بدر الدين عبد العزيز: وداعا
ملف أعده موسى حامد
انتقل إلى رحمته تعالى في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، زميلنا في عود الند، بدر الدين عبد العزيز، القاص والروائي السوداني، بعد صراع مع المرض.
تتقدم عود الند لأسرة الفقيد ولأصدقائه وزملائه بأحر التعازي. إنا لله وإنا إليه راجعون.
الفقيد في سطور:
= من مواليد مدينة ملكال بجنوب السودان.
= حائز على الجائزة التقديرية (الجائزة الثانية) في مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الخامسة عام 2007 عن روايته أبقار ديتانق الجميلة.
= له مخطوطات روائية وقصصية كلها للأسف غير منشورة بعد.
= عضو المكتب التنفيذي بنادي القصة السوداني، والمشرف على الورشة المستمرة للقصة القصيرة بالنادي.
= توفي بعد معاناة طويلة مع مرض السكر في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2009.
وبمزيج من الأسى والاعتزاز تنشر عود الند في هذا العدد ملفا خاصا بالزميل الفقيد، أعده موسى حامد، المحرر الثقافي في صحيفة رأي الشعب السودانية.
يضم الملف الموضوعات التالية:
مقتطفان من كلمة رثاء ومقابلة: موسى حامد.
كلمة رثاء: هادي راضي.
طالع نصوص الفقيد المنشورة في أعداد مختلفة من المجلة.
شكة دبوس صدئ في القلب
موسى حامد (*) - السودان
(*) المحرر الثقافي في صحيفة رأي الشعب السودانية. مقتطفان من موضوعين نشرا في الملف الثقافي للصحيفة. ويعاد نشرهما في عود الند بموافقة مسبقة.
شرقتُ بالدمعِ وشرق بي صباح أول الأمس، وأحسست بحزن يخترم قلب القلب ويفت منه العضد وأنا أقرأ رسالة الهادي راضي الموغلة في الاقتضاب "اطلبْ الرَّحمةَ والمغفرة لبدر الدين عبد العزيز." ودخلت في حالة لم أدرها ولم أكشف كنهها، ولازمتني حتى وأنا أكتب الآن. وبين رغوة حامضة تصر على أن تظل راكنة في الحلق ولا تنفك راكنة، ودبوس صدئ وحقود ينشكُّ في القلب ويزيد، بكيت طويلا وسال الدمع أخو الدمع، وانهمر غزيرا كأن لا يريد التوقف حتى توَّرم القلب وتقيَّح، وأحسست بروحي تستحيلُ إلى شظيات أو نُتف. لشدَّما أحزنني هذا الفراق أيها الإنسان النبيل، إذ ليس بالأمر الهين والسهل أن تتلَّقى كهذه أنباء في هذه الأيام التي لم تحمل غير النحس ومتلازماتِ أغربة البينْ، وليس من المحتمل على إطلاق الأمر أن ينقل إليك وأنت غير مهيأ وببساطة أنَّ بدر الدين عبد العزيز، طلق المحيا، صاحب القلب الأبيض، والبسمة الرفرافة قد رحل.
(...)
الرحمات والمغفرات لروحك عند الله، وفي عليين تهفهف بها أجنحة طير خضر في الجنان، ونسأله بنقاء سريرتك وبياضها غسولا بماء وثلج وبرد، وببهاء ابتسامة مطبوعة على وجهك، الحسنات والحسنات. ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا جد محزونون لفراقك.
مقتطف من مقابلة مع بدر الدين عيد العزيز
فيما يلي مقتطف من مقابلة أجراها موسى حامد مع بدر الدين عبد العزيز بعيد حصوله على المركز الثاني في مسابقة جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي عام 2007، التي نظمها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي في السودان.
