سمية الشوابكة - الأردن
المكان الروائي في أعمال محمد جبريل الروائية
رباعية بحري نموذجا
محمد جبريل: روائي وقاص مصري. له مجموعات قصصية وروايات عديدة. رباعية بحري تتألف من أربع روايات هي: أبو العباس، وياقوت العرش، والبوصيري، وعلي تمراز. انظر التفاصيل في الهوامش في ختام البحث.
بحري: أحد الأحياء في مدينة الإسكندرية الساحلية.
ليس المكان الروائي حيزا جغرافيا أو بعدا هندسيا مجردا تقع فيه الأحداث. وتتحرك فيه الشخصيات بأسرها: النامية والمسطحة على حد سواء فحسب أو عنصرا ثانويا زائدا في الرواية لا قيمة لوجوده، ولا وزن لحضوره، ولا دور لتأثيراته في العناصر الأخرى، بل هو ركن أساسي من أركان البناء، وعنصر حيوي فعال تزداد قيمة حضوره بتداخل عناصره معا في علاقات جدلية فاعلة، وجزء لا يتجزأ من البنيان الفني الذي يصور بجلاء مدى امتلاك الروائي الفنان لأدوات التشكيل الفني، وقدرته على الخلق والتواصل والتجريب.
ويساهم المكان بحضوره الفني المميز في العمل الروائي، وبما يحمله من أبعاد سياسية تاريخية واجتماعية نفسية في خلق المعنى والدلالة، ورسم الشخصية وتحديد أبعادها، وإبراز الرؤية المعبرة عن موقف صاحبها من الكون والحياة والإنسان، "والحال أن المكان لا يعيش منعزلا عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية، وعدم النظر إليه ضمن هذه العلاقات والصلات التي يقيمها يجعل من العسير فهم الدور النصي الذي ينهض به الفضاء الروائي داخل السرد" [1].
ويلعب المكان باشتراكه مع العناصر الروائية الأخرى دورا أساسيا في البناء والتشكيل الروائي الخلاق الذي يدعم البنيان الفني وينهض به، وسواء أكان هذا المكان واقعيا حقيقيا أم تخيليا مصنوعا فإن قيمته تزداد أهمية بمدى قدرة الروائي نفسه على خلقه وتصويره والتعبير عنه أو به، وصياغته صياغة جديدة تؤكد دوره الفعال ووجوده الحي، إذ تعطي قدرة الكاتب على خلق المكان الروائي وصياغته "عمقا للأحداث والشخصيات من خلال العلاقة الجدلية التي تربط بينه وبين عناصر النص الروائي، فكلما اقترب المكان من مركزية النص الروائي كان أكثر عمقا وكثافة" [2].
ويشكل المكان الفني في أعمال جبريل [3] الروائية عالما زاخرا ممتدا مؤثرا مفتوح الدلالات، متقاطع الدوائر، متشابك الخطوط له علاقاته وأبعاده اللامتناهية القابلة للقراءة والتشكيل على الدوام، يتداخل مع العناصر الروائية الأخرى، ويشارك في صنع الحدث وتطور الشخصية، وبلورة الرؤية، وإنتاج المعنى فيبدو بذلك "شأنه شأن أي عنصر من عناصر البناء الفني يتجدد عبر الممارسة الواعية للفنان، فهو ليس بناء خارجيا مرئيا ولا حيزا محدد المساحة ولا تركيبا من غرف وأسيجة ونوافذ، بل هو كيان من الفعل المغيّر، والمحتوي على تاريخ ما والمضمخة أبعاده بتواريخ الضوء والظلمة" [4].
ويتخذ جبريل من المكان بؤرة مركزية وقاعدة محورية في السياق الروائي العام تشدّ بقية العناصر إلى بنيتها، وتوظفها لتكون رمزاَ لما هو أبعد وأشمل وأرحب أفقا، فالمكان عنده لا يوصف لذاته أي "لا يوصف لمجرد تأكيد القدرة على ذلك، المكان جزء عضوي في الرواية، خيوط في نسيجها، يضيف إلى دلالاتها وإيحاءاتها وصورتها الكلية" [5].
ومما لا شك فيه أن لكل مكان روائي مفرداته وسماته، ومقوماته وأبعاده، وخصائصه وتفاصيله الفنية التي تميّزه، وتعيد خلقه في صور جديدة تختلف عن واقعية وجوده في صلب العمل الفني الذي تشكله مفردات اللغة، وترسمه وسائلها التعبيرية، وتجسده أدواتها التخييلية، وتساهم في إعادة بنائه طاقاتها الإيحائية.
ويتفنن جبريل في تقديم صور المكان في أعماله الروائية المختلفة، موظفا كل طاقاته في تجسيدها وإعطائها دلالات جديدة قد تكون معادلا موضوعيا لما يدور في واقعنا المعيش من قضايا وأحداث فتبرز بذلك مدى أهمية تشكيل المكان، وصياغة مفرداته، وتقديم صوره، وإخراج عناصره في فتح مغاليق النص، واستنطاق دلالاته بوصفه مفتاحا رئيسا لا غنى عنه للولوج في عالم جبريل نفسه بما يحمل من رؤى وأبعاد.
ولا تدل جماليات المكان عند جبريل على الثبوت "بل تدل على جغرافية متحركة متقنة الرسم من قبل المبدع الذي ينقلك من حارة إلى حارة عبر أزقة وشوارع لها بعدها التاريخي والزماني، ولها هالة حضارية تتفاعل فيها عواملها الثقافية المختلفة من تاريخية وفنية وشخصانية لها من المجد العلمي والإنساني والسياسي والتاريخي والفني ما لها من قيمة تحيل القارئ إلى مرجعيات ثقافية لها خلفيتها المتوارية التي لا يمكن فتح شفراتها إلا بالعودة إليها في منابعها" [6].
حي بحـري: الرمـز والقضيّـة
يغدو "حي بحري" في معظم أعمال جبريل الروائية والقصصية على حد سواء المكان البطل، المتحرك الفاعل الذي يرتبط بالزمان فيحتوي الحدث، ويحرك الشخصية، وينهض بالمعنى، ويشكل الرؤية، وينتج اللغة، متحولا بديناميكية حركية دائبة من مجرد إطار تزيني للأحداث أو وعاء عام لها إلى عنصر مشارك فعال متعدد الملامح والظلال التي تهب العمل الفني خصوصيته.
و"حي بحري" بكل ما فيه في معظم أعمال جبريل الروائية شخصية محورية خاصة متميزة الأبعاد، متغايرة الملامح، متجاوزة الدلالات، سخية التعاملات، ثرية الصداقات، ديناميكية الحركات، درامية اللوحات، متباينة الأحداث، متنوعة الظروف، عريضة الخطوط، فنانة التعبير، كثيرة التفاصيل، متلاحمة العلاقات، حميمية الصلات، متغيرة التوجهات، موزعة الخبرات تشغل فكر جبريل فتصبح شغله الشاغل، وعشقه الدائب الذي لا ينفك عنه أبدا.
فـ "لبحري" الإسكندرية مذاق خاص، ونكهة خاصة، وذكريات محفورة في أخاديد الذات، وحكايات متغلغلة في الأعماق منذ الطفولة وإلى الآن، جعلت منه السيد البطل في معظم ما كتب، والوجد المكاني اللازم في قلب جبريل الذي يسكن القاهرة بجسده، ويحيا بكل حواسه ومشاعره في أرجاء بحري والسيالة والأنفوشي والعطارين والمينا الشرقية، ومقامات الأولياء الصالحين فيرسم صورها ببراعة وإتقان، ويشكل لوحات عشقه لها بفنية واقتدار زاخر القسمات والملامح والظلال والرؤى والألوان معبرا عن تلك الخصوصية المميزة بقوله: "بحري هو الاختيار الطبيعي، أعرف ناسه ومساجده وبيوته وميادينه وشوارعه وأزقته، أستدعي الذاكرة فترتسم بانوراما المكان بكل أبعادها ... أنا لا أستطيع أن أتصور شخصياتي إلا نادرا –في غير تلك المنطقة التي تبدأ بسرى رأس التين وتنتهي بنهاية شارع الميدان، عالم يفرض نفسه في كل ما اكتب" [7].
ويتجاوز المكان في أعمال جبريل الروائية أبعاده الجغرافية والهندسية المرسومة إلى أبعاد جديدة مؤثرة في بنية العمل الفني التي تصوغها قدرة الفنان، وتشكّلها الرؤية وتخرجها الموهبة الفذة في ذلك، فللمكان في معظم ما كتب جبريل شخصيته الخاصة، وإيقاعه المتميز، ورموزه الدالة، ومفرداته اللائقة وعاداته وتقاليده وطقوس حياته، وعلاقاته المتشابكة التي تثري النص وتعمقه، وتنطلق به ليكون صورة بانورامية كبرى لما هو أوسع وأعمق، لأنه عند جبريل "ليس هو الأرض والسقف والجدران، ولا الأثاث ولا السكان المحددين، المكان هو العالم أو القضية" [8].
والمكان في أعمال جبريل زاخر الأشياء، ممتلئ القسمات، متنوع الفضاءات، موزع الدلالات، متغير متحرك لا ساكن ثابت، واقعي حقيقي حينا، وفني خيالي حينا آخر، تارة نجده ممتدا مفتوحا، وتارة نجده محددا مغلقا وهو في الحالين معا مؤثر فيما حوله، ومتأثر بما حوله، ومعبر عن وجوده الحي الفاعل في بقية العناصر المختلفة –معنى ومبنى- التي يتشكل العمل الفني بين أقطابها مجتمعة.
ففي روايته الأولى الأسوار يصبح المكان رمزا كبيرا لقضية كبيرة ممتدة هي قضية البحث الدائب عن الحرية والخلاص في عالم سلطوي يصادر الوجود الإنساني ويعطل القوى العاملة، ويثبّط الفعل الجاد، ويورث الحسرة والألم والغربة والانكسار الذي لا يفضي إلا إلى الخيبة وانعدام الحس والشعور.
فـ الأسوار زنزانتها وعنابرها، وأقفالها وأبوابها وبواباتها الحديدية، وقضبانها وجدرانها، ونمرها النحاسية، وطرقاتها الحادة، وتساؤلاتها الكثيرة، وتحقيقاتها الطويلة، ولياليها الصعبة صورة مكانية حية لعالم غامض الملامح، مغلق الأبواب، محاصر الوجود، يُحرم فيه المرء من ممارسة أبسط حقوقه في الشعور بحرية وجوده وهو يتعرض للسب والشتم والتعذيب والضغط والتحقيق، فيُختزل وجوده إلى مجرد رقم عددي لا يدل على هوية وجوده.
فهذا العالم المكاني سجن سياسي كبير يمثل الإشكالية القائمة بين المواطن والسلطة التي لا تقبل الرأي الآخر، ولا تؤمن بحرية الفكر والتعبير، ويعدّ مناقشة قضايا الوطن الأم أو مشاركة الشعب أولي الأمر في صنع القرارات وتنفيذها محاولة للثورة والتمرد وقلب نظام الحكم يستحق أصحابها –بها- الزج في أقبية التعذيب أو النفي بعد التعذيب المتواصل إلى ما وراء حدود الوجود.
ويقدّم جبريل بفنية واقتدار لغوي مميز صورة هذا المكان البطل الذي يُسهم في تطور الحدث، وتنامي الفعل، وتصعيد الرؤية التواقة إلى مفارقة عالم الأسوار المُطارد إلى عالم الحرية الأرحب والأشمل واصفاَ:
الأسوار: بقعة في جزيرة رملية يحدها الأفق من كل الجوانب، لا خطوط تليفون، ولا قضبان قطارات، ولا طرق رملية أو مرصوفة... الأسوار -من بعيد- مدينة أسطورية. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجي، أبراج الحراسة في الأركان الأربعة، مجهزة بالأنوار الكاشفة والمدافع الرشاشة، الممنوعات –ما عدا التقاط الأنفاس- تشمل كل شيء" [9].
وتؤكد الرواية طبيعة هذا السجن السياسي الخاصة التي قد تختلف عن طبيعة السجن العادي في صور التعذيب التي يتعرض لها السجين السياسي، وأشكال الضغط النفسي، وألوان التشييء التي لا تعترف بوجود الشخصية ودورها ومراحل القهر الممتد منذ الدخول، وأنماط المفارقة الساخرة بين المعقول واللامعقول، والممكن والمستحيل فالأسوار في الرواية هي السجن الدائم لأولئك الذين ثاروا على الظلم، ورفضوا الذل والخنوع، وتمردوا على القواعد والقوانين، وحاولوا رفع صوتهم ضد الطغاة والمتسلطين، والبيت الكئيب الذي لم يدخلوه طوعا، ولن يفارقوه مختارين، وربما لا سبيل من الانعتاق من أسره أبدا مهما كان حجم المتغيرات فيما بعد.
