عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سعاد العنزي - الكويت

جدلية المثقف والإرهابي (*)

في روايات العشرية الحمراء في الجزائر


(*) موضوع يعتمد على كتاب صدر حديثا بعنوان صور العنف السياسي في الرواية الجزائرية المعاصرة: دراسة نقدية. العشرية الحمراء فترة امتدت عشر سنوات وشهدت عنفا إثر تدخل الجيش عام 1991 وإلغاء العملية الانتخابية ونتائجها، وكانت جبهة الإنقاذ الإسلامي على طريق الفوز بالأغلبية.

.

جدلية المثقف والمتطرف

هو المثقف في كل زمان ومكان محارب ومعنف من قبل رموز الجمود والتخلف والضلال. إن حاول التنوير، أودى بأمن حياته إلى الجحيم، وإن آلا السكون والركون، فكيف لعوالمه الروحية والفكرية أن تصمت وتذعن لتحديات الوجود؟ المثقفون الجزائريون الذين تم عرضهم في المتون الروائية، ينقسمون إلى قسمين: المثقف السلبي أو اللامنتمي، والمثقف الإيجابي.

=1= المثقف السلبي أو اللامنتمي

توافرت في الروايات صورا للمثقف السلبي أو اللا منتمي أولا، هذا مع التأكيد على ندرته في النماذج الروائية، وهو فيما يعرفه محمد عزام، إذ يبدأ في التفريق بين اللامنتمي والسلبي فيقول: "وأما السلبي واللامنتمي فيتشابهان في كونهما بلا قيم. وقد يكتفي اللامنتمي بالوقوف على الحياد، بينما يقع السلبي في مستنقع القذارة، وينغمس في حياة الغاب، تقوده أنانيته إلى الفتك بالآخرين، والصعود على جثث الأبرياء. وهو بطل العصر الصاعد من رحم الطبقات الفقيرة التي لا تملك غير بؤسها، والذي يرغب في الوصول السريع"(1).

سعاد العنزيوهذا الأمر تم كشفه في المتون الروائية الجزائرية، من أبرزها وأكثرها وضوحا شخصية أحمد المعلم في رواية "وادي الظلام"، إذ بدأ بالرواية معلما مثقفا نشيطا مجتهدا، يعمل على نشر الوعي والثقافة، ومؤسس جمعية حقوق المرأة في مجتمع غيبت به حقوق المرأة، وعوملت على أنها مخلوق مسلوب الإرادة والكيان. كل هذا الجهد من أحمد المعلم، يقابله نبذ من المجتمع، إذ يقرر شيوخ المشيخة العليا إنه: "شروط الشيخ المعين في المشيخة ألا يكون إلا أميا خالص الأمية"(2)، والدليل على ذلك أنه "لا يعرف نبيا من الأنبياء الكبار كان متعلما مثقفا"(3).

في وسط هذه القيم يستمر المعلم بالكفاح، وبنشر قيمه الروحية، نابذا القيم المادية، داعيا إلى رسالته الإنسانية، يربي ابنته عائشة على حب العلم والاستمرار في التحصيل العلمي. إلى أن تتوجه نظرات المتطرفين وأميرهم أبي هيثم نحو المعلم لأنه: "كثيرا ما يثور على الأوضاع الاجتماعية المتخلفة، كما كان لا يتردد في إبداء رأيه في بعض المعتقدات البالية، التي يروجها الجهال في الجلولية على أنها من الدين الصحيح وهي، في حقيقتها، ليست منه في شيء. ولذلك لم يسلم في أعوام الفتنة من التعرض لمحاولة اغتيال"(4)، فيحاول الإرهابيون إطلاق النار عليه، ولكنه ينجو من الموت بأعجوبة.

