط. همومنا تافهة. أليس كذلك؟
◄ هدى الدهان
▼ موضوعاتي