سليمة لوكام - الجزائر
من أندريه مالرو إلى غادة السمان
من أندريه مالرو إلى غادة السمان: إياك أن تلتقي بكاتبك المفضل
كنت ولا زلت حين أقرأ كتابات غادة السمّان ينتابني شعور بالحميمية غريب، وإحساس بالتوازن مدهش وممتع في آن، يغمرني وهم امتلاك حروفها فيقذف بي في يمّ التماهي، ويلقي في ساحل اليقين.
هكذا كانت بالنسبة إليّ هذه القراءات الكتابات منذ أن كــبرت معي وكبرتُ معها، شرعتُ في قراءتها في نهاية العقد الثاني من عمري، وظلت ترافقني وأرافقها، وها قد ذرّفتُ على الأربعين.
ظللتُ مع حروف غادة أقلّبها على وجوهها، أحاورها وأداورها، منذ أن سهرنا في «ليل الغرباء» وأدركنا أن «لا بحر في بيروت» فعمدت إلى «ختم ذاكرت –ي- بالشمع الأحمر» وذهبتُ لـ«أعتقل –معها- لحظة هاربة»، وأصختُ السمع لـ«صفارة إنذار-ها- داخل رأسي»، وسافر جسدي في «حقيبة سفرها»، واحترستُ لئلا تزلّ قدمي عند «رحيل المرافئ القديمة»، وامتلكتُ جرأة خرافية حين «أعلنتُ الحب» على الجميع، وتنبّأتُ مع «خاتون البصارة» في «بيروت 75»، وبتُّ أراقبُ عن كثب كيف تمّ وضع لافتة «مستشفى المجانين» بدل لافتة بيروت، ودخلتُ في أتون الحرب اللبنانية، وتلازمني الكوابيس، وأنتظر خروجي في المصفحة، مع الكاتبة التي أحبت يوسف وانتظرته، بل إنني كنت من تلك القبيلة التي استجوبت، لكن بصمت، القتيلة ذات يوم، حين احتفظتُ بأسئلتي، ووجدتُ نفسي أجيب عنها لما تملّكني ذلك الشعور الغريب المدهش الممتع.
ثم قرأتُ وقرأتُ، وكل مرّة كانت غادة تضخّ في قناعاتي المختلفة عن قناعاتها، دم التمرّد على السطحي والعابر، تهزّ سواكني المتنافرة مع شطحاتها بالثورة ضد الرؤوس الخاوية بقبعاتها الأرستقراطية. سخرتُ معها من سيدات المجتمع المخمليّ ذوات الوجوه الممسوحة الملامح، والأجساد المغيّبة التقاطيع، والعقول المهاجرة دوما صوب جزر الجليد المتجمد، صاحبات شالات الفرو الفاخر، وشاليهات الاستحمام الصيفية والشتوية المجهزة بضروب الوسائل المكرّسة لتبليد الحواس، وتكليس العقول، وتعطيل أجهزة التفكير والتدبير.
ثم قرأتُ «القلب العاري ... عاشقا»، أعدتُ قراءته، تفرّستُه، مسحته جيئة وذهابا، جعلت أمرّرُ عينيّ بين الكلمات والرموز والنقاط والحروف لعلّي أعثر على ما يردّني على أعقابي مخطئة، أو يغريني بالعدول عن تصديق فكرة بدأت تشق طريقها إلى عقلي، وتتسلّل على انتباه منّي إلى نفسي الأمّارة بالتغاضي والإغضاء.
وانتفضتُ: ليس في وسعي الصمت وقد حاولتُ، ولا غض الطرف وقد سعيتُ، وملأتني قناعة مفادها: إنّ عليّ أن أكتب، فإن كانت القراءة، متى ما أُدمنتْ، داء لا يرجى بُرؤه، ولا يدفع بلاؤه، فإن الكتابة، إذا ما استحكمتْ، صارت قضاء لا يردّ.
بهذا المزاج شرعتُ أكتبُ عن «القلب العاري ... عاشقا» الذي ألفيتُ فيه غادة تقتصد وتتقصّد. أهو عري القلب يختزل القول ويدحره؟ أهو النص الومضة، أم القصيدة؟ وعهدي بغادة لا تحفل بالتمسح بأردية دارسي الأدب وتصنيفاتهم الأكاديمية.
