عبد الكريم عليان - فلسطين
جـنـون الـحـداثــة وسـلـطـتـهـا
شاعران من غزة نموذجا: آمال العديني وخالد جمعة
آمال العديني وخالد جمعة مثالان بارزان لشاعرين من غزة ينتميان لشعراء الحداثة الذين قفزوا على قواعد الشعر العربي، وذهبوا لأبعد من ذلك، حين تميزت أشعارهم بالغموض والفلسفة تاركين الرمزية (القريبة) وراءهم، كما تركوا القوافي والتفعيلات، إلى حد الإبهام والتعقيد والتعمية أحيانا لإرهاق الذهن، وصولا إلى حد القطيعة مع القارئ العادي والأكاديمي المتخصص، أو كما قال جون بارت: "إننا مع نصوص أدب الحداثة بحاجة إلى مرشد بسبب هذه الصعوبة الخفية." ولعل عددا ليس بقليل من شعراء الحداثة يكفرون بمبدأ التواصل عن قصد توعوي، وفي تقديري أن هذه الشعرية غير المتواصلة هي نحو من "شعرية السلب" القائمة على أن تكون العلاقة بين الفن والمجتمع علاقة سلب؛ فلا وظيفة اجتماعية إيجابية للفن، كما يؤمن ثيودور أدورنو:
"إن على الفن أن ينفي المجتمع الذي أنتج فيه. والفن الأصيل من وجهة نظره، هو الذي يقيم عالمه الخاص، من نوع الاستقلال الذاتي بنفسه بعيدا عن أي ارتباط خارجي" (1).
فشعراء الحداثة الذين يؤمنون بما يؤمن به أدورنو هم بعض هؤلاء الشعراء الذين تغيبُ قصدا جسور التواصل بينهم وبين المتلقي، والذين أسهم شعرهم كثيرا في خلق إشكالية التلقي، فكيف إذن نمدّ جسور تواصل بين شعر الحداثة وقرائه؟ وبعبارة أخرى: كيف نتلقى هذا الشعر؟
لا بد أن نعترف بعجز المناهج النقدية القديمة وطرائق التلقي التقليدية عن أن تكون صالحة للتعامل مع هذا الخطاب أو النص الشعري الحداثي، وأن ننهض بمهمة تلقيه وقراءته، فما هي الأدوات أو الأداة البديلة التي تصلح للتعامل مع هذا الشعر؟
كنت أطالع مرة في الفلسفة، فوصلت إلى فلسفة "التأويل" أو فن التأويل وأعجبني تعريف بسيط لهذا الفن، يقول: "إنه نقل النص من حالة السكون إلى حالة الحركة، أو من حالة الصمت إلى حالة النطق."
إذن القراءة التأويلية تصلح منهجا أو استراتيجية لتلقي هذا الشعر وفهمه؛ لأن شعر الحداثة العربية المعاصرة صعب ومهم ومشتت دلاليا ونصه يبدو متشظيا مليئا بالشروخ والفراغات والمساحات البيضاء التي تنتظر من يملؤها، ونص شعر الحداثة متشابك المسالك معقدها كأنه "متاهة" حسب تشبيه امبيرتو ايكو يصعب الاهتداء فيها (2). ونحن في هذه المتاهة مضطرون إلى التحسس والتلمس لأي ملمح يشير إلى الدلالة وينتجها؛ فنحن من خلال هذا أشبه بمن يحاول اقتفاء الأثر بالعثور على خيط داخل النص يقودنا إلى المعنى أو الدلالة. لهذا تبدو القراءة التأويلية هي مرشدنا في هذه المتاهة، ما لم يبتعد النص عن الشعرية الحقيقية وإيحاءاتها، مقتربا من الإلغاز والتعمية والسخف من القول.
ما يميز شعر الحداثة هو التساؤل، والقراءة التأويلية صالحة لهذا الشعر، لأن (التساؤل) أداة إبداعية مع المبدع وأداة تأويلية مع المتلقي، بل لعل التأويل يزداد تناميا مع هذا التساؤل الذي لا يبتعد عن الحيرة والارتباك اللذين ينمو التأويل (الهرمينوطيقيا) بهما، كما يقول جيفري هارتمان والذين يتولدان من القراءة التي تضع باستمرار سلسلة من علامات الاستفهام (3).