فها هو المأمور يوزع السجناء على العنابر ويقول بلهجة آمرة وفي عينيه نظرات غضب يطوف بها على وجوههم:
أنتم الآن هنا، لا تزيدون على أرقام، العالم الخارجي فترة من حياتكم لن تعود، خير أن تسقطوها من الحساب تماما، ربما انتقل يوما إلى وظيفة أخرى، ربما يذهب الحراس ويفد حراس آخرون. لكن المعتقل سيظل هو بيتكم الذي لا سبيل إلى مغادرته. إذا ما حاول أحدكم أن يرفع صوته أو يرفض الأوامر الصادرة إليه، سيلقى النهاية تحت إحدى العربات: لأننا مطالبون بتوفير الذخيرة [10].
وتتكرر بوضوح في رواية المينا الشرقية صورة هذا المكان المغلق الغامض الذي يحجب معرفة العالم الرحب، فيسد الدروب، ويعيق الاتصال، ويمنع التواصل مع ما يليه، ويقطع الشعور بالوجود، فيستحيل المرئي إلى اللامرئي، ويتلاشى الإحساس بطعم الحياة، ويتنامى الشعور بالاغتراب النفسي والضياع بين الجدران العارية المغلقة، فنطالع من جديد الأبواب الحديدية تفتح تارة، وتغلق تارة أخرى، يصحبها الصخب حينا، ويعتريها السكون حينا آخر, فتختلط المرئيات عندئذ وتتشابك ثم يحل الظلام في الحجرة المغلقة، والزنزانة المقيتة، والراوي يصف تجربة "محمد الأبيض" في السجن السياسي، وقد اُتّهم بالتآمر والتخريب دون دليل قائلا:
كانت لحظات الراحة الوحيدة هي لحظات الذهاب إلى دورة المياه، لكنها لا تطول ولا تتكرر، مرة واحدة في النهار، وكان ينتظر شيئا خارج الزنزانة المغلقة، يفتح الباب الحديدي، ويدخل مَنْ لا يعرفه، لعله آخر مَنْ سيراه ثم ينتهي كل شيء، لا قراءة ولا فسحة ولا زيارة ولا أي شيء، مجرد أن يظل في الغرفة المصمتة المظلمة، يستعيد ما جرى، ويحاول التوقع، ينفذ الأوامر دون وعي وبلا تدبير، لا يشعر أنه نفذ الفعل إلا بعد أن يتمه بالفعل ... أهم ما كان يثيره أنه لم يعد يعرف ما في الخارج، في البيت أو الشركة، لا أحداث ولا تاريخ ولا ذكريات ولا توقعات [11].
وينقلنا جبريل في أعماله الروائية الأخرى بقدراته الفنية وطاقاته التعبيرية، وإيحاءاته الرمزية من العوالم الضيقة المغلقة إلى الرحبة المفتوحة الممتدة التي يصبح فيها المكان- بكل ما فيه- قاعدة محورية في السياق الروائي، فتلح عليه في معظم ما كتب صور الحياة في "حي بحري" الذي يشهد ميلاده وطفولته وشبابه، فنسير معه في شارع إسماعيل صبري حيث ذكريات الطفولة والشباب، ونجلس معه في البيت الذي قضى فيه أجمل اللحظات، ونتعرف في تطوافه بنا في الشوارع والدروب والحارات إلى صورة الحي الشعبي الخاص، فنقف عند شاطئ الأنفوشي، نشم رائحة البحر، ونتذوق طعم الحياة الإسكندرانية ونحن في "قهاوي" السيالة ورأس التين، ونصلي في جوامع الأئمة، ونتبرك بمقامات الأولياء الصالحين، ونشاهد الموالد والجلوات، ونشارك في الأذكار، ونطالع طقوس الطرق الصوفية، ونتطوح في حلقاتهم، ونتمنى العودة إلى شقاوة الطفولة ونحن نرى بعض الأطفال يلعبون في حدائق الشلالات: أولها اسكندراني، والاستغماية وعنكب يا عنكب، والبلى والنحل والطائرات الورقية، ونتفرج من بعيد على فتوات الحي في إحدى معاركهم، ونرقص في الزفة الإسكندرانية المارة في حي العطارين ونعود ونحن على يقين بخصوصية هذا المكان، وخصوصية الحياة فيه وهو يصل بين عالمي: البر والبحر.
- غلاف: رباعية بحري
ويبدو "بحري" المكان الرئيسي الذي تتحرك فيه الشخصية، ويتنامى الحدث، وتنعكس في مرآته الرؤية الفكرية الخاصة بالكاتب في معظم أعمال جبريل الروائية: ففي قاضي البهار ينزل البحر لا يبتدع جبريل المكان ابتداعا، ولا يخلقه خلقا تخيليا جديدا بل يحتفي به احتفاء واقعيا مميزا فلا يذكر الكثير من أسماء الشوارع والدكاكين والمقاهي والبيوت الشعبية الإسكندرية ذكرا عابرا، ولا يمر به مرورا سطحيا بل يغمس قلمه في مداد وجودها واصفا ملامحها وأبعادها ومحتوياتها وكأنه مصور فوتوغرافي معني بأدق التفاصيل، وجغرافي طبيعي مهتم بمختلف التضاريس وهو لا يفعل هذا بمعزل عن مكونات النص الروائي الأساسية الأخرى وإنما يؤكد وصفها العناصر السردية الثانية وتأثيرها في الشكل والمضمون.
ويرى قارئ تقارير الرائد صفوت في الموجة الأولى [12] من الرواية مدى احتفاء جبريل بالمكان، ودقة وصفه لصوره وأبعاده، وإسهابه الفني في رسم لوحاته، وتشكيل خطوطها، إذ نجده يتحدث في البدء عن مكونات الشقة رقم 2 في البيت رقم 1 بشارع أبي العباس المرسي، وأثاثها القديم، وشقق البيت المقابلة والمجاورة، ومشربياتها ونوافذها الصغيرة المتصلة المطلة على شارع الموازيني، ودكاكينه الشعبية، ثم ينتقل إلى الحديث عن مدرسة البوصيري الابتدائية التي درس فيها البطل "محمد العطار" المطلة على شوارع ثلاثة وفصولها، وكلية التجارة ومكتبتها، وإدارة التخليص بمصلحة الجمارك، وينتهي بالحديث عن "قهوة البوري" وروادها.
أما في الصهبة فالمكان وسيلة للبحث عن معنى جديد للعالم، معنى يجلو غموض الواقع، ويكشف أسراره، ويرسم سبيل الانعتاق من قيوده، فالبطل المأزوم، منصور، هو ابن الأنفوشي الإسكندري الذي اعتاد السير في شوارع السيالة ورأس التين، والوقوف عند شاطئ البحر، والمشاركة في الموالد والجلوات، والصلاة في جوامع الأئمة إلا أن الصهبة طقس شعبي جديد عليه لم يألفه من قبل على الرغم من اعتياده التردد على مواكب الصوفية، وموالد أولياء الحي، فيلقي نفسه فيه، ليصبح مكان الصهبة بذلك بعدا محوريا من أبعاد النص الروائي، وعنصرا رئيسيا في تنامي الحدث، وتصعيد خط سيره، وانفتاح دلالاته التعبيرية، ورمزا كبيرا قابلا للتأويل والقراءة بتجدد النظرة في هموم الواقع الحي وقضاياه إذ
بدا المكان –في الصهبة- بأنواره وزيناته وأعلامه وبيارقه والزحام الهائل غريبا عما ألفه في موالد أولياء الحي، تلاغطت وتداخلت الأدعية والابتهالات والأذكار، تطوحت الأجساد في حلقات متقاربة ومتباعدة، تزاحم الكثيرون على الأرصفة وفي مداخل البيوت والشرفات والنوافذ والشوارع الجانبية [13].
ويعمّق المكان في رواية النظر إلى أسفل شعور البطل المأزوم، شاكر المغربي، –المولود في حي العطارين بالإسكندرية –بالوحدة والغربة والانسحاق النفسي ولا سيما بعد غياب والديه، فتشقيه الوحدة، ويمضه الفراغ، ويتعبه الانتظار، ففي رمضان مثلا يصور لنا شعوره القاسي بجمود المكان وسلبيته وأثره في نفسه:
أعدّ الطعام، وأضعه على المائدة، وأنتظر صوت المدفع حتى لو لم أكن صائما يعمق من الوحشة حولي وفي داخلي: الصمت السادر، صوت الطعام في فمي، حركة الملعقة، أطل من نافذة شارع عبد المنعم، أتعجّل عودة الحياة إلى الدكاكين المغلقة والشوارع الخالية من المارة [14].
ويجسّم المكان المغلق "عزلة شاكر بمعناها النفسي لا الاجتماعي، فهو حاضر وسط الناس لكنه سيكولوجيا لا ينفتح عليهم، يحتفظ بسره لنفسه أو في نفسه" [15]. ويجد نفسه غريبا بينهم عندما لا تشغله الوجوه ولا ملامحها، بل يملك عليه السر الذي يستحيل البوح به نفسه فيلتقط ويلمح، ويتأمل الصنادل والشباشب والأقدام العارية ثم يغادر المكان حاملا تفاصيل ما رآه إلى عالمه السري.
ويشكل المكان في روايتي الشاطئ الآخر [16] و زمان الوصل [17] بعدا مؤثرا وهاما في البناء الفني، ورمزا فنيا دلاليا، مفتوح الرؤى، متداخل الدوائر يجسد بوضوح إشكالية "الأنا" و"الآخر" فبحري الإسكندري في الشاطئ الآخر يمتد ليلتقي بالشاطئ الأوروبي في علاقة جدلية مثيرة تؤكد أثر الأول في الثاني، وتأثير الثاني في الأول كذلك، أما في زمان الوصل فيظل لـ "بحري" مذاقه المتميز، ورائحته الخاصة وفضاءاته المتنوعة رغم البعد والاغتراب في بلاد اليونان، ويظل "بحري" الوطن الأم الذي لا بد من العودة إليه والارتماء في أحضانه وقد لف البطل الشوق، ومضه الحنين إلى معانقة صور المكان واحتضان ذكرياته، واستعادة وجوده فيه، والسير في شوارعه وحواريه، والتردد على مقاماته ودكاكينه، والوقوف عند شاطئه ومحاولة التعرف على وجوه الأشياء الجديدة.
وإذا كان المكان في "المينا الشرقية" هو الطريق والكورنيش والبحر والسماء والمقاهي والكازينوهات والخليج والموازيني وشارع الميدان الذي يشعر فيه البطل بالقلق والخوف والمراقبة والمطاردة وتلاشي الأمان، وغياب الطمأنينة بوجود العين التي ترصد، وتلاحق وتراقب، وتتتبع وتسجل وتنقل فإنه في نجم وحيد في الأفق [18] الرمز الفني المعبر عن اعتلال الروح وأزمتها الباحثة عن مخرج وخلاص في رحلة دائبة تجاه الأمان "الأصل" الذي شهد البداية، ولا بد من العودة إليه في النهاية.
ويجعل جبريل من حي بحري في رباعيته [19]: السيد البطل بشوارعه وحاراته ودروبه وزقاقه، وبيوتاته ودكاكينه، ومقاهيه، ومساجده ومقاماته، ومجالسه وحلقاته، وموروثه الديني والشعبي وتاريخه السياسي، ومفرداته الأدبية، وعلاقاته الفنية، وشخصياته الروائية، وعاداته وتقاليده وطقوسه، وعوالم بحره الأسطورية والواقعية ومواويل صياديه، وأغنيات أهله، وبانوراما حياته البرمائية، فلا يعبر في أجزاء الرباعية كلها – التي سماها إشارة إلى أهمية المكان الذي نشأ فيه وترعرع في أحضان بيئته الشعبية "حي بحري" ثم سمى كل جزء فيها باسم ولي من أولياء الله الصالحين في تأكيد واضح لأثر هؤلاء الأولياء في اعتقاد الناس – عن أبعاد المكان الجغرافية التي تبدأ بما يلي ميدان المنشية، وتمر بشوارع وحواري الموازيني والسيالة، وتنتهي بسراي راس التين، بل يعبر عن حيوية المكان بأبعاده السياسية والاجتماعية ودلالاته النفسية والفكرية وعلاقاته الجدلية المتبادلة مع عناصره الفنية الزمانية واللغوية.