لم تُعرّ غادة قلبها إلا بعد أن احتجب ساكنه عن الأنظار، لم تعلن عشقها إلا بعد أن اختار عاشقها ومعشوقها الغياب والتواري، بعد أن صار ذكرى، بعد أن ...
وقر في نفسي أنّ غادة تستمرئ ذلك، فقد أحجمتْ قبل هذا عن تحرير عاشق من إسار الذاكرة وعتمة الغياب إلّا بعد أن اطمأنّتْ إلى لا رجوعه، إلى رحيله الأبدي. كان ذلك مع رسائل حب غسان كنفاني التي هزّتْ ضمائر، وأبكتْ عاشقين، وأشجتْ حالمين.
في «القلب العاري ... عاشقا»، تمّ الإفراج وتكشّف المخبوء، بدءا من الغلاف الخارجي. كنتُ أعلم أن غادة تختار، وبعناية فائقة، اللوحات الفنية للغلاف الأمامي لكتبها، بما يتواءم مع منظورها وتوجهاتها. كما كنت أمعن النظر في صورها الفوتوغرافية التي تضعها على الغلاف الخلفي لكتبها، وهي عادة درجتْ، إلا في القليل النادر، على تثبيتها: لوحة على الغلاف الأمامي وصورة فوتوغرافية على الغلاف الخلفي، إنها طقوس الكتابة والنشر عندها.
في «القلب العاري ... عاشقا» تقف غادة في صورة، وتعلن في صفحة الغلاف الداخلي عن اسم ملتقطها «بشير الداعوق»، وتصرّح بعنوان مكان الوقوف: فندق «بيفيو» (Bay View) في بيروت.
نظرتُ في الصورة، وشعرتُ بضيق وتململ، وتمنيتُ لو أنّها لم تضف ذلك التوضيح، وولجتُ عتبات النص، ووجدتُ الإهداء باردا متجردا، عاريا كقلبها، بدا لي عتبة عورة، تستحثُّ هذا «النحيل الراكض» على الصفحات لا يلوي على شيء، أبى أن ينقاد على الرغم من الإغراء الذي مارسته عليّ العتبات إلى حدّ الآن، وانفجرتْ في رأسي أسئلة تتدافع في سبيلها إلى الخروج عبر أنفاق الهمس والجهر. أليست هذه غادة التي تشرّبت حروفها حتى الثمالة؟ ألا زلت تصرّين على أنها يجب أن تبقى متمردة في صدق، ثائرة في تروّ، عنيفة في رقة، جموحا في تغنج، عصية في التزام كما كانت؟
هل قصم غياب الصديق العشيق الزوج ظهر التوهج فيها؟ وأطفأت الاستجارة بالذكرى عندها شموع الألق؟ وتهاوى توثب الروح أمام معاول الأيام؟ ماذا أفعل؟ أأتساءلُ أم ألاحق المبررات أطلبُها لتبرر لي وترافع عنها؟
في «القلب العاري ... عاشقا» تتباهى غادة بثياب «شانيل» و«ديور» الفاخرة: «فجأة تبدو لي ثياب شانيل وديور في خزانتي» (ص 10)، وبمعاطفها المخملية (ص 85)، وسكنها في البيت الباريسي المطلّ على نهر السين، ونزهتها في «برج إيفل» و«الحي اللاتيني» و«مونتمارتر» و«الشانزيليزيه» وغيرها من المعالم السياحية الباريسية المرفهة، والأحياء الراقية.
إنها تحب كل ذلك، وتجد متعة في تعداده: «وبرج إيفل، وقوس النصر، والحي اللاتيني وكاتدرائية الساكريكور في مونتمارتر. كم أحب باريس من نافذة وكري التبويمي الشاهق... وأنا أتأمل برج إيفل، وجزيرة البجع التي تتوسط نهر السين قبالتي» (ص 104).
هذه غادة الوعي والثورة والتمرد، هذه غادة البسطاء والكادحين والمسحوقين، هذه غادة التي انصاعت بل التزمتْ لمّا نصحتْنا ذات مرة أو حذرتْنا ناصحة، لا أدري الآن بالضبط، فقالت: إياك أن تلتقي بكاتبك المفضل، فقد يخذلك، قالت غادة ذلك، وهي تذكر بأسى كيف رأت الكاتب الثوري المناضل الفرنسي أندريه مالرو وهو يضع كلبه المدلل على كتفه.