ولا بد أن نعترف بأن فن التأويل منفتح على سائر القراءات والمناهج النقدية الحديثة يتفاعل معها ويستفيد منها كما هو متعالق مع الفلسفة وبخاصة الظاهراتية، وهذا الانفتاح والتعالق يجعل حركته أكثر شمولا وعمقا. ولعل هذا الانفتاح وهذا التعالق هو ما جعله سواء مع مؤسسيه أو مع أصحاب نظرية التلقي، يبحث في سياق حفرياته عن القيم الإنسانية والجمالية في النص بعد أن غاب أو تراجع الاهتمام بهما في النقد الأيديولوجي والنفسي فيما يتعلق بالقيم الجمالية بخاصة، وفي الاتجاه الشكلاني فيما يتعلق بالقيم الإنسانية أيضا، ومن هنا وجب علينا أن ننحو بعيدا عن مدارس النقد التقليدية في قراءتنا لقصيدتين حديثتين للشاعرة آمال العديني والشاعر خالد جمعة ولنبدأ من القصيدة الأولى، وهي:
"تبّا لمن ينتشي بالافتراس" للشاعرة آمال العديني (*)
تقف أمام قصيدة حداثية بامتياز، فهي محكمة لدرجة أنها لا تحمل تاريخا يمكنك من خلاله الاستدلال على زمن القصيدة، ومن ثم معرفة ما تروم إليه هذه الشاعرة الناشئة، وأعترف أن قصيدتها دفعتني إلى التوتر والقلق ودوختني بقراءتها مرات عديدة، فالشاعرة آمال تريد أن تمتحن القارئ في وعيه باللغة وبمحيطه وثقافته وقدرته على حل لغز القصيدة، فتقوده إلى دهاليز فكرية، وعاطفية، ومتاهات دلالية كثيرة قد تدفع به لأن يترك القراءة، ويلقي بها دون عودة، وهنا يكمن سرُّ الحداثة، وما تتركه من تحد كبير للمتلقي المثقف، إن قبل التحدي فهو لن يترك القصيدة حتى يمسك بطرف الخيط الذي سيقوده إلى سبر غور المرام حتى ينتشي ويتلذذ ويتمتع بالانتصار.
ها هي شاعرتنا تخطفك من أول القصيدة بجمعها بين المتناقضات، بل المتنافرات، فتتصارع داخلك الأسئلة، كما تتصارع الكلمات والأفكار في باطن الشاعرة المتألمة عاطفتها من الظروف المحيطة بها، وبكل إنسان يعيش في غزة المكلومة التي انقلبت فيها الحياة رأسا على عقب، فهي تستحضر الماضي الكاذب المخادع لتسقطه بين الخطى المستعرة من ظهور الشمس حتى مغيبها، عسى أن تجد في الغروب التائه منارة يمكنها أن تحضر عذابات التاريخ في معزوفات موسيقية تخفف عنها الآلام.
كراتُ نار وثلج
وذاكرة خائنة تسعر الخطى
لا أواكب شمسا آتية
لا أحصي المشاعلَ في كوة الحواس
أقفز في غروب متحفظ
كأن لا منارة تحضر معزوفات العمر حواليها
آمال العديني المبدعة تظفر بنفسها من خلال محاكاتها لذاتها، ولعل محاكاة المبدع لذاته هي تطهير للمتلقي خصوصا عندما تكون هذه الذات هي المأساة الفلسطينية، وهذان المحوران (المحاكاة للمبدع، والتطهير للمتلقي) دارت عليهما آراء أرسطو في الفن، فالمحاكاة تصوير للطبيعة البشرية والعيانية، وهي عند شاعرتنا ليست تصويرا حرفيا، بل تضيف شيئا من عندها إلى الحقيقة والصدق، ليصبحا حقيقة فنية وصدقا فنيا (4)، وفي هذا ظَفرُها الكبير، أما المتلقون فإنهم يكتسبون لذة عقلية:
وحلمنا الذي قطفناه من حمى القارات
تفرده عريشة الشعر
كشرشف كونيّ
كعيد للأنبياء ينقصه خرز الطفولة
(...)