والحياة في "بحري" تمور بالحركة، وتعجّ بالتراث الشعبي المنوع، وتزخر بالتفاصيل، وتحفل بالروحانيات الصوفية، وتبدو بقلم جبريل لوحات فنية تشكيلية ممتدة في الفن والواقع، مرتبطة الوشائج، متصلة العناصر، وثيقة الصلات، متمازجة الخطوط، متكثرة المعالم، ففيها نتجول في شوارع بحري، ونتسامر في مقاهيها، ونرتاد دكاكينها، وتقودنا خطانا إلى عالم البحر فنتابع ما يكون في حلقة السمك، ونشهد صراع المرء مع السيد البحر، ونلمس أثر ولاء الناس لأولياء الله الصالحين، وتمرغهم في مقاماتهم، وجلوسهم في ساحاتهم، وشكاياتهم لهم، وتبركاتهم بهم، ونتذوق طعم الحكايات الشعبية، وندرك إيمان الناس بالطب الشعبي والرُقى والتعاويذ والأحجبة على الصدور، والوصفات "البلدي"، والزار والعفاريت ونستمع بكل حب إلى الأغنيات الشعبية والأساطير الغريبة، والمواويل الإسكندرانية، ونغمض أعيننا في بيوتاته لنحلم بما قد يحلم به أهله من أحلام تعمق الإحساس بالجو الشعبي الزاخر أثناء القراءة والمتابعة في الأجزاء الأربعة مجتمعة.
وتزخر البيئة الشعبية بالأفكار والمعتقدات الشعبية التي يقدمها جبريل في لوحات رباعيته بلغة وصفية دقيقة تدل على خبرة ومعرفة شاملة ودقيقة تعبر عن محتوى آخر دلالي يميز المكان الشعبي ويجعله متفردا عن غيره في إيمانه بالغيبيات اللامنظورة، والمعتقدات الشعبية الغريبة في الطب الشعبي والعلاج الروحاني، فها هي "أنسية" المعذبة بتكرار الحمل والإجهاض، وتبدد حلم الإنجاب تلجأ إلى الروحانيات الشعبية في فصل "في انتظار ما لا يجيء" وقد
داخت من اللف على الحكيمات والمستشفيات والمشايخ والمقامات والأضرحة، كنست مقامات أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وخضر ونصر الدين، وزعت ما أخذته بنثره على جسمها وفي طست الحمام، لجأت إلى ضاربي الرمل وقارعي الودع، ومفسري الأحلام والأحجبة والقواقع والأصداف. واستعملت الدهانات والسفوف، اختلطت في أنفها روائح القرفة والزنجبيل والخلنجات وتين الغليل وعرق الجناح وحبة البركة وعود القرع والفانيليا [20].
وهي من فرط رغبتها في الولد تحلم حلما يجد فيه زوجها أن الفرج قريب، فقد زارها في المنام رجل لا تعرفه وإن لم يبدُ غريبا عنها "يرتدي عباءة بيضاء ويضع على رأسه عمامة بيضاء، ويدس قدميه في خف أبيض" [21] يبشرها بالخير قائلا: "ربنا يعمل ما فيه الخير".
وها هي أم مهجة تبحث عن خلاص ابنتها من صمتها الحزين، ومعاناتها الكئيبة مع حبيبها هشام الذي سرت الإشاعة بين الناس بأنه أخوها في الرضاعة، فتزور الكودية مؤمنة بالأسياد والعفاريت والأرواح الشريرة والزار والحسد، متأثرة بأجواء الأحياء الشعبية ومعتقداتها في ذلك.
أصرت، فبدل عباس الخوالقة بلاط البسطة أمام باب الشقة، ربما السبب عمل يرقد تحت بلاطات البسطة، نصحت الكودية نظلة بزار، ما تعانيه مهجة ليس مرضا تعالجه الأدوية أو الأعشاب هذه أفعال الأسياد، فلن يبتعدوا إلا بزار.
بدأت بإحراق ما التقطته يدا محمود من النفايات المتكومة أمام البيتين الملاصقين والبيوت المواجهة، اشترى من سوق الدقاقين قطع الشبة وقصاصات الورق والملح والفكوك والبخور.
أغمضت عينيها تتذكر بقية الخطوات، رفعت كتفي مهجة من صدرها، دلكت جبهتها بالشبة والفاسوخ سبع مرات، قصت الأوراق على هيئة عروسة وخزتها بإبرة في العينين والرأس والجسد طردا لأعين الحساد [22].
ويتفنن جبريل في معظم لوحات الرباعية في أساليب تقديم المكان والتعبير عنه موظفا طاقاته الفنية وقدراته التعبيرية، ومهاراته التشكيلية في خلق صوره، وتشكيل واقعه وتحريك مشاهده ووصف لوحاته، وسرد حكاياته، وتصوير عاداته وتقاليده، وتجسيد رؤيته بما يتناسب وطبيعة المكان الحي وأبعاده المحسوسة فيبدو شديد الدقة في رسم حدود المكان، وتحديد أبعاده الظاهرة وكأنه يلتقط صورا حقيقية فعليّة للمكان نفسه بعدسة الفنانة اللاقطة، ففي فصل "الاستغراق" يفرض المكان نفسه على اللوحة فيغدو بطلها الرئيس، ومحورها المركزي في وصف جبريل الدقيق الذي يمسك بالصورة الكلية للمكان بكل تفاصيله ودقائقه.
تفتح النافذة. تطالعك الميناء الشرقية باتساعها في مدى الأفق يقابلها سوق الكورنيش، يميل من أول الشاطئ إلى شواطئ أخرى حتى المنتزه، ومن انحناءة الترام عند حلقة السمك إلى الأنفوشي وراس التين، حدوة الحصان الهائلة، طرفاها من اليمين مبنى السلسلة ومن الشمال قلعة قايتباي يصل بينهما لسان حجري غير مكتمل، يصد الأمواج، وتأذن فتحته بدخول السفن وخروجها، لا سفن ضخمة للركاب، ولا سفن حربية، بلانسات ولواتس وفلايك ودناجل، تدخل الميناء الشرقية ثم تخرج إلى عرض البحر أو ترسو في الركن القريب من متحف الأحياء المائية والقلعة، تستقر نظراتك على المنتصف تماما يصعب تحديد المساحة، فهي مياه يتصورها الخيال ميادين وشوارع وبيوتا وحدائق مثل الإسكندرية تماما وإن اختلف ناسها عن ناس الإسكندرية [23].
وتستوقفنا في معظم أعمال جبريل الروائية في حي بحري الشعبي صورتي المقهى الشعبي والبحر الممتد ومحتواهما الدلالي، وأبعادهما النصية الجمالية، ومعانيهما العديدة، وأثرهما في حياة الآخرين، ومدى انفتاحهما للآخر في علاقتهما الزمانية والمكانية، وتنامي وجودهما في بناء عضوي واحد متصل لا منفصل.
المقـهى الشـعبـيّ
يعدّ المقهى الشعبي في "بحري" مكانا جماليا مطروقا، له تاريخه العام والخاص وبناؤه المميز، وجمالياته وملامحه واتجاهاته وعلاقاته وخصوصياته الفنية التي تشعرك بالألفة والانسجام، يقودك إليه جبريل لتلتقي بمن تريد، تجلس إلى بعضهم، وتشرب الشاي أو القهوة معهم، تحدثهم ويحدثونك، تشكو لهم ويسمعونك، تناقشهم ويحاورونك، تتفقون حينا، وتختلفون حينا آخر ويطول السهر، وتخرج منه لتعود إليه في الوقت نفسه الذي تعلم بوجودهم فيه لتبدأ المناقشات والسؤالات والمشاورات من جديد وكأنها سنة متبعة.
ويصبح المقهى بذلك بؤرة ضرورية تدعم الحكي وتنهض به، وتلف الحدث أو تومئ له، وتمهد للفعل، وتحرك الراكد وتستفز الساكن وتنطلق به إلى الآخر، وتفصح عن الرؤية والموقف ووجهة النظر، وتحيل إلى الحس والشعور، وتشير إلى التحول والتغيير، وتساير الواقع الإنساني في ديناميكيته الدائبة المتغيرة على الدوام.
ويحتفي جبريل بالمقهى الشعبي احتفاء كبيرا، يصوره ويحدده، ويعرّف به، وبوجوه تغيره عبر الزمن، وتباين أدواره، ومدى تأثيره في الناس وتأثرهم بوجوده وهو الجامع لفئات مختلفة وشرائح اجتماعية متباينة الرؤية، مختلفة الطباع، متنوعة المشارب.
ففي رواية قاضي البهار ينزل البحر يسهب جبريل في تصوير "القهوة" المكان الذي يتردد عليه البطل المطارد، محمد العطار، فيجيء في تقرير الرائد صفوت:
للقهوة باب واحد كبير، ست ضلف ضمت إلى بعضها من زمن يشي بذلك التراب وخيوط العنكبوت التي وصلت إليها بينها، وكراسيها تبلغ الثلاثين وربما أقل. صفت حول ثماني ترابيزات من الرخام المستند إلى أعمدة حديدية رفيعة.
في مواجهة المدخل "نصبة" صف عليها الموقد وغلاية الماء وأباريق الشاي والكنكات والأكواب وعلى الحائط برطمانات مغلقة وماشات وجوز وشيش، وفي الجانب ثلاجة من الخشب المبطن بالألومنيوم للمياه الغازية وألواح الثلج [24].
ومعظم رواد القهوة في الرواية من عمال الموانئ والجمارك والشيالين وصغار الموظفين المعروفين بدوام ترددهم على المكان لشرب الشاي والقهوة وتدخين الجوزة، ولعب الدومينو والكوتشينة والنرد، والمشاركة في الأحاديث التي يتبادلها الجميع ولذا فإن أي غريب عنهم يرتاد المكان يكون معروفا لديهم.
وارتياد البطل المقهى وجلوسه فيه، وتردده عليه، ومشاركة مَنْ فيه الحديث: يثير شكوك رجالات السلطة الذين يلاحقون "البطل" بتهمة لا أساس لها ولا دليل عليها فتتوالى التقارير عن تردده على قهوة "فاروق" التي تقع كما ورد في تقرير الملازم أول عبده الدسوقي
في ناصية شارعي إسماعيل صبري ومحمد كريم يفصلها شارع صغير عن قهوة المطري على ناحية شارع الكورنيش يقابلها دكان حلواني متعدد الأبواب. روادها أخلاط من المهن والأعمار يجمعهم السكنى في شارع إسماعيل صبري والشوارع القريبة، وربما قدموا من المنشية أو اللبان أو العطارين لمجالسة أصدقاء في القهوة [25].
وتشي تحريات رجال الأمن وبيانات تقاريرهم حول تردد البطل على القهوة، وتبادله مع رواد القهوة الأحاديث وقراءة الصحف بأهمية المكان وأثره في الكشف عن ملامح الشخصية وصفاتها واتجاهاتها وأساليب حياتها المحصورة في دوائر مكانية مخصوصة لا يغادرها تتمثل في البيت ودائرة العمل والزاوية والقهوة فيصبح البطل محاسبا على قراءاته وكلماته وحواراته ومناقشاته ومداخلاته في القهوة وبين أصدقائه وزملائه.
ويثير تردد البطل "محمد العطار قاضي البهار" على قهوة "البوري" دون غيرها من قهاوي الموازيني ورأس التين سؤالات كبيرة في أذهان المحققين تؤكد لهم شك الإدارة الأمنية العليا في تصرفات وسلوكات، ومواقف البطل المناوئة للنظام السياسي القائم، وتكلّفهم محاولات الإجابة عنها وفهم دلالاتها وكشف المستور منها وتجلية الغامض فيها اقتحام القهوة، وإفراغ محتوياتها، والقبض على روادها، وإلحاق الأذى بهم واحدا واحدا، ومحاصرتهم بالأسئلة حول البطل، وتهديدهم بتوالي سلسلة الضرب والشتم والركل والتعذيب إن لم يعترفوا على البطل بما ليس فيه من التهم الملفقة عليه - عندما لم يعجبهم تأكيد الجميع طبيعة البطل الهادئة، وميله إلى الصمت واكتفائه بشرب الشاي وامتناعه عن اللعب والتدخين، ومشاركته العادية فيما يدور من مناقشات.
وبهذا لا يعد المقهى مكانا ثانويا لا قيمة لوجوده، ولا أثر لنشاطه، ولا وزن لدوره، ولا أهمية لعلاقاته، بل يصبح مكونا رئيسا من مكونات الرؤية الكلية يتأثر بها ويؤثر فيها، ويأخذ أبعادا عميقة في التشكيل والبناء والتجسيد والإيحاء.
ويشعر البطل، منصور سطوحي، في رواية الصهبة بأهمية المقهى ودفء الوجود فيه فيتردد عليه ويجلس إلى رواده مثلما كان يفعل والده من قبل يناقش ويحادث ويقطع وأصحابه ساعات الليل الطويل بالمناقشات التي لا تنتهي، فيبدو المكان متحركا لا جامدا، وناطقا لا ساكنا، وحميميا أليفا لا غريبا مزعجا، ومفتوحا لا مغلقا بما لا يتناهى من الأحاديث.