ليس في الصورة على ما يبدو ما يشي بخذلان، ولا ما يشفّ عن مخادعة، لكن غادة التي أعجبت بمالرو واستمدّت من نضالاته عبرة، وسرى نسغ ثوريته في مواقفها، لم تستسغ أن يظهر مالرو بمظهر المرفهين، ولا أن يسلك مسلكهم في الحياة.
وبعد، فإن كنت من محبّي حروف غادة، فلا تقرأْ هذا الكتاب، بل اقرأه، ففي «القلب العاري ... عاشقا» توقّعتْ غادة قارئا حسن الظن، بثّـته شجنها وأطلعته على وضعها، وتوسّمت وتخيّلتْ متلقيا متعاطفا، وهمست له ببعض ما صار إليه حالها من أثر الفقد، وقرأت بحسها المرهف جدا جدا ما في عيون كائنات لا تعرفها، ولكنها تتراءى لها عبر السطور مستفهمة حينا ومؤنّبة أحيانا أخرى، فأجابتها، وأزاحت الغلالة التي غمّت عليها، وتنبّأت بإعراض مصحوب بمرارة من هزم مع الجمع وولّى الدّبر، فدافعت ورافعت وبرّرت وسوّغت.
وها هي «حفيدة سنمار»، وقد راق لها أن تنعت نفسها به، تعلن وفاءها وبقاءها على عهد الشغب، وتنسف قول من حرّض على هجر كتابها، وراهن على نكوصها:
«لم تتكسّر دمشق الطفولة والمراهقة في قلبي، وتلك الصبية المجنونة في أعماقي، الصبية التي تشاجرت مع مدينتها الأم شجار العشاق، وما زلت مشاغبة جارحة ومجروحة بنصل شاميّ غابر لم يتكسر بنصال أخرى ...عاشقة بيروت ما زالت حيّة أيضا رغم نصال الحروب والحرائق والجنازات» (ص 110).
2 مشاركة منتدى
من أندريه مالرو إلى غادة السمان, أشواق مليباري - السعودية | 30 كانون الثاني (يناير) 2012 - 15:53 1
كنت دوماً أتساءل : مالذي سأراه في كاتبي المفضل لو التقيته؟
هل حقاً هو كما يصف نفسه، حاله، آماله، أهدافه، ماضيه وحاضره.
أم أن تلك القصص والروايات إنما هي نسيج من خيالات، وبطولات تمناها..!
أستاذتي أهنئك على أسلوبك الرائع، وعباراتك الجميلة، ومفرداتك العذبة.
شكراً لك
من أندريه مالرو إلى غادة السمان, هدى الدهان | 1 شباط (فبراير) 2012 - 01:18 2
قرأتُها مثلما قرأتِها ، كنت فتاة عشرينية و استمرت قرائتي لها لحين استنفذت كل كتبها و ثلاثينياتي . وللامانة الكتاب الاخير لم أقرأه ، من حسن حظي ؟ لااظن . لاني مقتنعة انها كبرت كما كبرتُ انا و وتغيرت كما تغيرت انا ، ففي الثالثة و الاربعين ليس كما العشرين . كبرنا و نضجنا و هدأنا ايضاً . خمدت ثورتها و استقرت واختارت لحنجرتها عقدأ لؤلؤياً من شانيل و شراباً من Renault .
انها تذكرني بكاتبة مصرية مخضرمة اعترفت مرة انها تكتب لنفسها و ما تكتبه لايجب ان تطبقه كل السيدات لان ظروفهن مختلفة ولامت على ابنتها التي درجت على نفس خطى امها وهي شابة ان تحث امراة اخرى على الثورة على وضعها فهي ان كانت تطلقت للخروج من زواج فيه ظلم لها فليس معنى هذا ان تخذو حذوها النساء لان لها مركزاً اجتماعياً يدعمها ووضع مادي ممتاز و عمل ثابت وهذا ما لايتوفر لكل من تريد ان تثور . اعجبتني ووجدتها كبيرة وعاقلة و ليست عشرينية ترفع الراية و تتنقل من كتف رجل الى اخر في مظاهرة شبابية للثورة . احسها واقعية وليست متنكرة لما كتبته . و بانتظار قراءة الكتاب اظن ان حكمي لن يتغير .