تستمر الشاعرة بمحاكاتها لذاتها ولوجدانها (الذات الفلسطينية) الممزقة وهي تفضح ذاتنا (الغزيّة) بأوهام الأمنيات وتكشف لنا زيف المقاومة العمياء/ الرصاصة الكفيفة/ والصواريخ الفاشلة/ مجانيق أجفلت الريح/ ولهونا بالموت والقتل/ لقتلانا موت يقلد ساعة رملية/ لتكشف أننا أصبحنا إمارة عابرة توهمنا فيها الأمل، لكن السماء وهما والصباح مبهما غامضا:
أوهموها أن السماء مغلولة بالأقفال
وأن الصبح لفافة تبغ تصفر ضوءا مبهما
ولما صحت أضحت ـ كقنفذ الشك
تحت أجراسها يختمر التناقص
لعل البناء الهارموني المتواصل كان جليا في قصيدتها لتصل بنا إلى الذروة في نهاية القصيدة، فهي تشبه لحظة التنوير في القصة القصيرة التقليدية، فالتفاصيل تتزاحم من أول القصيدة حتى قرب نهايتها لتجلو موقفا ما، وتبدو هذه التفاصيل في بعض الأحيان لونا من الثرثرة الحميمة المحملة بالأحاجي والأسئلة الخرساء، ثم ما يلبث كل ذلك أن يرتفع بارتفاع الذروة، ويكتسب دلالاتها بعمقها، وهنا يعود القارئ مرة ثانية على ضوء الذروة الأخيرة لكي يعيد تقدير قيمة التفاصيل الأولى:
وهم بكنه الضوء يجرون زمنا ضريرا
لأن فراشاتك الخمرية كانت تمشي على ضحى الجسد
وكنت تهيل شهقة الأقاصي من راحتك
وحين تذكرت قلت:
تبا لمن ينتشي بالافتراس
أخيرا تصل الذروة التي فيها إجابة لكل الأسئلة والتفاصيل الأولى لتكثفها في عبارة واحدة فيها دعوة بالهلاك للذين ينتشون بالافتراس، وهنا تذكرنا بحديث الفيلسوف نيتشه عن المأساة اليونانية التي نبعت من الديانة الديونيزيوشية أو عبادة (ديونيزيوس)، تلك العبادة التي تقدس النشوة وتمجد اللذة البدنية، وتؤثر الفرح، وتحيي طقوسها بالعربدة، فهي تكريم لغرائز الإنسان وتفجير لها، وليس من شأن التفجير أن يتخذ شكلا أو يلتئم في نظام، ومن هنا جاءت (الأبولونية) لكي تتوازن مع الديانة الديونيزيوسية التي من شأنها عبادة أبولو بتقديس العقل وتحترم التصميم والإحكام وتحيي طقوسها بالتأمل. إن ديونيزوس هو إله المتعة، ورمز امتلاك الفرح، ودليل الحركة المنتشية والمغامرة، أما أبولو فهو إله السلام النفسي والسكينة الروحية يوجهها المنطقي والتأمل الفلسفي ويلهم أتباعه فنون التصوير والنحت والشعر الذي تنتمي له الشاعرة آمال العديني، فندعو القارئ بعد هذا التأويل لقصيدتها بالعودة لقراءتها من جديد عسى أن ينتشي بالانتصار.
"أعتقتُها فمتُّ مرتين" للشاعر خالد جمعة (*)
أيُّ شاعر هذا الذي يموت مرتين؟ كيف يموت الشاعر ويعود ليحيا من جديد، ولا نعرف إن كان ميتا الآن أم حيّا؟ فإن كان حيا، فأي قصيدة ولدت له بعد أن مات في المرة الأخيرة؟ هل حقا يموت الشاعر بعد كل قصيدة، ويحيا مرة أخرى ليولد من جديد مع ميلاد القصيدة الجديدة؟ من هي التي أعتقها الشاعر خالد جمعة ليموت مرتين؟ هل هي روحه الشاردة؟ أم حبيبته؟ أم هي الشيء الآخر من ذاته التي يبحث عنها؟ أم هي اللغة التي ما برح الشاعر من "جوجلة" كل الأشياء فيها؟
خالد جمعة الشاعر المتمرس، والذي اقتحم عالم الحداثة مبكرا، راح أبعد من الحداثة، أو ما بعد الحداثة في قصيدته "أعتقتها فمت مرتين" وسيواجه القارئ تحديا كبيرا، ولا يوجد بصيص أمل في الإمساك بطرف الخيط الذي يقوده لفهم القصيدة، أو ما يروم له الشاعر، ليتركنا في حيرة من التأويل لنصل ما قد لا يكون في ذهنه عند ميلاد قصيدته "أعتقتها فمت مرتين." يقول موريس ميرلو-بونتي في كتاب أصل الحقيقة: "التواصل في الأدب ليس نداء بسيطا يوجهه الكاتب إلى دلالات تشكل جانبا من (هيئة) ما قبلية للفكر البشري؛ بل إن هذا التواصل هو الذي يحرض على قيامها من خلال تدريب أو نمط من السلوك المائل. إن الفكر، لدى الكاتب لا يوجهه اللغة من الخارج؛ الكاتب هو نفسه كمثل لسان جديد يتأسس." وكتب في موضع آخر: "تفاجئني كلماتي أنا نفسي، وتعلمني فكري."