هذه الحادثة تعتبر نقطة التحول في حياة الأستاذ، فتنهار منظومة القيم التي كان يؤمن بها، ويتحول من بطل فاعل إلى بطل سلبي لا يهتم إلا بنفسه، ويبدل قيمه القديمة بقيم جديدة قيم المرتزقة الذين لا يعتنون إلا بالمصالح الذاتية لهم، فيتحول من الشخص المحب لأسرته المحافظ إلى منزله إلى آخر يبيع ويفرط بقيمه الروحية بسهولة فأول ما يفعله ترك مهنة التعليم، والاشتغال في التجارة، والزواج بامرأة أخرى غير زوجته فتاة صبية.

وهذا التحول المفاجئ يلفت نظر القارئ بغرابته، فليس من المعقول أن يكون العهد الطويل من القراءة والاطلاع، والدفاع عن حقوق الإنسان ونبذ القيم المادية، يتغير في لحظة واحدة، هذا أمر بعيد عن التصديق يستطيع المرء أن يفهم أن الإنسان يتحول من مناضل إلى متحفظ، ولكن أن تتبدل قيمه بهذه الصورة الفجة، فهذا أمر غير مقبول. إلا أن المؤلف قصد من هذه المبالغة توضيح مدى فجاجة العنف والإرهاب على المرء، وكأنه يقول إن ما حدث له دور في تغيير وقلب الأدوار، وتغييب المنطق.

أما الشخصيات الأخرى التي تعرض لها الروايات من حيث سلبيتها في التعاطي مع الأحداث، فهي شخصيتا علي وكريم في رواية الورم، إذ كلاهما ينتسب لثقافة عميقة، تؤمن بحقوق الإنسان ويرفضان العنف بأي وجه من الوجوه. فكريم معلم وبنفس الوقت مناضل ومنتسب إلى التيار الإسلامي المعتدل ويرفض القتل بأي صورة من الصور إلا إنه بعد الخروج من السجن وانسداد أفق الحياة لديه، فصله من المهنة والفراغ والوحدة والبطالة، وعامل أهم من هذا كله وهو ملاحقة الإرهابيين له، ومطالبته بالانضمام إلى الحقل الإرهابي، وأول طلب طلبوه منه هو قتل صديقه وزميله محمد يوسفي الصحفي، فيرفض أول الأمر ولكنه يكون بين خيارين، إما قتل صديقه أو موته، فيختار النجاة، ويقتل صاحبه وينضم إلى حقل الإرهاب. وهذا الأمر يثير الدهشة لدى شخوص الرواية فيقول أحدهم لكريم: "أأنت المعلم الذي ذبح الصحفي؟ إنك مجنون. لماذا ذبحته بتلك الوحشية؟ ألم يكن صديقك؟ أنت المعلم المربي المثقف، تسير تحت سلطة هذا الجاهل"(5).

والغريب إن الرواية تنتهي وينتهي معها كريم إلى قناعة تامة في الأفعال الإرهابية، بل ويطمح في أن يصل إلى رتبة أمير، فيقول: "بدون كلمة. اقتفيت أثر أميري يزيد الحرش. متبوعا بعبد اللطيف. إنني مسرور جدا بهذه الترقية. إنها البداية. أنا أيضا أرغب في رتبة أمير يقود جماعة من الرجال الأشداء ينصاعون لأوامري. قريبا إن شاء الله"(6).

أما علي أخو كريم فهو ضابط في الجيش، ولكن حادثة حجز أخيه أثرت على مستقبله المهني، ففصل من عمله، وبذلك يلاحظ أن المثقف قد لعب أدوارا سلبية في مجتمعه، وبدلا من أن يجعل مخزونه المعرفي والقيمي سبيلا لإعلاء كلمة الحق وبناء المجتمع، جعله سبيلا وطريقا للهدم والدمار. هل هو حب الذات هو الدافع وراء ذلك؟ أم أنهم كانوا أمام وضع مأساوي يسلبهم الإرادة ويشل تفكيرهم؟

ولسان حاله يردد شعارا: "لا تفكر في الإصلاح. قبلك عجز الأنبياء عن هذه المهمة، صلبوا المسيح، وعذبوا محمدا، وأحرقوا كبار العلماء والمفكرين في كل العصور. والعصر ليس بحاجة إلى مسيح جديد"(7).