فها هو منصور يمضي إلى المقهى، فيتعرف إلى أصحاب أبيه، وجلساتهم المعتادة ومناقشاتهم الممتدة وأحاديثهم التي لا تنتهي وقد "استقبله دفء المكان ودخان السجائر، والبواري وأصوات النرد والنداءات ولغط الكلام" [26]. ويلتقي ببدر المنشاوي، وجابر محجوب وغيرهما، ويتحدثون فتشده أحاديثهم حول طقس الصهبة الشعبي: المرأة التي يشق عليها الإنجاب، والمزاد، ورفع النقاب والحفل والأدعية والدفوف، فيتنامى في داخله فضول المشاهدة فيمضي إلى مكان الصهبة وفي خاطره أحاديث المقهى حول طقوسها إلى أن يذوب فيها ممسكا باللحظة الحاضرة وقد التصق بالمرأة وسار بها، منشغلا بها عن سواها، ناسيا كل الاحاديث، متناسيا تفاصيل الحكاية التي سمعها في أحاديث رواد المقهى من قبل ليصبح مطاردا من الوهم، محاصرا من الشعور بالمراقبة في اليقظة والمنام، وليعود إلى المكان نفسه فيشعر بغربته عنه وتغيره عليه رغم ألفته له من قبل تأثرا بما عاشه في "الصهبة" بين الواقع والخيال، فقد
بدا له المقهى منذ قدم للمرة الأولى إليه عالما مغايرا. أعاد النظر حوله: أفندية وعمال وصيادون وسائقو تاكسي وكارو وباعة يانصيب ومحاسيب لأولياء الله من ساكني الحي وحاملو مجامير وسماسرة وشيالون، ووجوه تنطق بالطيبة وأخرى تشي بالتخابث وبدل قديمة وجلابيب وسيلات. أدرك أن المقهى ليس مقصورا على من ألِفَ رؤيتهم ومجالستهم، إنما هو مفتوح لكل مَنْ يتردد عليه حتى تجار المخدرات والقوادين والبلطجية [27].
وإذا كانت أحاديث المقهى الشعبية في الصهبة هي بداية الفعل المحركة للشخصية الدافعة له إلى خوض غمار الممكن المستحيل في آن معا، الرامزة إلى دلالات رؤيوية كبرى رغم شعبيتها فإنها في رواية النظر إلى أسفل متعددة متشابكة متلاحمة تتضافر مع بعديها الزماني والمكاني لتنسج خيوط الرواية الفنية ورغم انفتاحها تعمق إحساس البطل المأزوم، شاكر المغربي، بالعزلة والوحدة والفراغ، وتؤكد لأصدقائه الذين يجلسون بجواره شروده وانشغاله عنها بما لا يعلمون به وهو السر المؤلم الذي يحمله في داخله، ويسير به وحيدا منعزلا خشية أن يصبح مكشوفا مفضوحا.
فيزيد المقهى بمن فيه من شعور البطل بعزلته ومعاناته الاجتماعية واستسلامه لعقدته الجنسية النفسية، فهو عندهم بجسده ولكن روحه متعلقة في جزيرة سره السادرة، فرواد مقهى بورصة النيل المطل على شارعي العطارين وعبد المنعم يتحدثون ويناقشون فيشاركهم أحيانا "بآراء لا يضيق بها أحد لمجرد التحدث وإظهار المشاركة" [28] ويلازم هذا الشعور البطل رغم عشقه للمكان وعودته إليه مرة تلو الأخرى كما يبدو في وصفه هذا:
أحرص على جلسات المساء في بورصة النيل، أجلس على كرسي بالذات، خلف الترابيزة القريبة من المدخل، استند إلى الجدار، وأواجه شارع عبد المنعم الممتد أمامي، لا أحب تغيير المكان.
قال لي عماد –ذات يوم- مداعبا:
هل اشتريته؟
قلت: الكرسي أو المكان؟
الاثنين.
أعدت إليه السؤال: ماذا ترى أنت؟
كنتُ أتابع المناقشات، أشارك بقدر ما تواتيني جرأتي، ربما مضت الجلسات فلا أدلي برأيي أو أعقب، يشغلني الوافد الذي يأتي في هذه الأيام، يمتد بأيام الصيف كلّها، أتسلل بالنظرات إلى أسفل الصنادل والشباشب والأحذية المفتوحة، لا تشغلني الوجوه ولا ملامحها، تبدو النظرات كأنها السهوم أو التحديق في اللاشيء، أوكد الأمر بالاعتذار بالشرود عن المتابعة [29].
وتعج رواية المكان "رباعية بحري" بصور هذا المكان الحي بفنية واقتدار بارع التشكيل، غني المعاني، متشابك الألوان، متداخل الظلال في لغة وصفية شعرية دقيقة تحبب إليك المكان وتقرّب منك الرؤية، وترسم لك لوحات الاتصال الإنساني الفاعل في مقاهي شارع العطارين والموازيني، وراس التين ولا سيما بين رواد قهوة المعلم كشك وقهوة مخيمخ الذين يترددون عليها لقضاء الوقت، والمودة والمؤانسة بالأحاديث التي لا تنتهي والسؤالات والتوقعات والتعليقات والمناقشات الممتدة.
والرباعية بحق لوحات بانورامية كبرى، اتصلت خيوط مكانها بخطوط الزمن، فتساوقت في نسيج متكامل أضفى على دلالتها وإيحاءاتها الكثير، وأضاء صورها الكلية ونقلها من عوالم السكون الثابت إلى عوالم الحركة والتنقل المتغير، فغدت الرواية المكان بكل دقائقه وتفصيلاته وملامحه، وأبعاده بدءا من حدود أرصفته ونوافذ بيوتاته مرورا بشوارعه ودكاكينه ومقاهيه وأكشاكه وحلقاته ومجالسه وانتهاء بمقاماته وجوامعه وموانيه وآفاقه البعيدة.
ويبدو هذا جليا في كل صفحة من صفحات الرباعية "ولو تتبعنا الرواية كلها بأقسامها الأربعة لرأينا احتفاء الكاتب بالمكان سمة يتكئ عليها في الصياغة فالمكان منطقة جذب لأبطاله وللقارئ أيضا، هو يحدثك عن المكان، ولا يمل الحديث حتى يجعلك شديد القرب منه أو أنك مقيم فيه، وبذلك حقق الكاتب صلة حميمة بين القارئ وبين بحري، فخلق نوعا من المعايشة في المكان وعقد صلة وثيقة به، مما يجعلنا نألف المكان الذي يألف" [30].
البـحـر
البحر عالم زاخر مفتوح له إيقاعه الفني الخاص، وملامحه المميزة، وعلاماته الحضارية، ومفاتيحه الرامزة، وأبعاده المؤثرة، وحركاته اللامتناهية، وأعماقه السحيقة وعلاقاته الممتدة، وأنواؤه وعواصفه العاتية، وأمواجه المتقلبة، وأحواله المتغيرة دوما، وناسه العاديون وأهله البسطاء وأشواقه وحنينه وأساطيره وحكاياته الشعبية، ومواويله وأغانيه، وصوره وفضاءاته التي تشكل مجتمعة صورة "بحري" الميلاد والطفولة والشباب.
ويبدو البحر في أعمال جبريل الروائية عالما واسعا جميلا وشاقا يحفل بالكثير ويجمع بين المتناقضات التي لا حصر لها، ويغدو بؤرة مركزية رئيسة تلتقي عندها أو فيها الشخصيات: تواجه قدرها ومصيرها المحتوم وتبحث عن المخرج والخلاص مما تعانيه أو تشد الرحال إلى البعيد المأمول أو تصارع الواقع الكائن أو تخوض غمار المستحيل أملا في الحلم بالممكن.
ويبعث البحر الأحداث ويحرّكها ويؤثر في خط سيرها عندما يكون السيد البطل المؤثر والمتأثر حوله أو بما حوله: بواقعيته وفنيته، وجبروته، وقوته، وألغازه وأساطيره، وآماله وأحلامه، وهدوئه وصخبه، وبحارته وعماله، وسفنه ورحلاته، يحفل به جبريل فيقدمه بلغة شاعرية شفافة، ويصوره بحميمية وحب، وشوق وحنين، ويعيد صوغ مفرداته وتشكيل لوحاته من جديد في خيوط ممتدة منسجمة تجمع بين الأسطورة والخيال، وتربط بين الفن والحياة في ثنائيات مشتركة تكاد أن تكون حلقة جديدة طريفة في سلسلة أدب البحر العربي.
ففي البحر يجد بطل رواية قاضي البهار ينزل البحر الحرية والخلاص والراحة والأمان فينزل فيه مختارا، متحررا من كل القيود والحواجز، متحديا كل الحدود التي حالت بينه وحريته من قبل وقد مل الشعور بالمطاردة، والإحساس بالخوف والمراقبة، والقلق من المجهول.
نزل البحر. أسلم نفسه لأمواجه التي لم تكن عالية ولم تكن كذلك هادئة... وعلت الأمواج ومضت أزمان وأزمان وتوالى المد والجزر، وابتعدت أسراب النورس، وأكل رذاذ الملح واجهات البيوت على امتداد الشاطئ، وهدأ وجه البحر تماما، وسكنت ملامحه وغاب قاضي البهار. فقط ثيابه ظلت في مكانها حتى تهرأت [31].
فالبحر عنده هو المكان الوحيد الذي نجح في الفرار إليه، ممسكا بحرية وجوده، جاعلا أمر غيابه –في أعماقه- دليل حضوره لا غيابه، تؤكد هذا الابتسامة الغامضة المحيرة كلما ثار السؤال حول غرقه وفشل قوى السلطة في العثور على جثته.
أما في الرباعية فأنت لا تستطيع أن تذكر بحري دون أن تصله بالبحر وتعبّر عنه به، فهو القوة القاهرة، والأسطورة الغامضة، والفضاء المفتوح الذي يشدك إلى نقطة المركز لتمسك بما يدور في الأطراف مؤثرا فيها حينا ومتأثرا بها حينا آخر، هو الثيمة الفاعلة في الحدث ومجراه، المحركة لسكونه، المنسّقة لإيقاعه، المنتظمة لعناصره الفنية الأخرى.
ويبدع جبريل في أجزاء الرباعية كلها في تصوير عالم البحر والمراكب والصيد وحلقة السمك والمزادات والفلايك والبلانسات والدناجل والقوارب الصغيرة، وشريط السواحل الضيقة، وأسراب السمان والنورس والنوات، وصيادو الإسفنج والمساومات والأكواب المترعة بدم الترسة وروائح الأسماك، والقوارب والطراحة والسنارات والحبال والأشرعة والرياح والأمواج وعرائس البحر.
فها هو قاسم الغرياني في الجزء الأول من الرباعية يستشعر الفرق الكبير بين عالم الصحراء الممتد وعالم البحر المفتوح الذي يتجاوز احتضان الأحداث وتأطيرها، ليتغلغل في كامل العناصر الفنية التي يتشكل منها البناء الروائي في ديناميكية جمالية ثرية تتسق مع حركة الشخصية في قلب الزمان، فالبحر عنده رغم غموضه قوة وطاقة وحياة وحركة دائبة وجرأة ومواجهة قائلا:
لسنوات عملتُ جنديا في سلاح الحدود، كرهت الصحراء، سكونها، جمودها، امتدادها إلى خواء، الصحراء تبدأ رمالا وتنتهي كما بدأت، بقدر ما كرهت الصحراء أحببت البحر، البحر نعرف أوله ولا نعرف آخره، نرى سطحه ولا نعرف ماذا في قاعه. حياة البحر لا تعرف الانطواء وأخذ الجانب، لا بد أن تصادق، تحادث، تسأل وتجيب، تبدي الدهشة والفرحة والأمل، تكشف ما بداخلك حتى لو كنت ذات طبيعة كتومة، البحر يفرض المصارحة، يفرض الجرأة والشجاعة أيضا، بمجرد الخروج إلى عرض البحر، أنت تواجه المجهول الأسماك الشرسة والنوات والأمواج العالية، وتمزقات الأشرعة وأعطال الآلات والدوار والبرد القارص والشمس اللاهبة [32].
وإذا كان البحر عند قاسم حياة لها طعمها الخاص، ومذاقها المميز، وإيقاعها المغاير لإيقاع الحياة على اليابسة فإنه عند مختار زعبلة الصداقة الحقة، والحرية المطلقة، والحب الأبدي، والحنين الجارف، والحياة بعينها التي لا يقبل بديلا عنها أبدا، فهو كالنورس ربما يبتعد عن البحر قليلا لكنه لا يبتعد عنه إطلاقا، لأنه وجوده وقوامه كما يصرح بذلك بحماسة ردا على قاسم: "البحر هو أنا" [33] مؤكدا أن لا وجود له إلا في عالم البحر الزاخر، فـ
صداقة البحر ليست ككل الصداقات، مَنْ يعمل في البحر، يتسرب حبه إلى دمه، لا يقوى على الابتعاد عنه، يظل في خاطره حتى يعود إليه.
قال: إذا خرجت السمكة من الماء، فماذا يحدث لها؟
قال حمودة هلول: تموت.
قال مختار زعبلة: هكذا أنا، ابتعادي عن البحر معناه الموت" [34]
لأنه يشعر أنه سيد نفسه الحر وهو في وسطه بعيدا عن سلطة الحاج قنديل وغيره، ونراه من فرط حبه يرسم على ذراعه وشما للسمكة التي ترمز إلى الخير والرخاء.