أي ضرب من الجنون يصيب شاعرا بهذه الحالة؟ عندما يناقش نفسه المتعالية:
قال: أنا لا أشبه أحدا حتى صورتي في المرآة
تجيب ذاته الأخرى بسؤال آخر:
قال: أما زلت لا ترى أحدا في مرآتك؟
قال: آخر نظرة لي في المرآة خرج شبحان يعضّانِ المسافة بيني وبين المرآة
قال: رأيت العدم في علبة الكلام على الطاولة ولم تزل عاشقا؟
إن الأمل والتفاؤل لدى الشاعر يبدوان كأنهما مجرد تابعين لفكرة الذات المتعالية أو المستديمة من الناحية التجريبية، وتجريد تلك الأشياء، ويعمل بموجبها يوميا دون الرجوع إلى (الذات) من هذا القبيل، وغير ذي صلة بالموضوع إلى درجة السُّخْف، برغم كل شيء هناك فارق معقول بين الأمل، والأمل تماما مثل وجود فارق بين (الكلمة) والكلمات، وعلينا أن لا ندع الشاعر بمنأى عن الملاءمة لكونه يخلط بينهما، وكذلك يجب ألا نتساهل إزاء جعله إيّانا ننسى بأن التاريخ لا يضيع دون العمل، والقصد والمقاومة والجهد أو الصراع، وبأن واحدا من هذه الأشياء غير قابل للامتصاص الصامت من جانب الشكليات المجهرية للسلطة (سلطة المعرفة).
قال: أفرغت نفسي من نفسي لأملأها بها، ففاضت عني
قال: حكايتك حقل حنطة هرب ناطوره قبل أن تنحني حباته على سنابلها
قال: حكايتي بحار عذبتهُ اللآلئ والمسافات المبهمة بين عينيها والحقيقة
قال: وما الحقيقة؟
قال: أن تكون ما تعي أنك هو
قال: هكذا عرفت لي الجنون قبل موسمين على حافة قدر مغزول من أشعار عتيقة
قال: القدر الذي تغزله أشعار عتيقة يرتبكُ حين يحرسُ غاباتِ حُلمِها السري
قال: حلمها نار سرية وأنصافُ آلهة متروكة على ضفاف المعنى
لا تبتعد اللغة المعشوقة لدى الشاعر في صورتها عن المرأة/الحلم، الصورة المقلوبة للغة ودلالتها، فتنبجس الكلمات من ريشته بطريقة مذهلة تقارب الجنون، رغبة منه في تأسيس انطلاق جديد مطلق، وكأنه يقول: علينا أن نكون محدثين مطلقا. إنها تجربة الهذيان الشعري الموجودة لديه بوعي مثقف، هي تجربة من طبيعة لغوية تتمثل بخرق قواعد اللغة الدلالية، أي تحطيم بُنى مُقعّدة عن إحداث معنى جديد بـ "هلوسة الكلمات" كما في: غابات حلمها السري/ أنصاف آلهة/ ضفاف المعنى/ المسافات المبهمة/ كلها خلخلة للمعاني ولكل قواعد الحياة والجسد حتى يتسنى له انطلاق جديد، وبفتح قوة الرؤيا العليا، إذ يجعل من نفسه رائيا، فالشعر لديه مفهوم كطريقة لمعرفة الجسد لتؤدي به مباشرة بعد أن قطع علاقته مع الوعي إلى الجسد نفسه للغة. هذه الخلخلة لا تمرّ إلاّ من خلال التيار الباطني لـ "الجنون" في اللغة وحتى لو أن هذا الجنون حاضر ظاهريا من أجل ألا يقول شيئا ما، لكنه في الواقع حاضر ليقول شيئا ما:
قال: خيلها براري الأسئلة، وجيوشُها السكونُ الملائمُ لمذبحة ملائمة
قال: لا خيلَ لديَ ولا سكون ولا مذبحة، أنا الممسكُ بالغيابِ من ريشهِ وأحلامِهِ
قال: توحد في المعنى يأتيك الفتحُ لا لبس فيه
قال: لا معنى بلا قصب ونايات، ولا فتح يشبه اليأسَ إلا حين تموتُ الطرق