=ب= المثقف الإيجابي

يلي هذا النموذج من المثقفين، أي المثقف السلبي، نقيضه ألا وهو المثقف الإيجابي، المثقف الفاعل المصلح المغير، وهذا هو الوضع الصحيح لأي إنسان قبل أن يكون مثقفا وواعيا لدوره في الحياة. وحقيقة جميع من خسروا حياتهم، وكثير من أحلامهم وطموحاتهم. والتركيز في العنف كان من نصيب الصحفيين بوصفهم فئة من المثقفين الملتزمين، الذين ناضلوا من أجل توصيل الحقيقة، وهذا الأمر كلفهم أرواحهم في أغلب الأحوال.

وقد عرضت مجمل الروايات لجدلية الصحافة والإرهاب، فالإرهابي أكثر ما يكدر صفوه هو الصحفي، لأنه ينقل أخبار ضحاياه ويوضح مدى بشاعته، ولذلك كان يشكل حجر العثرة الذي يتعثر به الإرهابي.

والمتأمل جيدا في الروايات يجد رواية متاهات ليل الفتنة لاحميدة عياشي، يتضح فيها التركيز على ضحايا الإرهابيين من الصحفيين، كما تعرض لمحاولات الاغتيال التي تعرضوا لها. وتبدأ أحداث العنف عندما يقرر حميدو أحد شخصيات الرواية الدخول في حقل الكتابة ضد الإرهاب، فــ "جماعات الإسلام السياسي أصبحت هاجسه الأول"(8). بل إنه يزور الموت في قعر داره، فيزور بلد الموت التي تكن العداوة للصحفيين ماكدرة. "ماكدرة أسوأ من العاصمة، الناس هنا كلهم يعرفون. كل الناس تعرف في ماكدرة أنك صحفي. في العاصمة لا يعرفون كلهم"(9).

وبالتالي كانت النتيجة أن قتلوه بوسيلة شنيعة. "ظل أبو يزيد يصرخ تعرف من أنا؟ هل تعرف من أنا ياطاغوت؟ كأنه لم يسمعه ظل شامخ الرأس. صامتا إلى حد الشراهة. ظل واقفا كالطود الأسطوري التفوا حوله طرحوه أرضا وبجروه. فصلوا رأسه عن جسده وظل الدم يسيح في عتمة ذلك الليل الطويل تعالت الأصوات طاغوت"(10).

هذه كانت عاقبة السعي وراء الحقيقة، القتل بأبشع صور الوحشية. كما تتجسد هزيمة المثقف في حواره مع نفسه، فاحميدة يناقش نفسه كما ناقش المعلم أحمد في رواية وادي الظلام قائلا: "ما معنى أن يكتب المرء في مجتمع لا يقرأ، بل تحكمه ديكتاتورية.

= = =

الهوامش

(1) عزام، محمد (1992). البطل الإشكالي. دمشق: الأهالي للنشر والتوزيع. دمشق: الطبعة الأولى، ص 12.

(2) رواية وادي الظلام، ص 15.

(3) الرواية، ص 16.

(4) الرواية، ص 80-81.

(5) رواية الورم، ص 205.

(6) الرواية، ص 294.

(7) عزام، محمد (1992). البطل الإشكالي. دمشق: الأهالي للنشر والتوزيع. دمشق: الطبعة الأولى، ص 12.

(8) رواية متاهات ليل الفتنة، ص 11.

(9) الرواية، ص 23.

(10) الرواية، ص57.

= = =

JPEG - 16.7 كيليبايت
غلاف كتاب سعاد العنزي

صور العنف السياسي في الرواية الجزائرية المعاصرة: دراسة نقدية

المؤلفة: سعاد العنزي

الناشر: دار الفراشة (بيروت).

عام النشر: 2009.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2010     A سعاد العنزي     C 0 تعليقات