ويبدو شيخ البحر العجوز "الجد السخاوي" في رباعية بحري –كعجوز بحر آرنست همنجواي- خبيرا بمعنى الحياة في هذا العالم المتقلب المتغير الذي لا يكف عن الحركة والاضطراب، مدركا أسراره، حذرا من تقلباته، واعيا بأحواله، فقد رافقه منذ زمن، امتحن صبره فيه وجلده على أخطاره، وقدرته على مواجهة نواته فأصبح المورد السخي في حكاياته واتجاهاته وأبعاده ولوحاته
يجيد التنبؤ بأحوال البحر، تيارات المد والجزر، وارتفاع الموجة، وسرعة الرياح، والنوات وسحب الأمطـار، وحرارة المياه، وكمية الرطوبة والضوء، ومواعيد السفر ومناطق الوفرة والجدب، والتطلع بفهم إلى الأفق [35].
ويظل البحر رمزا مفتوح الدلالة، غير متناهي الأسرار، واسع المدى، زاخر الرؤى، متشابك الخطوط، منوع الأشياء، ولغزا محيرا يدهش بعظمته مَنْ يقف أمامه، ويبهر من يخوض غماره جبروته، فيشده إلى كنه أسراره العميقة، ملقيا به في وجه المجهول، ليتعلم الجرأة والشجاعة والقوة والمهابة والمواجهة والصبر والمجاهدة شيئا فشيئا في عالم يمور بالحركة، ويعج بالمتناقضات إذ يسافر بطل رواية نجم وحيد في الأفق في رحلة بحرية صعبة يحتمل فيها ما يحتمل من أجل لقاء نجمه الذي به خلاصه من الشعور بالملل الذي يحتويه والخـوف الذي يلفه، والقلق الذي يغمره، وينغص عليه حياته.
والبحر في هذه الرواية طريق الخلاص، وجسر السكينة، وسبيل الراحة، ومحاولة الخروج من شرنقة الحياة الرتيبة إلى عالم الحياة الموّار الفاعل الذي لا تظل فيه الأشياء جامدة ساكنة بل تتحرك بحركة دائبة غير متوقفة أبدا فها هو بطلنا المأزوم والمعتل روحيا يتردد على المكان،
يجلس على الكورنيش الحجري يتطلع إلى أفق البحر، يحاول أن يفسر أسراره يدلي قدميه الحافيتين في الفراغ، يلتذ برذاذ الأمواج المتطاير، يرقب البلانسات والفلايك والطيور وغازلي الشبك وهم يسدون الثقوب في الغزل المتآكل. مجرد الجلوس بلا عمل، يهبه الإحساس بهدوء وسكينة [36].
كانت علاقة البطل بالبحر مع أنه ابن "بحري" عادية يكتفي فيها بالوقوف أو الجلوس على الشاطئ، يتأمل صيد السنارة والطراحة والجرافة أو يراقب أسراب النوارس تهبط على الأمواج، تلتقط بمناقيرها الأسماك المتقافزة وتعلو من جديد، ولكن بعد أن ملكت فكرة الرحلة عليه نفسه بحثا عن خلاص لعلّته الروحية تعلّم على يد الكابتن كل شيء عن البحر: طرق الإبحار والغوص، ووسائل الصيد ومواسمه، ومواعيد الأنواء، وأنواع الأسماك والنوارس والطيور، وألفاظ البحارة والصيادين، والدوامات المتلاحقة، والتيارات الجاذبة والغرائب والخوارق والحكايات.
والكابتن رجل أمضى معظم حياته في البحر، بل "هو البحر نفسه" [37] يعرف الكثير عن البحار والمحيطات والأعماق وأسرارها المثيرة، وحكاياتها العتيدة، البحر حياته، وحياته البحر، والبحر عنده صديق ينبغي أن نظل يقظين عند التعامل معه، حذرين في التسليم له. وينقل الراوي لنا رأيه في البحر قائلا:
البحر ليس هو السطح. هو الأعماق، عالم لا يقل صخبا عن عالم الأرض. وقطب حاجبيه:
"عدم رؤيتنا لما تحت الماء لا يعني أنه غير موجود."
ومطّ صوته ربما ليؤكد المعنى:
البحر صديقنا، نركبه ونصطاد منه، ونسبح فيه، لكن صداقته غير مضمونة، إنه مثل الأسد الذي اطمأن إليه مربيه، ثم تبين غدره بعد فوات الأوان [38].
والكابتن الخبير بعالم النوات والدوامات والتيارات، ومواعيد المد والجزر وحركة الطيور، تعلم الكثير من أسرار البحر التي ما تزال غامضة لا نهاية لها، يحب البحر ويذوب فيه حبا وخوفا في الآن نفسه، فهو عنده كـ "الأب نحبه ونخشاه" [39]، وكالمعلم الذي يسأله ويناقشه ويتعلم منه أسرار الحياة، وهو "عالم آخر، دنيا أخرى لها جغرافيتها وتضاريسها وحياتها" [40].
وللبحر عالمه الخاص، وإيقاعه المميز، وقصصه الغريبة، وأساطيره العجيبة، وحكاياته الخارقة، وتأثيراته العديدة، ومؤثراته الكثيرة، وألفاظه الدالة، ورموزه الموحية ودلالاته البعيدة، وتكاد تكون حكايات عرائس البحر وجنياته الجميلات أغرب الحكايات التي تكرر التحذير منها لمن يتوق إلى معانقة المستحيل، وخوض غمار البحار.
فالجد السخاوي يحذر مَنْ معه من عروس البحر: المرأة الجميلة ذات الذيل المتهدل التي يخفق لها قلوب الرجال في البحر، وقد انشقت المياه عن جسمها البشري السمكي، ولوحت لهم بيدها، وغاصت في الأعماق لأنها "تضاجع الريح، ولا تلد إلا الإناث، وطعامها ثمار بعينها تنبت حيث تعيش" [41] وقد "تسحرك بجمال جسدها وبغنائها، وربما تدفعك إلى مصير مؤلم، تخضع لتأثير جمالها وعذوبة صوتها فتهمل قيادة قاربك واتجاهه حتى يرتطم بالصخور" [42].
ويفسر غرق جمعة العدوي، وغياب حودة التيتي واختفاء المليجي عطية باجتذاب عروس البحر لهم، وأخذهم إلى قاع البحر حيث يبدو العالم –هناك- كأنه الجنة لا تغري بالعودة إلى عالمهم الذي كان من قبل.
أما الريّس عبد الحافظ معوض و"الكابتن" فيحذران بطل رواية نجم وحيد في الأفق من جنيات البحر اللواتي يغنين بأصوات جميلة فيجتذبن المسافرين بأغنياتهن وينزلن بهم إلى البحر فلا يعودون، فقد "تظهر الجنية منهن في هيئات وأشكال لا نهاية لتحوراتها تحرّك الريح، وتذلل الأمواج، وتخضع الكائنات لإرادتها، هذا عملها: تغوي راكبي البحر، تجتذبهم، تهبط بهم إلى أعماق البحر إلى حيث لا يعودون" [43] ولذا يزمع البطل على تجاهل ما قد يسمعه من نداءات وأغنيات "حتى لو كانت العروس عروسا حقيقية فإنه ترك بحري للقاء نجمه لا يشغله ما يثنيه أو يعطله، وليواصل التجديف نحو المعنى الذي يشغله. يفتش عن المجهول والأسرار التي تلقي بظلالها على الكائنات من حوله، يظل يجدف حتى يصل بالقارب إلى حيث يوجد النجم، إلى حيث يجد الإجابة عما يشغله من أسئلة" [44].
لغـة بحـري
تتخذ اللغة في رواية "بحري" البطل المكان أبعادا جديدة غارقة في الصوفية لفظا ومعنى وتعبيرا، فمعظم لغة لوحات الرباعية تقطر صوفية في ألفاظها ومعانيها وتراكيبها وعناوينها الفرعية، وحمولاتها الدلالية المكثفة.
ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن "بحري" بأجزائها الأربعة لا تخلو صفحة من صفحاتها من الألفاظ والتعبيرات الصوفية التي تشكل ملمحا فنيا بارزا فيها يصعب معه حصر هذه الألفاظ وجمعها على نحو ما.
وهذه الألفاظ الصوفية "ألفاظ لا تعرف عن طريق منطق العقل والنظر بقدر ما تُفهم عن طريق الذوق والكشف، ولا يتأتى ذلك إلا لسالك يداوم على مخالفة الأهواء وتجنب الآثام، والبعد عن الشهوات، وإخلاص العبادات، والسير في طريق الله بالرياضات والمجاهدات في الطاعات" [45].
ولعل من أبرز ما تزخر به الرباعية من ألفاظ ومعان صوفية مستوحاة من معجم الكتابات الصوفية التراثية: الأنس، والاتصال، والتجلي والستر، والحال والمقام، والحضرة والرؤيا، والسالك والمريد، والسر والسفر، والقرب والبعد، والكشف والمشاهدة، والمراقبة والمعرفة، والخوف والرجاء، والكرامات والهزات و…
وانظر هذه الألفاظ وغيرها –على سبيل المثال- في وصف الراوي لحال علي الراكشي وقد زهد في الدنيا وسار في درب الله.
صرف قلبه عن المخلوق إلى الخالق، خلّف دنيا الناس وراءه، مضى مع المسارعين إلى ظل الله أهل المجاهدة والأوراد، ألقى همومه في مياه البحر، فتلاحقه الأمواج إلى غير انتهاء، سرح في لا نهائية الأفق، استغرقته لحظات من التبري والتخلي عن كل الدعاوي والغايات وعاد إلى بداية البداية. قرأ في الوحي والرؤى والملائكة والشياطين والكرامات والمعجزات والمكاشفات والصفات واللوح والقلم وحقائق الرسل والأنبياء، والموت والقبر، والغيبيات والخوارق. قرأ في تقاليد الصوفية ومراسمها: الموالد السنوية، والأحزاب والأوراد وحلقات الذكر والسماع والإنشاد والعهد بين الشيخ والمريد [46].
وترتبط نصوص لوحات بحري في لغتها الشاعرية الوصفية الصوفية الدقيقة الدالة في رمزيتها، العميقة في إيحاءاتها، البعيدة في دلالاتها، الغنية بإشاراتها، الكثيفة في معانيها بالنصوص والأخبار والأحزاب والأوراد والكرامات والآثار والأشعار والطرق الصوفية التي تذوب في النسيج الروائي، فتغدو مكونا أساسيا له، وقد عمد جبريل إلى تصدير بعض فصول بحري بأجزائها الأربعة بأقوال بعض الأولياء الصالحين ممن جاهدوا النفس، وأماتوا الشهوات، وزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، وقد صفت نفوسهم، وفرّوا إلى الله سائرين في دربه من أمثال: أبي الحسن الشاذلي، وأبي العباس المرسي، وابن عطاء الإسكندري، وبأحزاب وأوراد بعض الطرق الصوفية ولا سيما الشاذلية، وبعض الأشعار الصوفية والأدعية المأثورة بما يؤكد سطوة الشعور الديني، وسلطة المكان الديني في نفوس الناس، ومعنى التوجه إلى التصوف وأثره في الحياة الإنسانية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يستهل الروائي فصل "في حضرة السلطان" [47] بالدعاء:
"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، والآية القرآنية "إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما." ومن ثم مداخلة عن أبي الحسن الشاذلي، وقد وصف له الناس وليا براس جبل فصعد إليه يغترف من بحر علمه، ونور معرفته.
ويستهل فصل "متى يأذن الله؟" بدعاء شعري يعقبه بحوار رجل مع أبي الحسن الشاذلي
يا من تحل بذكره عقد النوائب والشدائد
يا من إليه الملتجى وإليه أمر الخلق عائد
يا حي يا قيوم يا حمد تنزه عن مضاد
أنت العليم بما بليت وأنت عليه شاهد
أنت الرقيب على العباد وأنت في الملكوت واحد
فرّج بفضلك كربتي يا من له حسن العوائد
* * *
قال رجل "لأبي الحسن: ما لي أرى الناس يعظمونك، ولم أر لك كبير عمل؟ قال الشاذلي: بسنة واحدة افترضها الله على رسوله تمسكت بها، قال: وما هي؟ قال الشاذلي: الإعراض عنكم وعن دنياكم" [48].
ويعيد جبريل حوار الرجل مع إمام العارفين وقدوة السالكين الشيخ أبي الحسن الشاذلي نفسه في فصل "أسواق من النور" [49] في الجزء الثاني من الرواية "ياقوت العرش". ويكثر جبريل من استهلال لوحات فصول الرباعية بأدعية وأقوال وتعاليم أبي الحسن الشاذلي، وأبي العباس المرسي أو أخبار من سيرهم في حب الله والشوق إلى نور جلاله، والذوبان في فيوضاته الإلهية كفصل [50]:
"السائر إلى الله" و"يا مريدي لا تضق بي" و"الغوث" و"المجاهدة" و"اتساع ضيق الأكوان" و"ارتحال إلى الأسمى" و"بحر الأنس" و"الوقوف على باب الولاية" وغيرها.