قال: طرق البصيرة أطول الطرق لكنه تعطيك حين تعطيها
قال: لا أقايض ولا أقاتل، أنا الموهوب للظلال التي سقطت دون أجسادها
قال: شمسك بعيدة كموجهة في صحراء، أقتلها لتعيش فيك
قال: إذا ماتت، ترجل المعنى عن سفح الذاكرة وانتبه الحراس الأزليون إلى زوايا روحي
إذن الشاعر هنا يقرر أن المعركة الإستبصارية أو الفلسفية للمثقف تأتيه من خلال خيول تصارع براري الأسئلة، وكأن المعرفة معركة طاحنة في هذا العصر، عصر ثورة المعلومات التي لا يستطيع الإنسان العادي أن يجاريها إلا إذا كان فارسا مغوارا، يعرف متى ينقض على عدوه، ومتى يستكين. يعود الشاعر ليقلب الصورة وتجيب ذاته الأخرى ليقول: لا خيلَ لديَ ولا سكون ولا مذبحة، أنا الممسكُ بالغيابِ من ريشهِ وأحلامِهِ/ إنه ليس كذلك فهو يعلم بالغياب من خلال تأمله وإلهامه وأحلامه لتقوده إلى البصيرة. نعم، هذا هو خالد جمعة الشاعر المنتمي للغة الشعر الراقية/ لا معنى بلا قصب ونايات/ الرائي والحكيم يؤكد أن طرق الوصول لغاية ما عن طريق العقل قد يكون طويلا، لكنه كلما كان منظما ومدربا سيكون أسرع وأسهل، ولن يتخلى الشاعر ولن يساوم على هذا الطريق، وسيبقى عليه وهو موهوب له وليس لغير سواه:
قال: تعلق بناياتك تحت ظلال قصب لا يُرى، ستأتيك الرؤيا قبل الرؤيا
قال: أنا متعب كثيرا لأصنع قمرا
قال: القمر يصنعه التعبُ، والنار يصقلُ الكلام
قال: أرقبها وهي تركض خائفة من ظلها فأخاف من ظلها عليها
قال: الظل عذابه ليله، يشنق أسئلته ويمحوه كخط طبشورة حتى يخرج الصبح من حنجرته
قال: اعتقها
قال: أعتقتها فمت مرتين
قال: اختبر نارك في روحها
قال: سأخبزُ صمتي لأعيدها إلى بداية الكلام
قال: . . .
قال: . . .
يقـول ميشيل فوكو لمجلة ماغزين ليترير: "المعرفة هي من اختصاص الفلاسفة المنعزلين في بروجهم العالية، أناس لا علاقة لهم بالواقع الخارجي، أناس محاطين برفوف الكتب والمراجع والمحابر فقط."
وخالد جمعة يؤكد تلك العزلة بشكل هزلي: قال: تعلق بناياتك تحت ظلال قصب لا يُرى، ستأتيك الرؤيا قبل الرؤيا/ كمن يقول: اذهب أنت وناياتك (كناية عن الشعر/ المعرفة) لتعش معها لوحدك ولا يراك أحد/ ظلال قصب لا يُرى/ لكنه يؤكد أن هذا التوحد مع الذات بعيدا عن المؤثرات الخارجية، سوف يكون ملائما لتأتيه الرؤيا والإلهام أسرع من التفكير، على طريقة الكهنة والرهبنة بطقوسهما.
كيف لشاعر مصاب بالهذيان أن يقرر أنه يعاني كثيرا ليصنع قمرا؟ والقمر هنا كناية عن النور وسط الظلمة الحالكة، هذا بالضبط ما يسعى له الشاعر يريد أن يصنع لنا نورا من المعرفة المسحورة بالجمال. نعم، لا يوجد أجمل من هذا التعبير الساحر للمعرفة (يصنع قمرا)، إنها قدرة عظيمة إن تحققت، ويجيب الشاعر بأن القمر يصنعه التعب، وهو ليس بالأمر اليسير في صناعة المعرفة التي تنتقل إلينا من جيل إلى جيل ومن حقبة إلى حقبة عبر الكلام (اللغة)، والتي لن تُصقَل إلا بالنار/ قال: القمر يصنعه التعبُ، والنار يصقلُ الكلام.