ج: اسمي بدر الدين عبد العزيز بلال، كان ميلادي بمدينة ملكال التي كانت تتبع لولاية أعالي النيل سابقا، ونشأت فترة من حياتي هناك. والآن أنا في أم درمان، فأنا مقسوم بين هاتين المدينتين كما قلت من قبل.
س: تكتب في أكثر من جنس إبداعي. كيف توازن بينها؟ أيها ينازع الآخرين؟
ج: حقا بدأت شاعرا ثم تمرحلت في رحلتي مع الكتابة الإبداعية —كما أسميتها— فكتبت القصة القصيرة متزامنة مع الشعر. أيضا لي بعض المحاولات في كتابة الرواية، ولكن كلها كانت بدايات. ومن ثم انقطعت أو توقفت عن الكتابة لسنين عديدة، ثم بعدها عدت مرة أخرى لكتابة الشعر، ونشرت العديد من النصوص الشعرية بجريدة العرب الدولية بين عامي 1994 و 1996م. لكن في الحقيقة فقد سرقتني القصة القصيرة والرواية من الشعر، أو ربما تخلى هو عني، أعني الشعر. أما القصة القصيرة والرواية فهما تتنازعاني، ولا أدري حتى الآن مع أي منهما سأستقر.
س: ماذا يعني لك الفوز في هذه المنافسة؟
ج: الفوز بهذه الجائزة يعني لي الكثير، ويكفي ما منحني من شعور بالسعادة، وبما أنني لم أستطع إصدار كتاب لأي من مخطوطاتي العديدة، جاء الفوز ليمنحني الأمل، وجعلني أحس بأن الفرصة ممكنة، ويمكنها أن تأتي في أي زمان، فقط الصبر والمثابرة، وكما يقولون فإن المشوار يبدأ عادة بخطوة.
س: دعنا نتعرف على أجواء الرواية.
ج: يستند النص إلى نظرية من نظريات علم الاجتماع، وهي نظرية التغيير الاجتماعي، فالنص يتناول الصراع الديني والثقافي داخل الفرد في المجتمعات المحلية، تلك التي تعاني ثقافاتها الخاصة ولغاتها المحلية ودياناتها المحلية أيضا من الاندثار والتلاشي كنتيجة للتغيير الاجتماعي كما أسلفت. ومن المعروف أن التغيير الاجتماعي يكون أسرع داخل الفرد، لأن الفرد عادة يتمسك بموروثاته أكثر لمقاومة التغيير. لذا نجد أن معظم المشاهد التي يحتويها النص هي مشاهد لصراع نفسي يدور بذهن البطل، تشكل ملحمة من المعارك القتالية الضارية والحوارية بينه وبين الآلهة المحلية التي تمثل أهم رموز الثقافة الدينية لإحساسه بعجزها على مقاومة التغيير الاجتماعي الجاري في المجتمع. لكن بالرغم من مقاومة البطل للتغيير الاجتماعي ظاهريا إلا أنه بتجرئه على محاربة رموز ثقافته الدينية (الآلهة) أكبر دليل على تغيره هو نفسه، والنص يتقدم في هذا الإطار على مستويين: المستوى الأول يمس الواقع مسا عبر نقاط محددة. والمستوى الثاني يجنح كلية باتجاه الخيال الى ان ينطبق الواقع على الخيال في نهاية النص، وبذلك يكون البطل قد فقد كل قدراته العقلية.
س: لماذا لم يظهر لك حتى الآن كتاب بالمكتبات على كثافة كتاباتك وتعدد اتجاهات الكتابة كذلك؟
ج: حقيقة لم أقصر، فقد تقدمت إلى عدد من دور النشر، ولكن وقفت المادة حائلا بيني والنشر، وأتمنى أن تنفرج هذه الأزمة قريبا في هذا البلد، فدور النشر تخاف من التعامل مع المغمورين، وهذه هي الكارثة.
هل يكتب الدمع؟
هادي راضي (*) - السودان
(*) عضو اللجنة التنفيذية بنادي القصة السوداني، وصديق الفقيد بدر الدين عبد العزيز.