ويأتي ببعض الآيات القرآنية الكريمة أحيانا كما في فصل "رحلة الاتجاه الواحد" [51]، وببعض الأدعية والأناشيد والأشعار الدينية كما في فصل [52] "أولى مراتب السالكين" و"الحلقة" و"أصوات الأحلام القديمة".
ويمثل هذا التناص الصوفي الديني خلفية أساسية للوحات بحري في مختلف الفصول تتصل بواقع الرواية، وبنائها الفني الكلي، وتتساوق مع النسيج الفني، وتتواءم مع الرؤية التي تستدعي التراث الصوفي الزاخر بالمعارف والأخبار والإشارات والكرامات؛ لتشكل تمهيدا معقولا للولوج إلى مضمون اللوحات، ومدخلا ملائما للاقتراب من الحدث الروائي الذي تصوره، وتؤدي وظيفتها في رسم الجو العام الذي يتلاءم وطبيعة المكان والزمان الروائي الذي تدور في فلكه الأحداث المتنوعة، وتساعد في تعميق الإحساس بسطوته بوصفه لبنة أساسية هامة وفعالة ومتأثرة ومؤثرة في مجرى الأحداث نفسها.
وتتكرر الإشارة إلى أسطورة جنيات البحر وعرائسه اللواتي يجتذبن المسافرين بأغنياتهن الجميلة، وينزلن بهم إلى قاع البحر إلى حيث لا يعودون في عالم "بحري" المليء بالحكايات والأخبار وخاصة في فصل "المرأة الجميلة ذات الذيل المتهدل" -في الجزء الأول من الرباعية "أبوالعباس"- الذي يحذر فيه شيخ البحر الخبير "الجد السخاوي" من عرائس البحر اللواتي قد يدفعن البحار إلى المصير المؤلم عندما يهمل قيادة قاربه فيرتطم بالصخور، فتأخذه إلى الأعماق السحيقة كما فعلت بحودة التيتي، وسباعي سويلم، وجمعة العدوي، والمليجي عطية.
وتمتلئ رباعية بحري بالتناصات الشعبية التي تعد خير ممثل للبيئة الشعبية الإسكندرانية، فنماذج التناص الشعبي في معظم فصول الرباعية منوعة المعاني، متعدّدة الدلالات، ممتلئة الإشارات، متكثّرة الرموز تعبر عن واقع الحياة المعقد الزاخر في لوحات تشكيلية عريضة.
فها نحن نمضي في موكب عرس ابنة الحاج قنديل فنسمع الأغنيات والمواويل التي تطغى على الأصوات الهامسة والمتشابكة في السرادق الواسع الكبير:
قاعد على الرمل وحدي في عز ظهريـة
الشمس قدحت دماغي يا ناري يا عنية
ومن هوا البحر ما شعرتش بحنية
تلسعني نار الجفا تحرقني –أتلوى
يا حلو عطفك لروحي ضل شمسية [53]
وتتعالى الأصوات منغمة يرافقها تصفيق:
اقروا الفاتحة لابو العبـاس = = يا اسكندرية يا أجدع ناس [54]
ويترامى من الشرفة المطلة على السرادق صوت العالمة تغني:
قطعني حتـت = = أنا ملك ايديك
وعينية حـكت = = حكت لعنـيك
آه يا وله يا وله [55]
وها نحن نسمع موال الصيادين الغلابة والمنكسرين الذين يأملون بتغير الحال، يترنمون به وهم على ظهور مراكبهم بصحبة الجد السخاوي:
أقوم من النوم أقول يا رب عدلها
بلدي قصاد عيني ومش عارف أعدلها
وادي ريس البحر محتار ما هو عارف يعدلها
سألت شيخ عالم بيقرا في معادلها
بين المسا والصباح ربك يعدلها" [56]
ونقف في فصل "الأسطى مواهب" مع بعض الأغنيات الشعبية القديمة الخاصة بإحياء الأعراس التي تحيي بها المغنية "مواهب" والمغني "حسن عشم" ليالي بحري السعيدة في زواج ابنة عباس الخوالقة الذي لم يتم.
فقد "أطلقت –فجأة- ضحكة عابثة، تمهد بها لدخول القهوة تبعتها بدندنة:
ما تخفش عليـه
أنا واحدة سجوريا
في العشق يا انـته
واخدة البكالوريـا
ما تخافش علـي
علا صوت حسن عشم مغنيا:
لا دلالي عليك يا دلالـي = = سنتين وأنا أحـب وأداري
أطلقت المرأة ضحكة مصحوبة بغنجة
عايق على خـدك شامـة = = وعينك منهم يا الله السلامة" [57]
وفي فصل "ذبالة" ورغبة في إعادة الفرحة إلى مهجة ابنة الخوالقة التي لم تكتمل فرحة زواجها الأول من هشام بسبب فرية "طه مسعود" الذي ادّعى أنهما أخوان في الرضاعة، تعلق الزينة، وتغني العوالم في زواجها من "فؤاد أبو شنب" وتمضي الزفة في شوارع الحي فيرقص الأولاد والبنات حولها ويغنون:
يا حلوة ضمي الغلة = = لتكوني قرعة تغشيني
يا حلوة ضمي الغلة = = لتكوني عرجة تغشيني
يا حلوة ضمى الغلة = = لتكوني حولة تغشيني
وريني شعرك وريني = = شعرك حلو عجبتيني
وريني رجلك وريني = = رجلك حلوة عجبتيني
وريني عينك وريني = = عينك حلوة عجبتيني
وتتعالى أصوات الأولاد والبنات
الحنة يا الحنة يا قطر الـندى = = يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهـوا" [58]
وهكذا تشكّل التناصات المتشابكة على تنوعها بعدا أساسيا من أبعاد التجريب الفني الروائي في أعمال جبريل الروائية وهي تتآزر بانسجام مع الشكل والمضمون، وتتساوق معهما من خلال العلاقات التناصية التي يبدو النص في ظلها متحركا لا ساكنا ومنفتحا لا مغلقا، وقادرا على الإيحاء والتعبير لا عاجزا، ومحركا لفعل القراءة الواعية المنتجة التي تعيد تقديمه وإنتاجه من جديد في أشكال وصيغ متعددة ذات دلالات مختلفة قابلة للدرس والنقد والتأويل.
صـور مكانيـة أخـرى
رغم أن "بحري" في أعمال روائية كثيرة هو السيد البطل الذي ينهض بالحكي، ويدعم العناصر التخيلية الأخرى، فيؤثر في الشخصية، ويرسم ملامحها، ويتأثر بحركتها الدائبة فيه، المتّسقة وخطوط الزمن وأبعاده، وتشكلاته إلا أن جبريل لم يهمل المكان: الديني والتاريخي والشعبي والأسطوري، والواقعي الحقيقي والتخييلي الفني في أعمال روائية أخرى له من مثل: إمام آخر الزمان ومن أوراق أبي الطيب المتنبي وقلعة الجبل والخليج واعترافات سيد القرية وزهرة الصباح وبوح الأسرار.
ففي إمام آخر الزمان [59] يمتد المكان الواقعي امتدادا واسعا له دلالاته الخاصة التي تتسق وفكرة الإمامة" السياسية الرئيسة التي يحاول الكاتب التعبير عنها، وينسحب برحابة وشمول إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الذي يتوق إلى تحقيق العدل والسلم على أرضه، فيشمل معظم المدن المشهورة في العالم الإسلامي التي تركت آثار ما شهدته من أحداث وحوادث تاريخية بصمات ثابتة في قلب الوجدان العربي الإسلامي محفورة على صفحات أوراقه الكثيرة مثل: البقيع والكوفة والنجف وكربلاء التي شهدت استشهاد الإمام الحسين في سبيل العدل والقسط والمساواة.
ويتناسب امتداد المكان مع تداخل الأزمنة وتوازيها في الرواية، وينهض بعبء الرؤية الممتدة الشاملة، فيأتي تارة معادلا موضوعيا للرؤية التي ينطلق منها الروائي في التعبير، ويصبح رمزا واسع الدلالة، غني الأبعاد، ثري الفكرة تارة أخرى في إشارته إلى مدينة الفتح والزهراء، ويكون الميلاد والبشير والخلاص عند سريان كلمات الإمام الجديد في أرجائه الفسيحة الممتدة في بعض الأحياء التاريخية العريقة المنتشرة على امتداد أرجاء العالم الإسلامي مثل: أسواق واجف والغورية والأشراف، وخان الخليلي، والحمراوي والحميدية والشورجة وسرقس والحيدرية والسيالة وغيرها.
ويتفق تعدد الأمكنة وتداخل الأزمنة مع الرغبة في تجسيد فكرة النزوع الدائب للبحث عن المخرج والخلاص في انتظار المهدي المخلص الذي سيملأ الأرض عدلا ومساواة، والوعي التام بأهمية الفعل والتغيير، ويتناسب مع الفترة الزمنية التي كتب فيها الكاتب روايته كما يصرح بذلك في نهاية العمل الفني من فبراير 1976 حتى يونيو 1982، في مدن الإسكندرية والقاهرة، وعمان، وبيروت، ومسقط، والرياض، والدوحة، والكويت، وأبو ظبي، والجزائر، ونواكشوط، والفجيرة، وتونس.
ويبدو المكان في هذه الرواية على تنوع أنساقه، وأشكال تقديمه وأساليب التعبير عنه نقطة الارتكاز التي تقوم عليها حركة الوقائع، وبؤرة الصراع والتحوّل، ومحور الجدل والتشابك المترابط، المتعدد الذي لا يكتمل معناه إلا بتضافره مع بقية العناصر الروائية، وربما يشير تغير المكان وامتداده وتحوله بتعاقب الزمان إلى دلالات أوسع من كونه مجرد حيز جغرافي هندسي لا بد منه لتأطير المادة الحكائية.
فعلى سبيل المثال يصبح المكان –في الفصل الأخير من الرواية- نافذة مفتوحة على زيف الحاضر المعيش، ففي إحدى زوايا مقهى السيالة وُلدت كلمات البشارة والخلاص على لسان السيد الحفناوي، وفي أحياء الإسكندرية سرت معاني الكلمات الطيبة التي تناقض الشعارات البراقة من قبل، فتنذر من الجهل، وتبشر بالقادم، وترسم صور الحق لا الباطل، وفي ميادين المساجد تجمعت الجموع المتلاصقة كأنها الحجيج إيمانا بالمهدي الجديد "فانثالت على المكان، تضوعت في أرجائه، شملت الطارئ والمقيم هالات سماوية بدلت الحال غير الحال، فكشفت نصاعة الحاضر مقدار ما احتبل الماضي من مباذل ومساوئ وشرور" [60].
ولكن الطعنة الغادرة التي فاجأت الإمام فأفزعت أهل الأنفوشي فعَظُم الندب واللطم والبكاء عقب اغتيال الحلم والأمل والمستقبل والمعجزة جعلت المكان نفسه حاملا للثنائيات الجدلية التي لا تنتهي –ربما- إلا بنهاية العالم، فالميلاد والخلاص، والحياة والموت، والحاضر والمستقبل، والكائن الواقع والمأمول الحلم، والحق والباطل، والأصل والصورة، ثنائيات ممتدة غير متناهية بدأت منذ زمن ولم تخبُ جذوتها بل تجذرت شرايينها في قلب الحاضر وربما ستواصل امتدادها إلى المستقبل القادم في المكان الرمز المفتوح المتغير بتغير كل ما حوله من عناصر قابلة على الدوام للتحول والتأويل.
ويشكل المكان بتداخله مع الزمان في رواية من أوراق أبي الطيب المتنبي [61] وحدة بنائية متواشجة الروابط، غير منفصمة العرى، متحدة العناصر، متنوعة الملامح حاولت تقديم صور مكانية حية نابضة بالحركة، مملتئة بالدلالات المجتمعية الآنية لمصر الإخشيدية التي تختلف في كنهها وجوهرها، وأبعادها وملامحها، وأنماط تشكلات بنياتها وخصوصياتها وطبائع ناسها عن غيرها من الأماكن التي عاش فيها، أو ارتحل إليها المتنبي من مثل: بغداد والشام.
ويتفنن جبريل في تقديم لوحات المكان التراثي التاريخي القائم آنذاك، وتشكيل مكوناتها، وتجسيد أدواتها، وإبراز مواصفاتها الجمالية مستخدماَ أدواته الفنية، والأسلوبية واللغوية في رسم عوالمها، والتعبير عن مكوناتها القديمة بما يتوافق والشكل الفني الذي يضم الرؤية الفنية أساسا، ويزيد من إيهام القارئ بما يعبر عنه في لوحاته.