إن إنتاج المعرفة مخيف، ومن حق الشاعر أن يخاف كبشر، فكم من عالم وفيلسوف قتل أو سجن، أو أعتبر مجنونا، أو منبوذا في مجتمعه لمجرد وصوله إلى حقيقة أو معرفة جديدة؟ فحتى عهد قريب قتل أحد المفكرين الكبار في مصر نتيجة توصله لـ (الحقيقة الغائبة)، والعديد من المفكرين ما زالوا مضطهدين في أيامنا هذه، فها هو شاعرنا خائف من انتشار كلماته وأشعاره:
قال: أرقبها وهي تركض خائفة من ظلها فأخاف من ظلها عليها
هنا تعبير عن الخوف عند ميلاد القصيدة. يقول جاك دريدا: "إذا كانت الكتابة خطيرة وباعثة على الانحسار والقلق؛ فلأنها "بدئية" لا تعرف أين تمضي، وما من حكمة تمنعها من الاستعمال الجوهري في اتجاه المعنى الذي تؤسسه هي، والذي هو (الشاعر) مستقبلها أولا، لكنها تكون نزقة إلا بفعل جبن، لا ضمانة لها إذن ضد هذه الخطورة."
شاعرة جربت الأمومة أكدت لي أن القصيدة عندما تولد لديها، بالضبط كما المولود لدى المرأة عندما تكون حاملا، وعندما تكون في حالة مخاض مؤلم، والخوف أكثر على وليدها بعد الميلاد، ربما لا يشعر بذلك الرجل/الشاعر، أو لم يجرب أو يحس مثلما تجرب المرأة في حالة الميلاد.
خالد جمعة الشاعر في ختام قصيدته يقول:
قال: أعتقتها فمت مرتين
قال: اختبر نارك في روحها
قال: سأخبزُ صمتي لأعيدها إلى بداية الكلام
إنه سرح قصيدته، فمات مرتين، كما أشرنا في البداية. إنه سيموت بعد ميلاد القصيدة ويحيا من جديد عند بدء تدشينه لقصيدة جديدة، وحتى بدء ذلك سيبقى يخبز صمته وسكونه حتى ينضج الكلام لديه من جديد.
إن شاعرينا الحداثيين يسيران على نهج مؤسسي الحداثة وفلاسفتها من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعباس محمود لعقاد وأدونيس إلى ميشيل فوكو وجل ديلوز وجاك دريدا وآخرون.
يقول ميشيل فوكو في مقابلة مع النوفيل أوبسرفاتور بتاريخ 12 آذار/مارس 1977: "أحلم بالمثقف هدّام القناعات والبديهيات العمومية. أحلم بالمثقف الذي يستكشف في عطالة الحاضر وإكراهاته نقاط الضعف والشقوق وخطوط القوة. أحلم بالمثقف الذي يتحرك باستمرار دون توقف. غير عارف أين سيصبح غدا. لأنه شديد الالتصاق بالحاضر."
ويقول أدونيس: "لا يستطيع الشاعر أن يبني مفهوما شعريا جديدا إلا إذا عانى في داخله انهيار المفاهيم السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر إذا لم يكن عاش التجدد، فصفا من التقليدية، وانفتحت في أعماقه الشقوق والمهاوي التي تتردد فيها نداءات الحياة الجديدة. فمن المستحيل الدخول في العالم الآخر، الكامن وراء العالم الذي نثور عليه، دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع النقي" (5).
وأختتم بقول العقاد في نقده لأمير الشعراء، أحمد شوقي: "إن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها. وإن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو؛ يكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به" (6).
= = =
الهوامش والمراجع
(*) القصيدتان منشورتان ضمن ملف الشعر في مجلة عشتار، العددان 11-12 (2009). ص 8-17، غزة 2009.
1. أبو أحمد، حامد. الخطاب والقارئ، ط 1، الرياض، 1996.
2. القعود، عبد الرحمن محمد. "الإبهام في شعر الحداثة،" سلسلة عالم المعرفة، العدد 279، الكويت: 2002.
3. نصر، عاطف جودة. النص الشعري ومشكلات التفسير، مكتبة الشباب 1989.
4. أرسطو. الشعر، ص 18، ترجمة عبد الرحمن بدوي.
5. أدونيس. زمن الشعر، دار العودة، بيروت: 1972، ص 49-50.
6. العقاد، عباس محمود. الديوان، ص 20.
◄ عبد الكريم عليان
▼ موضوعاتي