عمر طوسون - مصر
المنحوتات: بين الماضي والحاضر
يشكل الفن أساسا راسخا في وجدان المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ. بل إنه تخطى دوره العظيم في تسجيل حياة الأجداد الأوائل، بداية من نقوش الكتابة الأولى حتى تسجيل أدق تفاصيل حياتهم اليومية.
الفن التشكيلي تخطى ذلك الشكل التأريخي إلى أقصى درجات السمو التي تقاس بها اليوم حضارات الشعوب وثقافاتها بقدر اهتمامها بالفنون، ومنها الفنون التشكيلية التي تدخل بأشكال عدة في حياتهم. فبشكل مباشر تظهر في صورة منحوتات وتصاوير ومطبوعات وتجهيزات الفراغ والفيديو، وما إلى ذلك من أشكال الفنون البصرية. وتظهر بشكل غير مباشر في تصميمات المنتجات كالسيارات والسفن والطائرات وكل أشكال المنتجات البسيطة والمعقدة: من الإبرة إلى الصاروخ.
أي أن الفن لم يعد شكلا من أشكال الرفاهية الواجب توافرها في البلاط أو في قصور النبلاء والأثرياء. الفن أصبح ضرورة حياتية في المجتمعات المتقدمة، ومن الواجب أن نتابعها بعين فاحصة في محاولة للوصول إلى أهدافها ونتائجها وإلى أي مدى تستفيد المنطقة العربية من هذه التجارب.
وسنبدأ بدراسة ما يخص فن النحت الذي شهد أقصى درجات الرقي في منطقتنا العربية منذ عصور سحيقة، ولنا شواهد رائعة في معابد مصر، والعراق، وسوريا، والأردن، والسودان، واليمن وغيرها. ويقدر عمرها بآلاف السنين. أما ما يخص العصور القبطية والإسلامية فحدث ولا حرج حيث لا يكاد يخلو قطر عربي من روائع هذه الفترات. لكن ماذا عن اليوم؟
وجدت المجتمعات الأوروبية أن تكلفة إنشاء عمل نحتي ضخم من إحدى الخامات النبيلة كالجرانيت أو الرخام مكلفة للغاية. بل إن الفنانين أنفسهم أصبحوا يفضلون عمل منحوتات صغيرة الحجم حتى يسهل نقلها وتسويقها، فلجأوا إلى فكرة إقامة ندوات دولية للنحت بحيث يتم تحديد أحجام محددة كحد أدنى لارتفاع العمل، يتم بعدها نشر شروط المشاركة في الندوة، بصيغة مسابقة دولية يتقدم لها الفنانون من مختلف أرجاء المعمورة، ويتم اختيار أفضل عشرة مشاركين أو أكثر، حسب رغبة اللجنة المنظمة، على أن يكون هناك مشاركون من داخل الدولة المنظمة، حتى يستفيدوا من خبرات فناني العالم وتقنياتهم.
ما هي المكاسب من تنظيم حدث كهذا؟
إن تجهيز موقع عمل لعشرة فنانين أو أكثر يقلل كثيرا من تكلفة التجهيز لعمل واحد، حيث أن قيام فنان واحد بالعمل يتطلب جميع التجهيزات التي سيستفيد منها عشرة فنانين أو أكثر.
يحصل كل فنان دولي مشارك على بدل انتقال من وطنه وإلى موقع العمل وبالعكس، إضافة إلى إقامة كاملة ورحلات سياحية ومبلغ مالي رمزي كحقوق فكرية عن عمله. وبحساب كل التكلفة نجد أن تكلفة كامل الندوة ربما تساوي ثمن عمل واحد مما أنتج.
ويصحب الندوة عادة حفلا افتتاح وختام، وفعاليات ثقافية على هامش الحدث، مما يُحدث رواجا ثقافيا وزخما فكريا في المدينة موقع الحدث.
وتمثل هذه النوعية من الفعاليات الثقافية عنصر جذب لوسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، مما يشكل دعاية فعالة وراقية للجهة المنظمة للحدث.
ولأن هذه الفعاليات الثقافية الحية تستمر لمدد طويلة نسبيا، (أسبوعين إلى ستة أسابيع) فهي تمثل عامل جذب للمواطنين الذين يتفاعلون مع الحدث والفنانين بشكل أو بآخر، مما يرتقي بثقافتهم في الفن وقيمه. وبالطبع يؤثر بشكل إيجابي في سلوكهم مع بيئتهم.
وتعد هذه الندوات أحد أهم الأحداث التي يجتمع فيها فنانون من مختلف الثقافات والأجناس والعرقيات، ويعيشون سويا في مجتمع واحد لمدة ليست بالقصيرة، بل إنها كفيلة بتعرف كل منهم على ثقافة الآخر بشكل عميق، وتعد نموذجا لكيفية التعايش مع الاختلاف وسواد الفكر واحترام الآخر، وهذه الأخيرة تكفي للدلالة على أهمية هذه الأحداث.
إن عددا قليلا من الدورات كفيل بتكوين متحف عالمي يضاف إلى رصيد المدينة صاحبة التنظيم، مما يعود عليها بفوائد ترويجية وسياحية مستقبلية.