ففسطاط المتنبي في الرواية: مدينة الأمن والأمان والحكم والسلطان، والحلم والواقع، والأمل المرتجى في ظل كافور، والزعامة المهيبة مدينة عظيمة ليست كغيرها من المدن
بها بساتين فخمة، ومتنزهات تكسوها الخضرة، وأسواق كثيرة وشوارع وأخطاط ودروب ورحاب وأزقة تزدحم بالناس من الباعة والمارة وأرباب المعايش وأصحاب اللهو والملعوب، وإن بدت ضيقة بالقياس إلى شوارع بغداد أو الشام. تزخر بالوكايل والخانات والمتاجر التي تبيع من كل صنف، والمساكن الكثيرة والبساتين العظيمة والحمامات والشون والمناظر والرباع والفنادق والبرك والخلجان والجزائر والرياض والدور والقصور العالية. على جانبي الأسواق حوانيت بها كل ما يحتاجه المرء، ثمة الرفاءون والحباكون والرسامون وباعة الأقماع والبزازون والخلعيون والمجبرون وباعة الظرائف والمغازل والكتان من الشمع والصاغة والسروجية والحدادون والدقاقون [62].
ولا يكتفي جبريل بتصوير المكان القديم ذي البعد التاريخي بل يرسخ أبعاد المكان وسماته الخاصة في تصوير بيئته الشعبية: عاداتها وتقاليدها، واحتفالاتها بالأعياد والمواسم من مثل: عيد الغطاس، المتمثل في خروج العشرات من النصارى بصلبانهم إلى الكنيسة، وشرائهم الشموع وارتدائهم الثياب الفاخرة، وترديدهم الأغنيات والرقصات، وعيد النحر، والتهيؤ لاستقباله وقد
أقيمت الأفراح، ونصبت القلاع والقباب، وأوقدت النيران، وازدانت الشوارع والأسواق بالأنوار والبسط الثمينة، وامتلأت بالمآكل والمشارب والملابس الفاخرة وآلات الذهب والفضة والجواهر، والملاهي والغرف، والرصف، وسارت فرق الملاعب والراقصين والمغنين والمهرجين، وعلت القصور والبيوت بأنواع الزينة حتى الأخطاط والأزقة علقت في مداخلها قناديل وشموع وانشغل الناس بالبيع والشراء، وأعدوا أنفسهم لصلاة العيد [63]
بما يخلق عند القارئ شعورا أكيدا بقدم المكان في صوره وعناصره ومفرداته، التي تقبل بشيء من القراءة والتأويل أن تكون الحاضر على اختلاف أمكنته وتنوع صوره.
وليس المكان التراثي التاريخي بمفرداته وجمالياته وأسراره وعلاقاته في رواية قلعة الجبل [64] مجرد إطار تزيني للأحداث، أو وعاء خاص بها بل هو مكون رئيسي من مكونات الخطاب الروائي، وعنصر أساسي من عناصر الرؤية الفنية تسهم في إنتاج معانيها ويُساعد في تكثيف حضورها وتعميق دورها في الوعي الإنساني.
و"قلعة الجبل" التي شُيدت بأمر من الناصر صلاح الدين الأيوبي تصبح في عالم الرواية –الجبريلي- محور الصراع وبؤرة الحدث، وإشكالية الوعي، وثنائية الجدل القائم بين فعل السلطة وإرادة الشعب إذ يصير رفض عائشة ابنة الشيخونية وأخطاطها الانتقال إلى دنيا قصور ودور وحدائق وبساتين قلعة الجبل حيث يقيم السلطان خليل، وتمسكها بالبقاء في بيتها بين أهلها وناسها، وشعورها الدائم بالحب والحنين إلى شوارع وأزقة وبيوت ودكاكين وأسواق حيّها، وتوقها الدائب إلى معانقة رموز المكان الذي شهد أجمل مراحل حياتها منذ الصغر صورة من صور الصراع الدائب بين عالمها الشعبي البسيط وعالم السلطان خليل وحاشيته وقواده وجنوده وأعوانه، وطرفا من أهم أطرافه الرمزية الدلالية التي تؤكد البرزخ العظيم الذي يفصل بينهما في الظاهر والباطن، والداخل والخارج معا.
فعائشة: الإرادة الحرة والتحدي العنيد، والتلقائية العفوية، والجمال الشعبي الساحر الأخاذ والتشبث الأكيد بجماليات المكان الذي عاشت في فضائه طفلة وامرأة وزوجة صارت المكان نفسه بكل ما فيه كما صار هو "سر وجودها، ومصدر تماسكها، وأداة قهرها في آن" [65] وقد حملت منظورها الجدلي معها ودارت به في فلك المكان.
وبهذا تصبح "قلعة الجبل" إشكالية للرفض والقبول، وجدلية للحرية والأسر، وثنائية للوعي والتزييف بين عالمين متمايزين في هويتهما ورؤيتهما وتجلياتهما، وفضاءاتهما وتشكلاتهما ومفرداتهما الخاصة، فها هي عائشة تحين إلى ناسها، وتشتاق إلى غرفتها المطلة على حدرة الحنة، وتستذكر زحام شوارع الشيخونية، وتفتقد شعورها بالأشياء وهي بعيدة عنها عندما صعد بها الجنود إلى القلعة أثناء انشغال الناس بالفرجة على محمل الحج، وفرض عليها السلطان الإقامة في قصر من قصوره الثلاثة دون رغبة منها، وجعل لها من الكنوز ما لم يجعله لغيرها، فقد
هال عائشة وهي تقف قبالة قصر السلطان، ذلك السور الهائل المحيط بالقلعة من حجر وأبراج وبدنات تنتهي إلى القصر الكبير، فالدور السلطانية الأخرى.
بدت القلعة مدنية، زاخرة بالقصور وقاعات الاستقبال ودور الحريم، ودور المال وطباق الحرس والجنود والإسطبلات وخزائن السلاح ومنازل الحاشية وقصور الوزراء والحمامات والمكتبات والحدائق والأسواق والمطاحن والأفران. شاهدت الأبراج والأبواب والمزاغل، وتعرّفت بتقضي الأيام إلى جامع سارية، وبئر يوسف، وجامع السلطان قلاوون، وقصر يوسف، وبئر السبع سواقي، وجامع المؤيد، والقاعات السبع، والقصور الجوانية وطوائف المماليك داخل الطباق.
تطلعت إلى برج المطار، بدت أسراب الحمام الزاجل على قمته، تمنت لو أنها تعرف كيف تخاطبه، لو أنها تعرف كيف تضع رسالة تحت جناح حمامة تنبه سكان حدرة الحنة إلى مكانها، ربما أمكنهم الوصول إليها.
أطلت على القاهرة ومصر: المآذن والقباب وأبراج الكنائس وأسطح البيوت والميادين والحدائق والشوارع والدروب والعطوف والقرافة، يختفي الناس أو يبدون كالأشياء الصغيرة، من الشرق يبدو جبل يشكر والقطائع وجبل ابن طولون، يلوح من بعيد النيل وأشرعة المراكب والأهرامات وشواشي النخيل والبساتين وحدائق اللوق المليئة بأشجار الفاكهة [66].
ومما لا شك فيه أن القدرة على تشكيل المكان، ورسم أبعاده، وخط حدوده، ووصف صوره، والتعبير به أو عنه يحتاج إلى لغة قادرة على الاستيحاء والتشكيل الذي يضفي على المكان طابعه الخاص، وهويته المحددة، وفنيته المميزة.
وجبريل في خطابه الروائي وبلغته الوصفية التصويرية يجعل المكان وكأنه شخصية حية فاعلة تتأثر بما حولها وتؤثر فيها من جديد في روابط مشتركة متصلة البناء، منسجمة اللغة وإن كانت متباينة في أشكال تقديمها الحكائي.
وإذا كان المكان في رواية الخليج [67] يمتد من أرض النيل إلى الخليج العربي امتدادا له فضاءاته المميزة، ودلالاته النفسية الخاصة، وإيحاءاته الرمزية الدالة على الشعور بالاغتراب والانسحاق النفسي الرهيب، والإحساس بالمطاردة والمراقبة، والتقوقع في دائرة الذات وعدم القدرة على الانفتاح على الآخر عند الوقوع في دائرة الحرب والسياسة من جهة، ودائرة المقبول والمرفوض والمطلوب والمفروض والممكن والمستحيل، والمسموح والممنوع من جهة أخرى، والبطل يواجه المجهول وغير المتوقع في سفره من الإسكندرية إلى عُمان فالكويت، ومضي سنوات طويلة على اغترابه في أرض تختلف في جغرافيتها وطبيعتها وعادات وتقاليد أهلها، وطرائق حياتهم وأساليب معاملاتهم عن المكان الذي عاش فيه من قبل، فإنه في رواية بوح الأسرار [68] يتجاوز حدوده المرسومة في قرية السمارة المصرية وتتغير صورته، وتضاف إلى أبعاده أبعادا جديدة تكسبه أهمية مميزة، وتضفي عليه هالة من القداسة النوارنية فيصير هو البطل النوراني الأسطوري في ضمير الجماعات الشعبية الذي بالتردد عليه والبناء بجواره تحصل البشارة، وتتحقق العدالة، وتنتصر الحقوق، وتكتمل الصور؛ فأسطورة ولي الله فرج خليل "ابن شفيقة" تشكلت في السمارة التي شهدت خوارقه وكراماته في حياته ومماته على السواء.
فـ "لكل قرية وليها، وفرج خليل هو ولي قرية السمارة له ضريح ومقام وخليفة وتلامذة ومريدون، يؤمنون بكراماته ويذكرون الله تعالى" [69] ويترددون على زيارته، ويقصده الناس من المدن البعيدة والقريبة ومن مختلف القرى، يطلبون النصفة والمدد والشفاعة والبرء من العلل.
وهكذا تُكسِب أسطورة الولي المكان شيئا من القدسية التي تتجلى فيها الفيوضات الإلهية والكرامات الخارقة، فتسري في الحاضر وتمتد إلى القادم، وتحيا في الضمائر بدوام الشعور بفاعلية الأسطورة نفسها، وعمق تأثيرها في ذوات الآخرين.
أما في رواية اعترافات سيد القرية [70] فيلعب المكان الأسطوري في التراث الفرعوني دورا كبيرا في الكشف عن أبعاد الشخصية وجوانبها المختلفة، وإبراز مدى تحولها وتغيرها، وقدرتها على البوح –بصدق- بما كان فيها، أو البحث الدائب عن مبررات تكفل لها الحياة في عالم مكاني أسطوري جديد يتسم بالهيبة والرفعة والخلود.
ففي قاعة الصدق في بهو المحكمة الإلهية الموقرة في العالم السفلي تتوالى إجابات سيد القرية الفرعوني "زاومخو" على أسئلة الآلهة الاثنين والأربعين سؤالا التي يحاول فيها إقناع هيئة المحكمة بجدوى ما فيها، ولذا تتعدد أحيانا باختلاف القص الروائي على لسان الشخصية الرئيسة "زاومخو" صور المكان إلا أنها على تعددها وتنوعها واختلافها تتحرك في قلب القرية الفرعونية "ونيس" القريبة من مدينة "آثيت تاوي" متزامنة مع خط سير الزمان الروائي نفسه.
وهذا المكان الأسطوري بما يمتلك من خصائص وسمات وأبعاد وصلت إلينا من خلال ما جاء في كتاب الموتى وغيره، استطاعت اللغة الفنية بطاقاتها الإيحائية، وسماتها الوصفية، وقدراتها التشكيلية الفنية التعبير عنه:
قاعة الصدق، ازدان سقفها بلهب النيران وعلامات الحق، المقصورة تتصدر المكان، يجلس فيها أوزوريس على عرشه، يرتدي تاج "الآنف" بيمينه عصا الراعي، وبيساره عصا "النخخ" من أمامه رمز أنوبيس وأبناء حورس وآكل الموتى، في أقصى البهو من الخلف قضاة أوزوريس الاثنان والأربعون، يقضون في أفعال الراحلين من البر الشرقي إلى البر الغربي ما حسن منها، وما جانبه الصواب وما أسرف في الخطأ [71].
إن هذا المكان الواحد الذي قد تتعدد في ضوئه صور مكانية تتوالى أثناء السرد الروائي تكشف –إلى حد ما- عن طبيعة المكان، وناسه وأهله، مغاير للأمكنة الممتدة في زهرة الصباح [72] التي تتباين بتباين الحكي، وتختلف باختلاف المروي من القصص والحكايات والأخبار على لسان شهرزاد نفسها أو "زهرة الصباح" أو المتبولي أو الرواة الشعبيين، ورغم ذلك فإنها تحرص على استدعاء بيئة مكانية تتوافق والمرحلة التاريخية المختارة وهي المرحلة المملوكية في مصر، وهذه بيئة مكانية تغاير بيئة الليالي أصلا في الملامح والرؤى.