تصعُب الكتابة حيث يتعلَّق الأمر بشخص تُحبه. ما أصعب إقناع الذَّات بأنَّ من تُحبه وتُريد أن تكتب عنه قد رحل! حاولت الكتابة عن بدر الدين ولم أقدر. أحد الأصدقاء اقترح عليَّ أنْ أجلس أمام لوحة مفاتيح الحاسوب وأمامي صفحة برنامج وورد. قاطعته بقولي إنِّي لا أُحبِّذ الكتابة على جهاز الحاسوب. قال إذن أحضر ورقة وقلما وأبدأ الكتابة من أول خاطرة تلوح لك.
ها أنذا أفعلُ ما نصحَ به الصديق مُحاولا الكتابة عن شخص غادر الحياة إلى الأبد. لكن ما لي أراه الآن أمامي مُبتسما، ضاحكا، قارئا، ماشيا، مُنشغلا بتفاصيل لوحة في معرض تشكيلي، مُتحدثا حول دافنشي ولوحته (الجيرونيكا)؟ كانت إحدى الأعمال الفنيَّة الأثيرة لديه، وكان يعتبرها أفضل نموذج يُجسِّد معنى أنْ يُوظف المبدع فنَّه وإبداعه في توثيق الأحداث التاريخية. وكان يُشبِّهُ الثور في اللوحة بنظام حكم راهن يعمل على تكسير بنيات المجتمع وإعادة صياغته وفق أيديولوجيته الأُحادية. وفي هذا السياق كان يتساءلُ: ما دورنا إذا لم نستطع أنْ نُعبِّر عن قضايانا من خلال ما نكتُب؟
بنى مشروعه الإبداعي تأسيسا على ذلك التفاؤل، مُراهنا على قدرة الأدب على الحفاظ على الثقافات المحلية في وطنه – يبدو أنَّ نصيحة الصديق قد أثمرتْ فها هي الخاطرة تتداعى – لكنَّ أيهما أختارُ أولا؟ هل أسرد تفاصيل الجُرح الذي كان سببا في قذفهِ نحو أُتُونِ الألم والمعاناة ثم الموت؟ أم بحكاية عصافير الزِّينةِ في بيتهم، تحديدا ذلك العُصفور الذي كان يُغرِّد بنغم مُعيَّن لحظة قدوم بدر الدين إلى البيت من رحلة عمل أو زيارة؟ كان يُعلِّقُ حول هذا الأمر بأنَّ العلاقات بين الكائنات في الكون لا حاجز يمنعُ تواصلها إذا ما استخدم الإنسان آلياته الإنسانيِّة تجاه خلق علاقة تواصلية مع أي كائن.
تُرى بماذا أبدأ؟
حسنا، سأبدأ بتفاصيل الجُرح اللئيم. كان ذلك في اليوم الثالث من عيد الأضحية من العام الماضي، 2008م، حيث اتفقنا أنْ نلتقي في موقف المواصلات العامة (موقف جاكسون بالتحديد). كان قادما من أمدرمان وأنا من حي الرميلة بالخرطوم. كان الهدف من اللقاء زيارة أهله بـحي السلمة. التقينا، وأخبرني يومها أنِّ الحذاء الجديد قد تسبَّبَ في جرح قدمه اليمنى. بعد ذلك بشهرين هاتفني يوما وقال إن الجرح قد تواطأ مع مرض السكر اللعين، واستمرأ عملية الانتشار والتمدد في الرجل. ومن هنا بدأت المأساة، ثم تفاقمت ببتر الرجل في الشهر الخامس من تاريخ بداية الجرح. واكتملت المأساة في الخامس عشر من نوفمبر 2009م برحيله. المأساة هنا مأساتنا.
وثمة خاطرة أخرى، لكن عفوا: هل يكتب الدمع؟