والمكان في ليالي جبريل الروائية مشتبك مع الزمن بعلاقات كبرى لا انفصام بينها تقدم نفسها بأساليب فنية مختلفة باختلاف مواد الليالي، وجوهر مضامينها وزوايا النظر فيها.
ومدينة القاهرة الشعبية على وجه التحديد والتخصيص هي بؤرة الحدث، ونقطة الارتكاز التي تتحرك في فضائها الرحب شخوص رواية زهرة الصباح الرئيسة والثانوية معا، تحرك جذوة الحدث وتصعده، وتعمق خط سيره نحو الذروة بما تمتلك من قدرات واسعة على التحرك والتغيير.
والقاهرة التي يحرص جبريل على التصوير الفني فيها هي قاهرة البيوت والدكاكين والمساجد والقصور والحواري والأزقة والعطوف، والوكايل والخانات والميادين والأسواق والحارات التي كادت أن تكون فارغة في حين من الزمن وقد استشرى شر السلطة، وتمكن في أوصال المجتمع، وتغلغل حتى الأعماق فكان المكان نذير شؤم وبؤس وخوف وقلق وشقاء وانتظار إلى أنْ صار فعل التغيير بالكلمة المؤثرة، والحكمة المفيدة، والعبرة الأكيدة هو الخلاص الحقيقي المنشود فاستحال المكان حياة وسعادة وبهجة ورغبة، وأملا وطموحا في ظل الحرية والعدالة والمساواة.
إن هذا المكان الواقعي الفني في معظم أعمال جبريل الروائية شخصية حية نابضة تتنامى وتتطور، وتلتقي وتتصل، وتؤثر وتتأثر، وتصل وتقطع، وتشكل البنى وتتشكل في ظلها، وتعكس صورتها على غيرها من العناصر الفنية، وينعكس عليها شكل العلاقات الجدلية القائمة بين العنصر الواحد وما يقابله عندما تتجاوز العناصر، وتشتبك رموزها معا لإنتاج المعنى والمساهمة في إبراز دلالات حضوره.
وبهذا تتعدد صور المكان، وتتنوع أشكال تقديمه، فتتنوع تبعا لذلك أشكال قراءته، ومعاني تشكلاته اللامتناهية التي تتجاوز الأبعاد الجغرافية أو الهندسية المحددة، والأطر الثابتة الساكنة لتنهض بعبء الرؤية المُرادة بارتباطها بغيرها من عناصر البناء الفني، فيصير المكان الساكن متحركا، والثانوي رئيسا، والرئيس بطلا، والبطل محورا، والمحور رمزا، والرمز قضية، والقضية فكرا ممتدا شاملا ينسحب –ربما- على العالم بأسره.
= = =
الهوامش والإحالات
[1] بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، ط1، المركز الثقافي العربي، 1990، ص 26.
[2] عوض الله، مها حسن، المكان في الرواية الفلسطينية، 1948-1988، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، الأردن، 1991، ص 329.
[3] محمد جبريل: قاص وروائي، ولد في حي بحري/ الإسكندرية عام 1938، وتلقى تعليمه الابتدائي في كتّاب "الشيخ أحمد" وروضة مدرسة القناة، وتابعه في مدرسة البوصيري الأولية، وواصل تعليمه في مدرسة الإسكندرية الثانوية، وتابع الدراسة حتى حصل على ليسانس الآداب/اللغة العربية، وانتقل بعدها إلى القاهرة ليعمل في الصحافة وما زال. له ندوة أدبية باسمه لرعاية إبداعات الأدباء الشباب، وله أكثر من تسع مجموعات قصصية منها: "تلك اللحظة" 1970، و"انعكاسات الأيام العصيبة" 1981، و"هل" 1987، و"حكايات وهوامش من حياة المبتلى "1996، و"انفراجة الباب" 1997، و"حارة اليهود" 1999، وله ما يربو على العشرين عملا روائيا منها: "الأسوار" 1972، و"إمام آخر الزمان" 1984، و"من أوراق أبي الطيب المتنبي" 1988، و"قاضي البهار ينزل البحر" 1989، و"الصهبة" 1990، و"قلعة الجبـل" 1991، و"النظر إلى أسفل" 1992، و"الخليج" 1993، و"اعترافات سيد القرية" 1994، و"زهرة الصباح" 1995، و"رباعية بحري" 1997/1998، و"المينا الشرقية" 2000، و"نجم وحيد في الأفق" 2001"، وزمان الوصل" 2002، وغيرها. فاز مؤخرا بجائزة اتحاد كتاب مصر للتميز 2009، للمزيد انظر: جبريل، محمد، حكايات عن جزيرة فاروس "سيرة ذاتية"، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 1998، ص 6-20، ويوسف، شوقي بدر، ببليوجرافيا الرواية في إقليم غرب ووسط الدلتا، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1994، ص 330-347.
[4] النصير، ياسين، إشكالية المكان في النص الأدبي، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص 8.
[5] جبريل، محمد، مصر المكان، ط2، المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 2000، ص 6.
[6] تبرماسين، عبد الرحمن، جماليات مد الموج، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، ص 4، غير منشور، 2002، مُرسل من الروائي للباحثة.
[7] جبريل، حكايات عن جزيرة فاروس، مرجع سابق، ص 75.
[8] جبريل، مصر المكان، مرجع سابق، ص 11.
[9] جبريل، محمد، الأسوار، ط2، مكتبة مصر، الفجالة، 1999، ص 63.
[10] جبريل، الأسوار، ص 60.
[11] جبريل، المينا الشرقية، ط1، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2000، ص 40، 41.
[12] جبريل، قاضي البهار ينزل البحر، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989، انظر ص 9-32.
[13] جبريل، الصهبة، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990، ص 10.
[14] جبريل، النظر إلى أسفل، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992، ص 8 و9.
[15] مجدي أحمد توفيق، التداعي والنظام في "رواية النظر إلى أسفل، الثقافة الجديدة، ع 49، القاهرة، 1992، ص 56.
[16] جبريل، الشاطئ الآخر، ط2، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002.
[17] جبريل، زمان الوصل، ط1، مكتبة مصر، الفجالة، 2002.
[18] جبريل، نجم وحيد في الأفق، ط1، مكتبة مصر، الفجالة، 2001.
[19] جبريل، رباعية حي بحري: أبو العباس، ط1، ج1، مكتبة مصر، الفجالة، 1997، ياقوت العرش، ط1، ج2، مكتبة مصر، الفجالة، 1997، البوصيري ط1، ج3، مكتبة مصر، الفجالة، 1998، علي تمراز، ط1، ج4، مكتبة مصر، الفجالة، 1998.
[20] جبريل، علي تمراز، ص 7.
[21] المصدر السابق، ص 13.
[22] جبريل، ياقوت العرش، ص 34.
[23] جبريل، علي تمراز، ص 216.
[24] جبريل، قاضي البهار، ص 27، 28.
[25] المصدر السابق، ص 67.
[26] جبريل، الصهبة، ص 38.
[27] المصدر السابق، ص 86.
[28] جبريل، النظر إلى أسفل، ص 30.
[29] المصدر السابق، ص 60، 61.
[30] لبيب، حسني سيد، روائي من بحري، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2001، ص 108.
[31] جبريل، قاضي البهار ينزل البحر، ص 105.
[32] جبريل، أبو العباس، ص 71، 72.
[33] المصدر السابق، ص 207.
[34] جبريل، أبو العباس، ص 210-211.
[35] جبريل، علي تمراز، ص 229.
[36] جبريل، نجم وحيد في الأفق، ص 26.
[37] المصدر السابق، ص 31.
[38] المصدر السابق، ص 42.
[39] المصدر السابق، ص 50.
[40] المصدر السابق، ص 59.
[41] جبريل، أبو العباس، ص 200.
[42] المصدر السابق، ص 200.
[43] جبريل، نجم وحيد في الأفق، ص 84.
[44] المصدر السابق، ص 86.
[45] الشرقاوي، حسن محمد، ألفاظ الصوفية ومعانيها، ط2، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، د.ت ص 5.
[46] جبريل، أبو العباس، ص 105، 106.
[47] انظر جبريل، أبو العباس، ص 41، والآيات القرآنية الكريمة: البقرة، 286، والأحزاب، 56.
[48] جبريل، أبو العباس، ص 53.
[49] انظر، جبريل، ياقوت العرش، ص 125.
[50] انظر، جبريل، أبو العباس ص 136-137، 192، 193، 234، ياقوت العرش، ص 109 و 242-243، والبوصيري، ص 155-156، علي تمراز، 170-171، 184-185.
[51] جبريل، البوصيري، 16، 17.
[52] انظر، جبريل، أبو العباس، ص 122-184، والبوصيري، صاحب البردة، ص 30.
[53] جبريل، أبو العباس، ص 23.
[54] المصدر السابق، ص 23.
[55] المصدر السابق، ص 23.
[56] المصدر السابق، ص 73.
[57] جبريل، أبو العباس، ص 82، 83.
[58] جبريل، ياقوت العرش، ص 152، 153.
[59] جبريل، إمام آخر الزمان، ط2، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1998.
[60] جبريل، إمام آخر الزمان، ص 196.
[61] جبريل، من أوراق أبي الطيب المتنبي، ط2، مكتبة مصر، الفجالة، 1995.
[62] المصدر السابق، ص 14، 15.
[63] المصدر السابق، ص 115.
[64] جبريل، قلعة الجبل، ط2، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000.
[65] الحمامصي، محمد أحمد، تجليات المكان وتطور الوعي، دراسة في قلعة الجبل، الثقافة الجديدة، يونيو 1991، ص 76.
[66] جبريل، قلعة الجبل، ص 68، 69.
[67] جبريل، الخليج، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.
[68] جبريل، بوح الأسرار، ط2، دار الهلال، ع 618، القاهرة، 2000.
[69] جبريل، المصدر السابق، ص 109.
[70] جبريل، اعترافات سيد القرية، ط1، دار الهلال، ع 546، القاهرة، 1994.
[71] المصدر السابق، ص 11.
[72] جبريل، زهرة الصباح، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995.
المصـادر والمراجـع
بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، ط1، المركز الثقافي العربي، 1990.
تبرماسين، عبد الرحمن، جماليات مد الموج، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، غير منشور، 2002.
توفيق، مجدي أحمد، التداعي والنظام في "رواية النظر إلى أسفل، الثقافة الجديدة، ع 49، القاهرة، 1992.
جبريل، محمد، حكايات عن جزيرة فاروس "سيرة ذاتية"، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 1998.
جبريل، محمد، قاضي البهار ينزل البحر، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989.
جبريل، محمد، الصهبة، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990.
جبريل، محمد، النظر إلى أسفل، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992.
جبريل، محمد، الخليج، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.
جبريل، محمد، اعترافات سيد القرية، ط1، دار الهلال، ع 546، القاهرة، 1994.
جبريل، زهرة الصباح، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995.
جبريل، من أوراق أبي الطيب المتنبي، ط2، مكتبة مصر، الفجالة، 1995.
جبريل، محمد، رباعية حي بحري:
أبو العباس، ط1، ج1، مكتبة مصر، الفجالة، 1997.
ياقوت العرش، ط1، ج2، مكتبة مصر، الفجالة، 1997.
البوصيري ط1، ج3، مكتبة مصر، الفجالة، 1998.
علي تمراز، ط1، ج4، مكتبة مصر، الفجالة، 1998.
جبريل، محمد، إمام آخر الزمان، ط2، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1998.
جبريل، محمد، حكايات عن جزيرة فاروس "سيرة ذاتية"، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1998.
جبريل، محمد، الأسوار، ط2، مكتبة مصر، الفجالة، 1999.
جبريل، محمد، بوح الأسرار، ط2، دار الهلال، ع 618، القاهرة، 2000.
جبريل، محمد، قلعة الجبل، ط2، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000.
جبريل، محمد، مصر المكان، ط2، المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 2000.
جبريل، محمد، المينا الشرقية، ط1، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2000.
جبريل، محمد، نجم وحيد في الأفق، ط1، مكتبة مصر، الفجالة، 2001.
جبريل، محمد، زمان الوصل، ط1، مكتبة مصر، الفجالة، 2002.
جبريل، محمد، الشاطئ الآخر، ط2، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002.
الحمامصي، محمد أحمد، تجليات المكان وتطور الوعي، دراسة في قلعة الجبل، الثقافة الجديدة، يونيو 1991.
الشرقاوي، حسن محمد، ألفاظ الصوفية ومعانيها، ط2، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، د.ت.
عوض الله، مها حسن، المكان في الرواية الفلسطينية، 1948-1988، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، الأردن، 1991.
لبيب، حسني سيد، روائي من بحري، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2001.
النصير، ياسين، إشكالية المكان في النص الأدبي، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986.
يوسف، شوقي بدر، ببليوجرافيا الرواية في إقليم غرب ووسط الدلتا، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1994.
= = =
* أعمال الروائي محمد جبريل مرتبة حسب تاريخ صدورها.
◄ سمية الشوابكة
▼ موضوعاتي